السلفية الجهادية والثورات

 

لماذا تدهور اقتصادا مصر وتونس بعد الثورات؟

رصاصات ونشرات.. كتاب عن الإعلام والربيع العربي

الدولة المدنية.. هل تشكل نقيضا للدولة الإسلامية؟

واشنطن تايمز تحمّل أوباما ما آل إليه الربيع العربي

صحيفة: مصر والأردن يستعينان بإسرائيل أمنيا وسياسيا

توشك الثورات في بعض البلدان العربية أن تتمحض صراعا وجوديا بين دكتاتوريات عسكرية ترفض الديمقراطية، وسلفية جهادية تُكفِّر الديمقراطية. وهو ما ينذر بخطر داهم، قد تتيه في غمرته الثورات، وتضيع التضحيات. لقد خرَّجت السلفية الجهادية أشجع المقاتلين في الربيع العربي، وأسوأ السياسيين في هذا الربيع. وليتها كانت انشغلتْ بما تتقنه من القتال، وتركتْ ما لا تتقنه من السياسة. لكنها لم تفعل ذلك بكل أسف. ورغم ما اتسم به السلفيون الجهاديون من صلابة في ساحة الحرب ضد الاستبداد، فإن تضحياتهم تُخفي تحت برقعها الشفاف سطحيةً فكرية، وبلاهةً سياسية، وقتامةً أخلاقية.

 

منذ بضعة أعوام نشر صديقي، المفكر الإستراتيجي المصري الشاب وائل عادل، مقالا لطيفا بعنوان "خديعة التضحية". وفي المقال كتب وائل إن "خديعة التضحية تجعلنا أحياناً نمنح ثقتنا لأولئك الذين ضحوا كثيراً في حياتهم من أجل المبادئ والأفكار، بحجة أنهم أمناء على المبادئ". لكن منح الثقة بهذه الطريقة الاعتباطية قد لا يكون أمرا حكيما في رأي الكاتب، بل قد يكون ذلك تضحية منا بعقولنا، ذلك أن هناك "تضحيات يحتذى بها" و"تضحيات كارثية"، و"بين التضحية الهدامة والبناءة شعرة" يعسر على الكثيرين تبينها.

 

المجاهد ليس فوق النقد، والواجب بيان خطئه إذا أخطأ، والتبرؤ من فعله إذا أساء.

وللتعاطي مع هذا الأمر المثير للالتباس، يرى وائل عادل أن علينا أن "نقف بالمرصاد لتلك الأفكار التي تريد أن تخترق عقولنا على رماح التضحية. مهما كان سحر الفكرة سنحتجزها، وننقِّيها مما اختلط بها من عرَق البذل ودم الفداء، لننظر إليها عارية مجردة من ملابس الخديعة... فكم من أفكار قاتلة انتشرت رغم سوئها وقلة فاعليتها، والسبب هو تضحية حمَلَتها". ذلك أن التضحية قد تكون أحيانا "هي الباروكة الشقراء التي تغطي صلعة القرارات الخاطئة، فتفتن الناس محاوِلةً التلاعب بعقولهم.. ودور مزلزلي العقول هو نزع تلك الباروكة وإظهار ما تخبئه التضحيات الخداعة من مثالب".

 

تذكرتُ كلمات الأستاذ وائل عادل العميقة، وأنا أتأمل مصائر الثورات العربية التي تصدرت الجماعات السلفية الجهادية ساحتها. وليس من ريب أن الكثير من تضحيات السلفية الجهادية ينطبق عليها هذا التشخيص البديع، فهي تضحيات خداعة، لأنها تخبِّئ تحت بريقها قرارات سياسية حمقاء، وخيارات إستراتيجية مُهلكة، وتجاوزت أخلاقية كثيرة. وقد يتحرج بعض المسلمين من نقد مجاهدين يضعون أراواحهم على خط النار في لحظة استباحة للأمة وامتهان لدينها وكرامتها، فأفراد هذه التنظيمات من الإيمان برسالتهم والتضحية في سبيلها ما يجعل نقدهم صعبا على بعض الضمائر المسلمة.

 

ونحن لا نتفق مع هؤلاء المتحرجين. فقد واجه المسلمون في العصر النبوي والخلافة الراشدة هذه المعضلة الأخلاقية المتمثلة في أخطاء وخطايا ارتكبها مجاهدون، لهم مكانتهم في الإسلام، ونكايتهم في أعدائه. وكان العلاج النبوي لذلك واضحا لا لبس فيه، وهو عدم السكوت على تلك الأخطاء والخطايا، ولا تسويغها بحجة أن صاحبها مجاهد في سبيل الله. 

 

ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء وقال "اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد" ثلاثا، وذلك حينما ترخَّص خالد في قتل قوم بعد إسلامهم واستسلامهم لجيشه. وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من هذا التجاوز، وصححه بدفع ديات القتلى، فعلَّمنا بذلك الموقف درسا بليغا، هو ضرورة الوضوح الأخلاقي في قضايا الحرب والقتال، رغم صعوبة ذلك ودقة مسالكه. فالمجاهد ليس فوق النقد، والواجب بيان خطئه إذا أخطأ، والتبرؤ من فعله إذا أساء. وكونه يحمل همَّ الدفاع عن الأمة، ويستعد للتضحية في سبيل ذلك، لا يمنع من تسديد سهام النقد إليه وإدانته، حين يتجاوز قيم الإسلام في الحرب والقتال. 

 

لقد كان في وسع السلفية الجهادية أن تكون طليعة الربيع العربي، وقوَّته الضاربة، لو كانت رحمت العباد، وتواضعت لربِّ العباد، لكنها تحولت عبئاً ثقيلا على الثورات وعلى الشعوب، بسبب ضيق أفقها الشرعي والسياسي. 

 

ويمكن إجمال الأعباء التي جلبتها السلفية الجهادية للثورات العربية في ثلاثة:

أولا: قاومت جماعات السلفية الجهادية الاستبداد عمليا، لكنها ظلت تسوّغه نظريا. فلا تفتأ أدبيات هذه الجماعات تكفِّر الديمقراطية، وتشكك في حكم الشعب، وتطعن في حكم الأغلبية. والسؤال هو: إذا كانت الديمقراطية كفراً فهل الاستبداد إيمان؟ وإذا كانت الأغلبية قد تخطئ فهل الحاكم الفرد معصوم من الخطأ؟

 

ولو كانت هذه الجماعات تفقه القيم السياسية الإسلامية، أو تفهم معنى الديمقراطية، لأدركت أن الديمقراطية تطبيقٌ للشق الدستوري من الشريعة. صحيح أن الدولة قد تكون ديمقراطية وغير إسلامية في مرجعيتها، لكنها لا يمكن أن تكون إسلامية وغير ديمقراطية، لسبب بسيط وهو أن الديمقراطية توافق مجمل القيم السياسية الإسلامية ذات الصلة ببناء السلطة وتداولها، وكل من يقاوم الاستبداد ويعادي الديمقراطية في الوقت ذاته فهو يخوض حربا عبثية. فلا بديل للاستبداد في الدول الإسلامية اليوم سوى الديمقراطية، وإنما يجب أن ينصبَّ الجهد على جعلها ديمقراطية بمرجعية أخلاقية وتشريعية إسلامية. 

 

ثانيا: فرَّقت السلفية الجهادية صفوف الثورات بشططها الأديولوجي، فهي تنزع إلى التمزيق والتصنيف داخل القوى الإسلامية التي تشترك معها في الجذر الثقافي والخيار السياسي، فما بالك في تعاملها مع القوى العلمانية، ومع المواطنين غير المسلمين. إن الثورات بطبيعتها حلف أخلاقي يسعى لرفع الظلم عن الجميع، تماما مثل حلف الفضول الذي تأسس على مبدأ "أن لا يُظلَم بمكة أحد." وليست الثورات تيارا أديولوجيا من مزاج فكري واحد، بل هي لا تقوم لها قائمة إلا بكتلة بشرية ضخمة من مختلف المشارب والمذاهب. فإذا دخلت الأديولوجيا ساحة الثورات أفسدتها ومزقت صفها. وهذا ما حدث مع بعض الثورات العربية اليوم بعد أن حولتها السلفية الجهادية إلى مِلل ونِحل وراياتٍ وفصائل لا حصر لها، وملأت ساحتها بالحِجاج العقائدي واللَّجاج الأديولوجي الذي لا تترتب عليه ثمرة عملية. 

 

إن الثورات بطبيعتها حلف أخلاقي يسعى لرفع الظلم عن الجميع، تماما مثل حلف الفضول الذي تأسس على مبدأ "أن لا يُظلَم بمكة أحد".

ثالثا: تحكمت في السلفية الجهادية ذاكرة تاريخية بعيدة عن الواقع التاريخي، فضلا عن الواقع المعيش اليوم، فهي تعيش فقرا مدقعا في الوعي بالزمان والمكان والإمكان، ولا تحاكم الوقائع اليوم بنصوص الشرع وقيَمه الكلية، بل بصور تاريخية، وفهومات فقهية، كانت في جلها تراجعا عن قيم الإسلام السياسية، وتكيُّفا مع واقع الدولة السلطانية القهرية في تاريخ المسلمين. وهي تَعِد الناس بعودة الخلافة، لكنها لا تملك أفقا أخلاقيا أو فكريا يتجاوز التجربة السلطانية في تاريخ المسلمين، وهي تجربة بعيدة جدا عن معايير إسلامية الدولة كما تنطق بها نصوص الوحي. فالسلفية الجهادية ترفض الاستبداد المعاصر، لكنها تسعى إلى بناء استبداد قديم، وكأن المستبد اليوم إذا نزع الخوذة وارتدى العمامة أصبح حاكما شرعيا وخليفة راشدا!! 

 

ومهما يكن من أمر فإن جماعات السلفية الجهادية تبدو اليوم على مفترق طريق: فهي إما أن تتحول إلى حركة تحرير أكثر انفتاحا وتسامحا، وأكثر تخففا من الخطاب التكفيري المفرِّق الممزِّق، ثم تندمج في حركة الشعوب الساعية إلى الحرية والديمقراطية، وتحصر حربها في جبهات ضيقة واضحة كل الوضوح من الناحيتين الأخلاقية والسياسية. وإما أن تنتحر على أعتاب العدمية، فلا يبقى منها سوى ظلال باهتة لرواية مرعبة، بعد أن تترك وراءها حرائق في كل أصقاع الأرض، سيكلِّف إطفاؤها الشعوب العربية والأمة الإسلامية الكثير من الدماء والدموع.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين