الدرس الأخير في سوريا

 

مما لا شك فيه أن أمريكا تدير المشهد في سوريا فهي وحدها من تسمح للاعبين بالدخول ضمن هذا الحقل الذي اعدته كمصيدة جهنمية لعدد كبير من الأعداء، يظهر هذا جلياً من خلال السياسة التي اتبعتها أمريكا وحلفاؤها الأوربيون تجاه الثورة السورية 

وهي أن تبقى في حالة من المد والجزر  . 

فما أن يتقدم النظام حتى تدعم المعارضة، وعندما تتسع المساحة التي تسيطر عليها المعارضة توقف الدعم . 

 

لكن عندما تدخلت روسيا فعلياً إلى جانب الأسد تغيرت سياسة الدعم الامريكية للثوار كأنهم يريدون أن تتورط أكثر في الوحل السوري.

 

في الحقيقة تعتبر هذه الطريقة من الأساليب التقليدية في السياسة الأمريكية حيال التطورات التي تطرأ دون مساهمة أمريكية في حدوثها . 

 

يقول مسؤول محطة الاستخبارات الأمريكية في أندونيسيا -إبان الحرب الأهلية التي التي راح ضحيتها ما بين خمسمئة إلى مليون شخص-:  "نحن لم نصنع الامواج لكننا ركبنا الأمواج حتى الشاطئ" أي أنهم وجدوا من الثورة السورية ساحة لتصفية خصومهم من خلال التمهيد كي يدخل الخصوم في حرب مدمرة فيما بينهم على الأرض السورية وبتمويل عربي ودعم إقليمي.

 

ستة أطرف هم اللاعبون الأساسيون الذين كانت أمريكا وحلفاؤها الأوربيون يراقبون دخولهم في المشهد السوري، بل كانوا يصنعون شروط تدّخلهم في حلبة الصراع الجهنمية وهم  : 

إيران وأذرعها، تركيا والحركات الإنفصالية، العرب وعدوى الربيع، روسيا وحلم العودة ، القاعدة ومشتقاتها ، والثورة السورية ساحة الصراع.

 

الأول إيران وأذرعها:

يعتبر نظام بشار الأسد حليف استراتيجي لنظام الملالي، وإيران التي تمكنت من السيطرة فعلياً على ثلاث عواصم عربية هي بغداد وبيروت وصنعاء؛ كانت تعتبر دمشق مسبقاً ضمن المشروع الإيراني حتى قبل أن تسيطر على هذه العواصم الثلاث، تنبع أهمية دمشق الفريدة بالنسبة لإيران من موقعها الجغرافي؛ كونها معبر للسلاح الذي تقدمها لذراعها في لبنان "حزب الله"  أي سيطرة إيران لن تكون متحققة في لبنان مالم تتمكن إيران من السيطرة على دمشق، ودمشق بنفس الوقت ترتبط باتفاقية هدنة مع إسرائيل وكذلك لبنان وهذه اضافة مهمة

وورقة تحتاجها إيران في مناكفاتها مع المجتمع الدولي؛ لذلك كانت تعليمات المرشد الإيراني هي دعم نظام الأسد حتى لو كلّف ذلك مليون قتيل من القوات الإيرانية، وقامت باستجلاب مليشيات طائفية للقتال إلى جانب الأسد لحمايته من السقوط.

أمريكا تعتبر إيران الشيعية عدوا لكنها لا ترغب في القضاء عليها، لوجودها في منطقة تشكل السنة فيها الغالبية المطلقة، وفي ظل غياب العدو الشيعي سوف يتجه العرب حكماً تجاه العدو الإسرائيلي؛ أي وجود إيران الشيعية الطائفية مهم بالنسبة لأمريكا وحلفائها الأوربيين، وإيران تدرك ذلك تماما؛ لذلك تصب كل جهودها لإشعال الفتن الطائفية في المنطقة، وتقسيم العرب بين سني و شيعي كي تضمن بذلك بقاء مشروعها. 

 

وأحياناً تستخدم بعض أذرعها لمناكفات أمريكا  كما يفعل ذلك حزب الله، هي فقط إشارات من إيران أننا قادرون على خلط الأوراق وأزعاج إسرائيل عندما نقرر ذلك، بل أن إيران فعلت أكثر من ذلك عندما احتلت القوات الأمريكية العراق، سمحت عن طريق وكيلها في دمشق وبتحريض منه بدخول المجاهدين العرب وغيرهم من بقايا القاعدة إلى العراق واستهداف القوات الامريكية، في الحقيقة نجحت إيران بمساعدة النظام السوري وبدماء المجاهدين الإسلامين السنة بإخراج القوات الامريكية من العراق، كما نجحت أمريكا في السابق بإخراج القوات السوفيتية من أفغانستان بالاموال العربية والدماء الاسلامية ؛ أي أنهُ قد تكون لروسيا يد في تحريض النظام السوري ومساندته في تلك العملية أنتقاماً لما كابده الروس في أفغانستان.

جاءت الثورة السورية فرصة ذهبية لأمريكا التي أتاحت لها إمكانية استنزاف إيران وإضعافها، والمهم بالنسبة للامريكان كان البرنامج النووي الإيراني الذي انتهى بالاتفاق المعروف . 

 

ثانياً تركيا والحركات الانفصالية: 

في العلاقة بين تركيا والغرب يجب أن نفرق بين تركيا الدولة العضو في الناتو والموقع الجغرافي وتركيا حكومة العدالة والتنمية، فتركيا الاولى مهمة جداً بالنسبة للغرب وهي حليف استراتيجي لا يمكن بحال من الأحوال التخلي عنه؛ فهي عضو الناتو الذي يفصله البحر الأسود عن روسيا وتمتلك ثاني أكبر جيش فيه، أما تركيا العدالة والتنمية فهي غير مرغوب بها في النادي الغربي لأسباب عدة منها محاولة الحكومة الحالية في تركيا تعزيز الثقافة الحضارية للمجتمع التركي، وتقوية إستقلالية القرار الوطني وإيجاد بدائل متنوعة في الشركاء الدوليين؛ لذا كان من المهم أن تستمر المأساة السورية حتى تغرق تركيا في دائرة الصراع على حدودها الجنوبية، وعندما حاولت تركيا النأي بنفسها عن التدخل المباشر، فإنه في ذات الوقت الذي منعت أمريكا فيه تركيا من إقامة منطقة أمنه تحت غطاء التحالف، قامت أمريكا بدعم فرع العمال الكردستاني في سوريا والمتمثل بالاتحاد الديمقراطي وملحقاته من قوات حماية الشعب و قوات سورية الديمقراطية، وعملت تلك القوات بدعم أمريكا وتحالف مع نظام الأسد على أنشاء شريط حدودي يبدأ من المالكية ويمتد إلى عفرين وصولاً إلى البحر المتوسط، الامر الذي هدد الأمن القومي التركي ودفعها للتدخل لمنع حدوث ذلك من خلال عملية درع الفرات.

 

ثالثاً العرب: 

قسم كبير من الدول العربية لم تكن ترغب في نجاح الربيع العربي خوفاً من امتداده لدولها؛ لذلك عملت في البداية على مواجهته وإفشاله، لكن الوضع في سوريا كان مختلفاً قليلاً لأنها منطقة نزاع بين بعض الدول الخليجية وإيران، إلا أن الاتباط العضوي بين تلك الدول وأمريكا جعلها تعمل تماماً وفق الرؤية الامريكية الهادفة إلى إطالة الصراع إلى أطول مدة ممكنة، الأمر الذي انعكس بالسلب على تلك الدول، وانتقل الصراع مع إيران إلى الحدود السعودية في اليمن، وإذا تمكنت إيران من حسم الوضع في سوريا لصالحها فمن المتوقع أن تكون قوات الحشد الشعبي العراقي الذراع الإيرانية الجديدة في العراق هي الطرف الأخر للكماشة الشيعية التي سوف تستهدف العربية السعودية في المرحلة الاولى.

 

رابعاً روسيا:

روسيا الطامحة إلى لعب دور قيادي موازي لما تقوم به أمريكا وجدت من الثورة السورية فرصة سانحة؛ كي تبرهن للعالم أنها قادرة على أن تفعل ما تريد دون خشية من أحد، إلى جانب الأهمية الاستراتيجية لسوريا في الحسابات الروسية فهي تعمل على تعزيز عودتها إلى الشرق الأوسط من خلال سوريا كخطوة أولى، قد يكون لها ما بعدها في كل من مصر وليبيا؛ لذلك فهي تعمل على صياغة علاقات قوية مع أهم دولتين في المنطقة وهما إيران وتركيا، لذلك قد نرى في قادم الأيام أن تنحو روسيا إلى تحييد  الغرب من المعادلة السورية من خلال العمل على صياغة حل سياسي بالتعاون مع كل من تركيا وإيران، لذلك كانت روسيا تعربد في حلب وترتكب المجازر دون أي خشية من أي رادع، إلا أن عامل الوقت الذي تراهن عليه أمريكا في استنزاف روسيا في سوريا من خلال إشغالها في حرب طويلة الامد، لن يكون في مصلحة روسيا.

 

خامساً القاعدة ومشتقاتها:

فشل مشروع الجهاد الذي تمثله القاعدة في كل من أفغانستان والعراق لم يجعلها تعيد حساباتها، بل على العكس تماما نقلت تجارب الفشل إلى الثورة السورية وساعدت نظام الأسد الذي يعرف تماما كيف يتعامل مع ملف مجاهدي السلفية الجهادية، بتحويل الثورة السورية من ثورة الحرية والكرامة إلى صراع مؤدلج يحمل شعارات عابرة للحدود، وهذا الأمر لا يعجب الغرب كما أنها قامت باستهداف جميع المخالفين في الداخل السوري ومنها أطراف بدأت أمريكا تتعامل معها، وتزودها بالسلاح بشكل تدريجي، وهذه لعَمرُكَ مفارقٌ عجيبةٌ، فعندما كانت أمريكا تتعامل مع القاعدة وتزودها بالسلاح في أفغانستان لمواجهة الروس، كان ذلك جائزاً، أما عندما دب الخلاف غير القابل للإصلاح بين أمريكا و القاعدة أصبح التعامل مع الأمريكان خيانة، ولاننسى أن هناك من المشايخ المعتبرين لديها تحوم حولهم شبهة مشايخ استخبارات، في حقيقة الامر فتاوى هؤلاء المشايخ ساعدت في تأجيج الصراع الدموي الدائر بين الدولة الاسلامية وبقية الفصائل والتي منها جبهة فتح الشام؛ و هذا الذي حدث كان أقصى مايحلم به نظام الأسد أي أن القاعدة بهذا النهج المتكرر هي توجد من داخلها أسباب فشلها وتدمر المشاريع التي تتبناها مع الحلفاء.

بقي أن نشير أن الخطوة التي أعلنت عنها فتح الشام المسمى الجديد لجبهة النصرة، انفصالها عن القاعدة والذي جاء متأخراً جدا وغير مكتمل؛ ونقصد تخليها عن المنهج القاعدي وتبنيها لعلم الثورة وأهدافها، يثبت العبثية في النهج وعدم الاستفادة من أخطاء التجارب السابقة.

وجود القاعدة وجبهة النصرة في سوريا يخدم تماماً توجه الادارة الامريكية، التي ترغب في تجميع جميع المشاغبين في مساحة ممتدة من الموصل الى الرقة، وهذه المساحة جفرافياً عبارة عن سهول منبسطة تغيب عنها التضاريس الجبلية، الأمر الذي يسهل عملية القضاء عليهم عندما تنتهي مهمتهم حسب الحسابات الامريكية .

 

سادساً  :  الثورة السورية

هي الأرض التي تم فيها تنفيذ جميع تلك المشاريع، وتحدث على أرضها وعلى حساب دماء أبنائها ومستقبل وجود الوطن السوري؛ الذي أصبح عبارة عن ريشة في مهب صراع دولي.

ما كان لذلك أن يحدث لو كان أبناء الثورة من جماعات سياسية وعسكرية ونخب فكرية، انتبهت لكل تلك التداخلات التي بدأت بدخول ساحة الثورة السورية بشكل متدرج، بل على العكس تماما ساهمت سياسة المعارضة العسكرية والسياسية في تسهيل تلك التداخلات.

اليوم وبدون مشروع وطني جامع بمبادرة وطنية سورية، وبدعم تركي عربي؛ فإن الثورة سوف تتحول إلى بقايا جيوب غير مؤثرة تجاه الوجود الروسي الإيراني، كما أن سيطرة  إيران الشيعية على سوريا سيكون له ما بعده، وهذه المرة وبعد أن تنتهي معركة الموصل والرقة تكون وجهة قوات الحشد الشعبي حسب تصريحات بعض مَسؤوليها المملكة العربية السعودية كخطوة في اتجاه الهيمنة  على الخليج العربي، أما تركيا فسيطرة إيران على سوريا تعني إضعاف تركيا المنافس الوحيد لها في المنطقة، من خلال دعم العمال الكردستاني في كل من سوريا والعراق.

 

بقي أن نقول: إن أمريكا التي خلقت الأجواء المناسبة لدخول كل هؤلاء المتصارعين الى الأرض السورية؛ من خلال العمل على إطالة عمر الثورة، قد تفشل في هذه الاستراتيجية إذا تمكن الروس والأتراك من صياغة حل سياسي للازمة السورية يرضي أطرف النزاع بمعزل عن الإدارة الامريكية، خصوصاً أن سياسة الرئيس الامريكي المنتخب ترامب غير واضحة تجاه المنطقة.  

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين