الفاتح الذي اشتقنا لعودة أيامه (8)

 

الترتيبات الإدارية التي أجراها السلطان الفاتح في القسطنطينية لإصلاح شئونها

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ، ومن تبع هداه إلى يوم الدين .. وبعد ..

فإن السلطان الفاتح لما فرغ من احتفالاته بالقسطنطينية عاصمته الجديدة عين القائد سليمان بك أميرا عليها ( وقيل إن تعيينه كان بعد الفراغ من صلاة الجمعة الأولى 23 جمادى الأولى ).

وكلف السلطان الفاتح سليمان بك بأمور ثلاثة :

ـ الأمر الأول : هو أن يقوم بإعادة تعمير المدينة التي خُرّب أكثرها خلال حكم الأباطرة لتكون عاصمة تليق بعظمة الدولة العثمانية سيدة الدول في هذا العصر ، وأن يسرع بترميم أسوار المدينة التي دُمر أكثرها وقت الفتح .

ـ الأمر الثاني : هو أن يحض الناس وخاصة أصحاب المهن والحرف والنابغين على الهجرة إلى المدينة .

ـ الأمر الثالث : هو أن يعمل على أسلمة المدينة بتكثيف وسائل نشر الإسلام بها ، وجمع الدعاة المهرة من أرجاء العالم الإسلامي للاستعانة بهم في هذا الأمر ، ثم بجلب كثير من الأسر المسلمة إليها من الأناضول ليرفع كثافة السكان المسلمين بها .  

فأرسل سليمان بك أولا رسله ينادون في الناس الذين فروا من المدينة بأن يعودوا آمنين إلى أموالهم وديارهم وبساتينهم ، من خرجوا وقت الفتح أو قبله سواء ..

ثم عين السلطان العالم الشهير  جلال زاده خضر بك في منصب القضاء  ، هذا الرجل الذي كان يعد أشهر مؤرخي الدولة العثمانية وعلمائها الممتازين في عصره ، عمل قاضيا في بورصا ومدرساً في المدارس الشرعية ، وكان له إسهام كبير في تنشئة العديد من المثقفين العثمانيين، أصحاب المناصب العالية  ، وكان على قدر تفوقه في العلم متفوقاً أيضاً في سجاياه الأخلاقية وحرصه الشديد على تحقيق العدل ،  وهناك رواية  تشير إلى أن السلطان احتكم إليه ذات يوم مع بعض الرعية في أمر من الأمور فحكم لهم ضد السلطان .  .

وبعدها أرسل السلطان رسله لجميع بلاد الأناضول المسلمة يحضون الناس على الهجرة إليها وقال : " ليأت كل من يرغب في سكناها ، وسيبيح السلطان ملك الدور والمزارع والبساتين والمصانع لكل من يأتي إليها دون مقابل ، وأنهم سيعفون من الضرائب والجمارك ، فقصدها الناس من كل مكان ، وأقبل إليها العلماء من كل جهة داخل أوربا وخارجها ؛ وكذلك التجار الذين كانوا يبحثون عن مكان آمن يستثمرون فيه أموالهم دون معوقات أو ضرائب جائرة ؛ مما ساعد على نهضة المدينة في فترة قياسية ، وصارت أرقى المدن في أوربا إن لم تكن أرقى مدن العالم ، وصارت بحق عاصمة الإسلام كما كانت من قبل دمشق ثم بغداد ثم القاهرة ( أيام المماليك )  ..

وهؤلاء السكان الذين استقروا بها من غير المسلمين قد أسلم أكثرهم ، وخاصة السكان الأصليون فأمر السلطان بتحويل نصف الكنائس إلى مساجد لتستوعبهم ، وأبقى النصف الثاني للنصارى يتعبدون فيها كما يشاءون ، وكان هذا التصرف ضروري لملاءمة التغيرات السكانية للمدينة ، فلم يعد عدد المسيحيين بها يحتاج لكل الكنائس ، ومن أسلموا منهم كان من حقهم أن تحول كنائسهم لمساجد كما تحولت عقيدتهم ..

 ثم جمع أئمة دين المسيحية في قصره ، وأعلمهم أنه لن يتدخل في شئون دينهم ، وعليهم هم أن ينتخبوا البطريرك الذي يريدونه بأنفسهم  ( دون أن يقوم هو بفرض رجل عليهم يكون مواليا له ) ومن تلك المعاملة تعلم الغرب فيما بعد نزاهة الانتخابات وحرية الاختيار فأفرزت لهم أحسن العناصر التي قادتهم إلى النهضة الحديثة ..

فاختاروا " جورج سكولاريوس "  فاعتمده لهم ، وجعله رئيسا لطائفة الأروام ، وشارك بنفسه في مراسم تعيينه ، وصيره بمرتبة وزير من وزراء دولته ، وأعطاه حرسا خاصا من الانكشارية يرافقه ، ومنحه حق الحكم في القضايا المدنية والجنائية بكافة أنواعها المختصة بالأروام، وعين معه في ذلك مجلسا مشكلا من أكبر موظفي الكنيسة، وأعطى هذا الحق في الولايات العثمانية للمطارنة والقسس ، وسجل ذلك في قوانين الدولة التي سنها ، وجعله عهدًا مُتبعاً فيها لا ينقض ، وأصدر أمره بإعفاء البطريركية من الضرائب والخراج ، بعد أن نقل مقرها من آيا صوفيا التي صارت مسجدا إلى كنيسة "الحواريين/سنت آبوترس"..

وقد توجه هذا البطريرك لزيارته بعد تتويجه في موكب حافل من الأساقفة ، فاستقبلهم السلطان بحفاوة بالغة ، وأكرمهم أيما إكرام ، وتناول معهم الطعام ، وتباحث معهم في موضوعات شتى دينية وسياسية واجتماعية ، فخرج البطريرك من عنده ، وقد تغيرت نظرته للمسلمين تماما ، وازداد بهم إعجابا وتقديرا ، وكذلك من حوله ، وقد كانوا يتصورون من قبل أن المسلمين لو تمكنوا من رقابهم فلن يكون لهم فيهم حكم غير الذبح ، إذا بهم يجدون من سلطانهم المعظم ترحيبا وكرما لم يجدوه من ملوك ملتهم ..

وخرج البطريرك بعد ذلك ليقول : " إنني خجل مما لاقيته من التبجيل والاحتفاء الذي لم يفعله ملوك النصارى أصلا مع أسلافي ".

وصار البطارقة وكبار الحاخامين في عصره كالأمراء يعيشون في قصور فخمة ، لا فرق بينها وبين قصور الأمراء ، وجعل لكل ملة من الملل غير المسلمة محاكم خاصة ، لا تستعمل فيها إلا لغتها الأصلية  ..

وكانت تلك المحاكم تنظر في شئونهم الدينية والمدنية كالزواج والطلاق والميراث ، وإدارة الأوقاف الخاصة بهم ، ووضع لهم " نظام ملت " الذي ظل يعمل به في الدولة العثمانية حتى ألغاه أتاتورك يوم أن أجبر الجميع على علمانيته .

كما سمح لهم الفاتح بإنشاء مدارس دينية خاصة بهم تدرس فيها تعاليم المسيحية ، يشرف عليها البطريرك بنفسه . 

وكان كثير من الجند الذين صمدوا مع قسطنطين والذين كانوا يدافعون عن أسوار المدينة قد وقعوا في الأسر ، فأرسل السلطان من اتفق معهم على أن يفدوا أنفسهم من الأسر مقابل فدية معينة ، وتسهيلا عليهم أباح لمن عجز عن دفعها كاملة أن يدفعها على أقساط تسدد بعد إطلاق سراحه ، كل حسب استطاعته .

ثم جاءه وفد حي  "غلطة" الذين كانوا من أصل جنوي ، وصار لهم ما يشبه المدينة المستقلة في ذلك الحي فأعلنوا  خضوعهم له فوقع لهم معاهدة، وأصدر مرسوما احتوى على الشروط الآتية:

ـ لقد تم قبول العرض الذي تقدم به أهالي "غلطة" في التبعية العثمانية؛ وألحقت هذه البلدة بالأراضي العثمانية .

ـ  لا يمس أموال أهل "غلطة" ولا أرواحهم بسوء .

 ـ لهم الحرية الكاملة في الدين والتجارة ، إلا أنه ليس لهم أي امتياز في المسائل الضريبية أو الجمركية، وأنهم يتبعون الأسس نفسها المطبقة في كل أنحاء الدولة العثمانية.

ـ  عدم التعرض لكنائسهم الموجودة .

ـ ليس لهم الحق في بناء الكنائس الجديدة.

 ـ لا يؤخذ من أهالي "غلطة" أولاد الدفشرمة، للتنظيم الإنكشاري.

ـ لهم الحق في انتخاب رئيس للأمور البلدية.

وأما من هاجروا من الحي قبيل سقوط المدينة (ونذكر أن أكثر هؤلاء لما رءوا تدفق الجيش الإسلامي داخل المدينة أسرعوا إلى البحر حتى امتلأت بهم السفن ، وحسبوا أنهم لو بقوا في  مساكنهم لتخطفتهم سيوف المسلمين )   فأعطاهم السلطان مهلة 3 شهور يعودوا خلالها لممتلكاتهم التي فروا وتركوها ، وإن لم يرجعوا في غضون ثلاثة أشهر فإنه سوف يتم الاستيلاء على أملاكهم ومنحها للسكان الجدد ليستفيدوا بها ، وفعل ذلك ليستحثهم على الرجوع لتعاود المدينة حياتها الطبيعية .

ووصلت أنباء تلك المعاملة إلى مسامع عوام الناس في أوربا ، وكانت حركة التحرر من الكنيسة الكاثوليكية قد بدأت تظهر على الوجود متمثلة في الأرثوذكس ، وبدأت تباشير العصر الحديث تهل عليهم فازدادوا إعجابا بالسلطان محمد الفاتح ، وسجل بعض الكتاب الغربيون إعجابهم به بعد أن تخلصوا قليلا من العصبية العمياء ضد الإسلام والمسلمين ، وأطلقوا عليه لقب السيد العظيم GRAND SEIJNEUR   ..

ولما كان المسيحيون بالمدينة ليسوا على مذهب واحد عين لكل طائفة خاصة بها مجلسا إداريا يرعى شئونها دون أن تجبر للخضوع للطائفة الأخرى ، وعمم هذا النظام في كل أرجاء الدولة العثمانية كي لا يضار أحد ..

وكذلك فعل مع اليهود الذين هاجروا إلى الدولة العثمانية من ممالك أوربا فرارا من الاضطهاد والتعذيب وممارسة العنصرية ضدهم ، فمنحهم نفس الامتيازات وحق تعيين رئيس ملتهم الذي يرضوه ، ولم يكلف الجميع غير ضريبة الجزية التي كانت تعد قليلة جدا بالنسبة للضرائب التي كانت تحصل في البلاد الأخرى ، بالإضافة إلى عدالتها ، فإذا كانت الضرائب في البلدان الأخرى يتهرب منها كبار القوم بسبب المحسوبية ، وتحصل من عامة الناس دون مراعاة لظروفهم ، فإن تلك الضريبة ضريبة الجزية التي حصلها السلطان محمد كانت عادلة ، وأعفي منها الفقراء والعجزة والضعفاء ورجال الدين ، ولم تتمتع تلك الطوائف بالحرية الدينية والمزايا الاقتصادية فقط ، وإنما فتحت أمامهم المناصب العليا يرتقي إليها أصحاب الهمم منهم.

وصار المتجول في المدينة يلحظ أصحاب البشرة البيضاء والسوداء والصفراء والحمراء وبألسن متعددة ومتنوعة ، الكل سواء ، جمعهم القانون ، وإن اختلفت ألوانهم ولغاتهم ودياناتهم . 

ولمّا لم تكفِ الكنائس التي حولها إلى مساجد في استيعاب عدد المصلين المسلمين أمر ببناء مسجده الجامع الذي سمي فيما بعد باسم مسجد محمد الفاتح ( في الفترة ما بين 1462 و1470 )، وشيد بجواره مساكن عدة ليقيم بها الفقراء الذين لا مأوى لهم ، من نفقته الخاصة ، ومستشفى شاملة ، ولم يكن هذا المسجد مجرد مكان يجتمع المسلمون فيه للصلاة ثم ينصرفون ، وإنما كان يعج بحلقات العلم ليلا ونهارا ، وربما اختلف عن المدارس في أنه كان مفتوحا أمام كل العلماء يدرس فيه من شاء منهم دون أن يكون موظفا راتبا من قبل الدولة  ..

ثم أقام في النواحي المحيطة بالمسجد ثماني معاهد دراسية لتخريج العلماء والمهندسين والأطباء والقضاة والمعلمين ، وشكلت ما يشبه فروع الجامعة الحديثة ، ( وقد أطلق عليها مدارس الصحن لأنها تقع في صحن أو وسط المدينة ) وألحق بها ثمانية مبان ليقيم فيها الطلاب الغرباء الذي حضروا للدراسة بها ، وأجريت عليهم الجرايا والأعطيات ، وكانت تلك المباني بمثابة المدن الجامعية التي تنشأ لسكن الطلاب في العصر الحديث  ..

كانت تلك المعاهد يدرس فيها علوم القرآن والحديث والتفسير والتوحيد واللغات والأدب والطب والهندسة والتاريخ والجغرافية ، وهي العلوم التقليدية التي كانت شائعة في هذا العصر ..  

وألحق بها ثماني مدراس أخرى كانت تسمى تتمة ، وهي بمثابة المعاهد العلمية الإعدادية قبل التخصص ، والمتخرجون منها يلتحقون إن شاءوا بمدارس الصحن للتخصص أو يعينون في المدن الصغرى غير إسلامبول وأدرنة وبورصة ، كل حسب تخصصه .

وكانت كل واحدة من وحدات مدارس الصحن تشمل على 19 حجرة وقاعة كبيرة لإلقاء الدروس والمحاضرات ، ويصرف لكل طالب 12 آقجة كمرتب شهري لمصروفات الجيب .

وأنشئ بجوار المدارس مستشفى للطلاب والعاملين بالمدارس ، ومطعم خيري لتقديم الوجبات الجاهزة للطلبة والمدرسين .

وكان لهذه المدارس نظام دقيق في الدراسة وامتحان القبول ، ونيل الإجازة والانتساب إليها يعد شرفا ، حتى إن السلطان محمد نفسه انتسب إليها ، وحصل على حجرة خاصة له ، وذلك بعد أن اجتاز كسائر الطلبة امتحان القبول المنصوص عليه في لوائح المدارس ..

وصار بعد ذلك يزورها من حين لآخر في الأوقات التي يكون موجودا بالعاصمة ، يجتمع فيها بعلمائها ، وينظر في احتياجاتهم واحتياجات المدارس ، ويجلس بجوار الطلاب يستمع للدرس كما يستمعون ، وينصت كما ينصتون ، وكان أثناء وجوده بها يستقبل زواره عند الضرورة في غرفته الخاصة بها .

ولم يسمح لأحد من العلماء أن يتكلف له عند زيارته للمدرسة كما يفعل كثير من المسئولين ، وإنما كانت زيارته عابرة ، لا يرتب لها من قبل ، فقد زار في بعض الأيام مدرسة من المدارس الثمانية ، فوجد أحد شيوخها غير موجود ( وهو الشيخ الطوسي ) فأمر بعض الطلاب بالذهاب لإحضاره  ، فلما حضر طلب منه السلطان أن يبدأ الدرس في حضوره ، وأن يجلس في مكانه المعتاد فوق المنصة المرتفعة  ، فجلس الشيخ ، وجلس السلطان في جانبه الأيمن والوزير محمود باشا معه ، وأحضر الطلبة فقرءوا على الشيخ حواشي شرح العضد للسيد الشريف ، والسلطان ينصت له كسائر الطلاب ، فلما وجد من الشيخ والطلاب ما أسعده قام وقعد من شدة طربه ، ثم أمر بعد انتهاء الدرس بعشرة آلاف درهم وخلعة نفيسة سنية للشيخ ، وأعطى لكل واحد من الطلبة خمسمائة درهم .

وعالم يرى من الحاكم مثل هذا السلوك لا بد أن يجّد في علمه تعلما وتعليما ، أما إذا ما رآه غافلا عن سماع العلماء وتقديرهم منشغلا بأهل اللهو فغلبا ما يعتريه اليأس ، وربما تخلى عن العلم إلى الانشغال بغيره ..

وبالإضافة إلى هذه المعاهد أنشئت مدارس عالية عُرفت بمدارس القصر ، وكان مقرها قصر الفاتح القديم بإسلامبول وقصر طوب قبو وقصره في أدرنة ، وهذه المدارس كانت مهمتها تعليم اللغات والآداب وفنون الإدارة والحرب والتربية العسكرية ، وتخرج منها عدد كبير من وزراء الدولة وقواد الجيش وكبار الإداريين ..

وأنشأ السلطان أيضا مدارس لتعليم الشعر والأدب في كل من بروسة وقسطموني ، كما اعتنى بالصالونات والمهرجانات الشعرية وكان يشارك فيها بنفسه بإلقاء المقطوعات الشعرية باللغة الفارسية التي أبدعها وجمعها فيما بعد باسم " ديوان عوني " وأجرى مرتبا ثابتا لـ 30 شاعرا في بلاطه ..

وكانت مائدته لا تخلو من العلماء الذين يشاركونه في طعامه ، ويجد المتعة في مناقشتهم وسماع نتاجهم أثناء تناولهم للطعام..

وكان يرى عمارة البلاد في كثرة العلماء بها ، فقد ذكر أن أحد العلماء ويسمى  أحمد بن عبد الله الفريمي أتى إليه فعين له كل يوم خمسين درهما ، ولقيه يوما وقد خرج من القسطنطينية متوجها إلى أدرنه فسأله عن أحوال مدينة فريم فقال : كنا نسمع أن بها ستمائة مفت وثلاثمائة مصنف ، وأنها بلدة عظيمة معمورة بالعلم والصلاح ، وقد أدركت أواخر هذا النظام ، فقال السلطان : وما كان سبب خرابها ؟ قال :  حدث هناك وزير أهان العلماء فتفرقوا ، والعلماء بمنزلة القلب من البدن ، وإذا عرضت للقلب آفة سرى الفساد إلى سائر البدن ، فهذا هذا الكلام وجدان السلطان ، وطلب من بعض خدامه أن يسرع لإحضار كبير الوزراء إليه قائلا : ادع لي محمودا ( أي الوزير محمود باشا ) فلما جاءه حكى له السلطان ما قال هذا العالم ..

 وقال له : قد ظهر منه إن خراب الملك من الوزير ، فقال الوزير محمود باشا مدافعا عن منصبه : لا بل من السلطان ( أي هذا الخراب ) فقال السلطان : لمَ ؟  : فقال الوزير : لأي شيء استوزر السلطان مثل هذا الرجل ؟ ( أي أن السلطان هو الذي أساء الاختيار فيتحمل وزر الخطأ ، فقال السلطان : صدقت ..

ولذلك تسابق العلماء والشعراء من سائر الأقطار الإسلامية إلى مقر السلطان وعاصمته الجديدة ، ومن هؤلاء العالم الفلكي الرياضي علاء الدين على قوشجي الذي جاء من بلاد ما وراء النهر مع أفراد أسرته بدعوة من السلطان محمد الفاتح ، وأصبح من ندمائه ، وألف له رسالة في الحساب سماها باسم " الرسالة المحمدية " وكذلك حسن بك التركماني الذي ألف له رسالة في علم الهيئة سماها باسم " الفتحية ، والشاعر الفارسي الشهير " عبد الرحمن جامي " الذي كان يرسل له السلطان مرتبا سنويا ، وهو مقيم في مدينة " هرات " الأفغانية .

بل الأعجب من ذلك أن يمتد إحسان السلطان إلى العلماء الذين لم يرضوا بالانتقال إلى مملكته ، كما فعل مع العالم النحوي الشهير الكافجي الذي كان يرسل له راتبا ثابتا وهو مقيم .  

كما اهتم بتنشيط حركة الترجمة من اللغات المختلفة ، وخاصة الكتب النادرة التي تعم الفائدة بنشرها ، وكذلك حركة التأليف ، إذ كان أحيانا يطلب من عدد من العلماء الكتابة في موضوع معين يطرحه في صورة مسابقة ليحض العلماء على التنافس في مجال الإنتاج العلمي ، ويمنح المؤلفين البارعين جوائز ومكافآت قيمة . 

وكون لنفسه مكتبة خاصة في قصره كانت تضم 12 ألف مجلد من نوادر الكتب وأروعها في مختلف الفنون واللغات ، بالإضافة إلى المكتبات التي زود بها المدارس التي شيدها .

واقتفى أثره في ذلك وزراؤه وكبار رجال دولته ، فأنشئوا ـ اقتداء به ـ عدة جوامع ومدارس في المدينة ، مثل جامع الوزير الأعظم محمود باشا ( 1464 م) وجامع الوزير مراد باشا ( 1466م ) ومدرسة زيرك ، ومدرسة محمود باشا ، وحرص كل واحد منهم على أن يلحق بالمسجد أو المدرسة التي يؤسسها مكتبة يضاهي بها مكتبة الفاتح ..

كما أقام أثرياء المسلمين الذين هاجروا إلى العاصمة الجديدة بعض المساجد والزوايا على نفقتهم الخاصة ..

وإذا كان السلطان ( أي سلطان ) صالحا قلده واقتدى به وزراؤه في الصلاح والعكس صحيح ..

الحلقة السابقة هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين