شهر ربيع الأول وحكم الاحتفال بالمولد النبوي

 

أما شهر ربيع الأول، فلم يرد في خصوصه قرآن ولا سنة، ولم يطلب الشارع فيه من المسلم عملاً خاصًّا.

لكن لا ريب أننا من الناحية العاطفية نحبُّ شهر ربيع الأول؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ولد فيه، والأزمنة كالأمكنة تشرف بما يقع فيها من أحداث عظام. ولهذا شرف رمضان وشرفت ليلة القدر؛ لنزول القرآن فيهما.

وميلاد محمد صلى الله عليه وسلم من الأحداث العظام، ولكن الشارع لم يربط به عملاً ولا تكليفًا من أيِّ نوع كان.

حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم:

وهنا تثور قضية يتساءل كثير من الناس عن حكمها، ويختلفون في الجواب عنها، وهي قضية الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد انتشر الاحتفال به في القرون الأخيرة، وألفوا لذلك كتبًا مسجوعة متكلَّفة تحكي قصة حمله وولادته صلى الله عليه وسلم، وما قبل ذلك إلى حدٍّ جعلوه أول ما خلق الله! مع أنه لم يصحَّ حديث قط في تحديد أول ما خلق الله، مع أن ما ورد فيها ليس فيه: أول ما خلق الله نور محمد عليه الصلاة والسلام. بل فيه: " أول ما خلق الله العقل"[1]، و"أول ما خلق الله القلم"[2].

وقد استدل بعضهم للاحتفال بالمولد بقوله صلى الله عليه وسلم، عن يوم الاثنين: " ذلك يوم ولدت فيه" فكأنَّ صيامه كان تذكيرا بهذه النعمة كما صام اليهود يوم عاشوراء، وسألهم الرسول عن سبب ذلك، فقالوا: هذا يوم نجَّى الله فيه موسى وبني إسرائيل، فقال: "نحن أوْلى بموسى منكم" وصامه وأمر بصيامه".

وللحافظ السيوطي فتوى في الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم، سمَّاها:" حسن المقصد في عمل المولد" ضمنها كتابه " الحاوي للفتاوي".

قال فيها: ( أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وما وقع في مولده من الآيات، ثم يمد لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك ، هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف.

قال : وقد ادَّعى الشيخ تاج الدين عمر بن علي اللخمي السكندري المشهور بالفاكهاني من متأخري المالكية أن عمل المولد بدعة مذمومة، وألف في ذلك كتابا سماه: " المورد في الكلام على عمل المولد" ، وأنا أسوقه هنا برمَّته وأتكلم عليه حرفا حرفا.

وبعد أن ساق رسالة الفاكهاني وناقشه قال : وقد تكلم الإمام أبو عبد الله بن الحاج في كتابه "المدخل" على عمل المولد، فأتقن الكلام فيه جدا، وحاصله: مدح ما كان فيه من إظهار شعار وشكر، وذم ما احتوى عليه من محرمات ومنكرات، وساق كلامه. ثم قال: وقد سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل ابن حجر عن عمل المولد، فأجاب بما نصه: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرَّى في عملها المحاسن، وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا.

 قال- أي الحافظ ابن حجر-: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما ثبت في الصحيحين من «أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجَّى موسى فنحن نصومه شكرا لله تعالى»، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما منَّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي، نبي الرحمة في ذلك اليوم. وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة، وفيه ما فيه. فهذا ما يتعلق بأصل عمله.

وأما ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى، من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة، وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة، وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك، فينبغي أن يقال: ما كان من ذلك مباحا بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم، لا بأس بإلحاقه به، وما كان حراما أو مكروها فيمنع، وكذا ما كان خلاف الأولى. انتهى.

قال السيوطي : "وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر، وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عقَّ عن نفسه بعد النبوة» مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عقَّ عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم، إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين، وتشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه لذلك، فيستحب لنا أيضا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع، وإطعام الطعام، ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات"[3]

وقد اختلف الناس في عصرنا حول الاحتفال بالمولد النبوي، ما بين مؤيدين على طول الخط، ومعارضين على طول الخط.

وألِّفت في ذلك رسائل، منها للعلاَّمة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ المفتي الأكبر للمملكة العربية السعودية رحمه الله، ومنها للعلامة الشيخ عبد الله بن زيد المحمود رئيس المحاكم الشرعية في قطر.

والذي يترجح لي: أنه لا مانع من الاحتفال بهذه الذكرى، بالحديث عن هذه السيرة العاطرة، والحياة النبويَّة الحافلة بالإيمان والدعوة والجهاد، والتعريف بهذه الشخصية، التي جعلها الله أسوة للمؤمنين، ورحمة للعالمين، والتعريف برسالته العالمية الخالدة وما أودعها الله من أصول وشرائع وقيم، تهدي للتي هي أقوم، وتخرج الناس من الظلمات إلى النور، وتقيم عدلَ الله في أرض الله. فهذا ما لا ينبغي أن يعاب، ولا ينبغي أن يدخل هذا في البدع الدينية؛ لأنه ليس من العبادات، وإنما هو من الوسائل والآليات التي يبتكرها الناس لتقوية الإيمان، وربط الناس بالدين.

--------------

[1]2- رواه الطبراني في الأوسط (7/190)، وقال العراقي في تخريج الإحياء(1/51): أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي أمامة، وأبو نعيم من حديث عائشة بإسنادين ضعيفين، وفي كشف الخفاء (1/274)، قال السخاوي والسيوطي: رواه ابن أحمد في زوائد الزهد عن الحسن يرفعه، وهو مرسل جيد الإسناد ولا يلزم من رواية ابن المحبر أن يكون موضوعا لاسيما وقد رواه الأئمة بغير إسناد ابن المحبر فليس الحديث بموضوع. وقال الحافظ ابن حجر: والوارد في أول ما خلق الله حديث أول ما خلق الله القلم وهو أثبت من حديث العقل. وحاول الجمع بينهما البيضاوي في طوالعه، بأن قال: يشبه أن يكون هو العقل، لقوله: أول ما خلق الله القلم، فقال له: أكتب - الحديث فليتأمل. ويمكن أن يقال: الأولية فيهما نسبية، وقال قبيل ذلك: إن العقول عند الحكماء أول المخلوقات، وأن العقل عندهم أعظم الملائكة وأول المبدعات.

[2]-.رواه الترمذي في القدر(2155)، والطيالسي في مسنده (1/79)، وابن أبي شيبة في مصنفه (7/264)، والبيهقي في الشهادات (20664)،  وصححه الألباني في الجامع الصغير(3780)،عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

[3] - حسن المقصد ، ضمن الحاوي للفتاوي ، للسيوطي  ( 1 /221)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين