بين الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه -1-

ما زال الإسلام قادراً على أن يعطيَ الفكرَ الإنساني ويأخذ منه، شأنه دائماً في مختلف أدواره وخلال أربعة عشر قرناً، وقد أعطى كلَّ من اتصل به، سواء كان اتصال اندماج أو اتصال خصومة، أعطى هذه الأمم التي امتزجت به وأخذ منها واستوعب ثقافاتِ الأمم السابقة له من يونان ورومان وهنود وفرس وانتفع بها، واستطاع أن يصبغ الحياة في أوروبا بطابعه، منذ بلغت أضواؤه الأندلس وأقام فيها جامعاته العلميَّة التي امتدت آثارها إلى فرنسا وإيطاليا، وشكَّلت خميرة النهضة الغربية الحديثة في مجال: العلم والفكر والحضارة، كما استطاع أن يمدَّ لغته على الأرض كلها، وأن يؤثر في لغات العالم الإسلامي تأثيراً عضوياً في تركيبها الخاص، وفي مضمونها أيضاً، فقد كانت ثقافة القرآن هي مصدر الثقافة العربية الإسلامية خارج نطاق الأمة العربية في كل مكان وصل الإسلام إليه، وقد استطاع في أشد أوقات أزماته السياسية وضغط القوى المعادية له (الحروب الصليبية وغزوات التتار والاحتلال الغربي) أن يفتح آفاقاً جديدة، وقبل أن تنتزعه القوى المجتمعة عليه في الأندلس كان قد استطاع أن ينفذ إلى أعماق جنوب شرق آسيا، وأن يكسب فيها أتباعاً جدداً، وقبل أن تزول دولته في الإمبراطوريَّة العثمانية كان قد وسَّع آفاقه في شرق أفريقيا ووسطها.

وهكذا لا يتوقَّف الإسلام عن الامتداد، ولا يَرتبط بناموس الحضارات السابقة له التي يسقط فكرها إذا سقطت، فهو ليس رباطاً سياسياً مُتغيراً بقدر ما هو رباط اجتماعي مستمر، غير أنَّ ظاهرة جديدة ارتبطت بالنفوذ الاستعماري في خلال قرن وربع قرن تقريباً كان لها أثرها البعيد المدى، تلك هي ظاهرة الحملة على الإسلام والفكر العربي الإسلامي وإثارة الشبهات حوله وإلقاء التهم والشكوك حول مفاهيمه وقيمه.

هذه الظاهرة كانت بعيدة المدى في اتجاه المفكرين والكتَّاب إلى (الدفاع عن الإسلام)، الذي أصبح أشبه ما يكون بالمسوق إلى قفص الاتهام، وفي تقدير بعض الباحثين أنَّ هذه الحركة قد عطَّلت الدعوة إلى الإسلام نفسه، فأصبح المفكرون المسلمون في شغل شاغل بالرد على الهجوم، بدلاً من الزحف للدعوة إلى الإسلام. 

والحق أنَّ تحليل ما يوجه إلى الإسلام من اتهام والرد عليه وإزالة الشبهات المثارة وكشفها على نحو علمي عقلي دقيق، ودون أن يطغى على ذلك طابع التعصب أو العنف أو الكتابة الحماسيَّة أو العاطفية، هو عمل من صميم (الدعوة إلى الإسلام) ذلك أنَّ هذه الاتهامات والشبهات لم تعد كلماتٍ تلقى أو تُذاع، بل أصبحت نصوصاً في دوائر المعارف ومصادر الدراسات في الجامعات والمدارس، وهي مبثوثة في المراجع الأساسية التي يَلجأ إليها الأساتذة والباحثون في العالم العربي، فتجري على أقلامهم دون تنبُّهٍ إليها، وهي بعد هذا كله سلاح يحمل لواءَه خصومُ العرب والإسلام من أجل القضاء على مُقوِّمات هذه الأمَّة.

ولذلك كان لابدَّ من تعقُّبِ هذه الشبهات ودراستها والردِّ عليها، والكشف عن وجوه الخطأ والاضطراب فيها، وهو عملٌ ترجع أهميَّته إلى أنَّ النفوذ الاستعماري يحاول اليوم أن يتَّخذ مكاناً له عن طريق ثغرة قد يجدُها في مجال الفكر العربي، حيث يَستطيع أن يهدم عاملاً أو أكثر من العوامل المكوِّنة لمقوِّمات هذه الأمَّة إيماناً منه بأنَّ ذلك يضعف (القوة النفسيَّة) التي تُواجه نُفوذَه ويَقْضي عليه. 

وليس معنى هذا أنَّ الفكر العربي الإسلامي يغلق نفسه أبداً، فهو لم يغلق نفسه طوال أربعة عشر قرناً، وقد كان دائماً مفتوحاً على آفاق الفكر يأخذ ويعطي، ويستوعب ويمتص، على قاعدته الأساسيَّة التي لا ينحرف عنها وهي أنَّ الإسلام: دينٌ ومَدَنيَّة، وقلب وعقل، ودنيا وآخرة، ودين وعلم، وأنَّ هذه العناصر تتزاوج وتتلاقى في تكامل واضح، وأنَّ مصدر الاضطراب إنما يجيء من انفصالها، ذلك طابع الفكر العربي الإسلام، الذي بنى قاعدته الأولى على أساس (التوحيد) وسيادة الإنسان على الكون تحت حكم الله تعالى، قبل أن يَلتقي بالفلسفات اليونانيَّة والرومانيَّة والهنديَّة.

ومن هنا كان مَوقفه منها موقف حرية الاقتباس والتضمين، فهو قد رفض كلَّ ما يَتَعارضُ مع قاعدته الأساسيَّة، وقبِلَ كلَّ ما يَزيده قوَّةً على الحياة، ويشحذ أسلحته في سبيل الدفاع عن العقائد.

وإذا كان الإسلامُ في مَضْمونه الأصلي عُصارة الأديان السماويَّة باعتباره خاتمها، فإنَّه في مجال الفكر قد استطاع أن يُذيب مختلف الثقافات الإنسانية السابقة عليه في كيانه، دون أن يفقد مُقوِّماته الأصلية، ذلك أنَّه أساساً دين الإنسانية والعالمية، ومن هنا كانت قدرة الإسلام على الالتقاء بالثقافات والحضارات خلال عمره الممتد، دون أن يصطدم بها، ومن هنا كانت مرونته في مواجهة العصور والثورات والدعوات والمذاهب سواء في داخل نطاقه أم في خارجه، دون أن يَقضي عليه منها شيء.

والواقع أنَّ الإسلام منذ ظهوره إلى اليوم، كان قادراً على الحياة والحركة مؤثراً في مجرى التاريخ، سواءً في إبَّان انتصاراتِه، أو في خلال فترة الضعف التي مَرَّت به، أم في مَرْحلة اليقظة التي تمرُّ به اليوم، وحتى نقف على أساس ثابت في هذا البحث علينا أن نواجهَ هذه الحقائق العشر:

أولاً: إنَّ الإسلام كان مفهومه الصحيح الكامل: ديناً ومدنية.

ثانياً: إنَّ وثيقة الإسلام الكبرى الخالدة (القرآن) قد حُفِظت من التحريف.

ثالثاً: إنَّ الإسلام لم يتوقَّف عن الانتشار منذ بزوغ فجره حتى في أشد أيام صراعه مع الاستعمار.

رابعاً: أكَّد الإسلام أهمية العقل وفضل العلم، وجمع بين الاتجاهين المادي والروحي، ولم يكن عائقاً عن التقدم.

خامساً: التفسير التاريخي للإسلام يُعطي مفهوماً يختلف كلَّ الاختلاف مع مقاييس الأديان والمذاهب المختلفة.

سادساً: أبرز طوابع الإسلام بعد التوحيد: (طابع الشمول).

سابعاً: استمرار قدرة الإسلام الدائمة المتجدِّدة على البقاء ومنح الإنسانية قيماً جديدة.

ثامناً: ما تزال (اللغة العربية) هي لغة الإسلام ثقافة، والأمة العربية قومية ورسمية.

تاسعاً: إنَّ دور العرب والمسلمين في العلم والحضارة لا سبيل إلى تجاوزه أو إنكاره.

عاشراً: أنَّ الشريعة الإسلامية حية صالحة لكل زمان ومكان، قائمة بذاتها وليست مأخوذة من غيرها.

1 – الإسلام دين ومدنية:

ولقد واجهت الإسلام شبهة القول بأنَّه دين روحي، ينظم العلاقة بين الله تعالى والإنسان، لا صلة له بالحياة والمجتمع، وفي هذا محاولة لإنكار مفهوم الشمول في الإسلام على أنه دين ومدنية، وقد واجه هذا كثير من الباحثين المنصفين.

تقول العلامة الدكتورة: الزي لشننشاتر: الإسلام ليس ديناً فحسب، ولكنه أسلوب في الحياة، والإسلام كدين له قيم خاصة، وخير دليل على ذلك أنَّ الأديان الأخرى لم يستطع أحدها أن يجد سبيله إلى نفوس المثقفين ثقافة عالية، وإنك لتجد علماء الذَّرَّة والحيوان والرياضة رغم بلوغهم هذه الدرجة العليا ظلُّوا مخلصين لدينهم الإسلام، وما من واحد من الطلبة المسلمين الذين يتلقون العلم في أوروبا تحوَّل عن الإسلام إلى دين آخر، وإن كان بعضهم قد استغرب في أنماط حياته، ولم يحدث هذا عن مُصادفة، ولكن له دلالته القويَّة، ذلك أنَّ الإسلام له قيمه التي لا ترضي الجاهل فحسب، بل التي تكفي حاجات المتعلمين والمثقفين.

ويقول موريسون: إنَّ الحق الذي لا يماري فيه أحد أن الإسلام أكثر من معتقد ودين، وإنما هو نظام اجتماعي، تام الجهاز، هو حضارة كاملة النسيج لها فلسفتها وتهذيبها وفنونها.

ويقول الدكتور بول ركلا: لقد آن لنا أن نعرف ويعرف العالم جوهر هذا الدين، دين يجب ألا نكتفي بتسميته ديناً ونقف، بل لنعطيه اسمه الحقيقي، ولنسميه فلسفة دينية، فنكون قد أعطيناه مركزه بين الأديان، ولستُ بمُغالٍ إذا صرَّحتُ عَلَناً، وقلت: إنَّ الإسلام مفتوح بابه على مِصْراعيه، وهو واسع الأرجاء، لتلقي الرقي الحديث الذي أنتجته الأجيال الطويلة، وليس كما يَزعم البعض بمحدود الأطراف، وضيق المدخل، لأنَّ تعاليمه الرفيعة، وضعت لمرور الدهور، وستبقى خالدة وضَّاءة الأنوار، تكشف كلَّ مدنية تتمخَّض عنها العصور، وأنَّ الإسلام هو الدين الوحيد بين جميع الأديان الذي أوجد بتعاليمه السامية عقبات كثيرة تجاه ميل الشعوب إلى الفسق والفجور، ويكفيه فخراً أنَّه قدَّس الإنسال وعظَّمها، ليرغب الرجل بالزواج، ويعرض عن الزنا المحرم شرعاً وتشريعاً، وأنَّ الإسلام قد حلَّ بعقلية عالية عادلة أغلب المسائل الاجتماعيَّة التي لم تزل للآن تشغل مُشترعي الغرب بتعقُّداتها، فالإسلام هو الدين الديمقراطي الوحيد سواء بتعاليمه أم بشرائعه أم بِعاداته فهو لا يَعْترف مُطلقاً بالزعامة الدينيَّة.

ويقول الدكتور جرمانوس: إنَّ أوربا لم تَعْرف الإخاء بين الناس إلا بعد الثورة الفرنسية، بينما دعا الإسلام إليه وطبَّقه قبل ثورة فرنسا بنحو ألف عام، لقد كانت فكرة المساواة والديمقراطية من ابتكار (القرآن) عرفتها أوروبا في القرن السابع عشر بينما هي من حقائق الإسلام وأصوله منذ نشأته.

2 – وثيقة الإسلام الخالدة: (القرآن):

أما (القرآن) فقد ظلَّ قادراً على التأثير في الفكر العربي الإسلامي، وفي الفكر الإنساني عامَّة، إذ كانت إجاباته على مختلف القضايا والمعضلات موضع تقدير الباحثين، على أساس أنَّها قادرة على حلِّ أزمة الإنسان الحديث.

يقول فيليب دي طرازي: لسنا نعرف كتاباً عربياً أثار هَمَّ العلماء والباحثين في أربعة أقطار المسكونة كما أثارها مصحف القرآن منذ ظهور الإسلام إلى اليوم، تلك حقيقة صادقة لا تفتقر إلى برهان يُسندها أو حجَّة تدعمها، ومن المقرَّر الثابت أنَّه لولا القرآن لما انتشرت اللغة العربية الفصحى في الخافقين، ولولا القرآن لما أقبل ألوف ألوف من البشر على قراءة تلك اللغة، وعلى كتابتها ودرسها والتعامل بها، فالقرآن عزَّز الجامعة العربيَّة وصان عناصرها، وضمن سلامتها على توالي الزمان، ذلك أنَّ الإسلام فرض على كل مسلم أن يدرسه (1)، ويحفظه ويجوِّدَ قراءته قبل أي علم من العلوم البشرية، وهكذا حُفظ التفاهم بين الشعوب الإسلامية وغيرها من الشعوب، وقد استعصت اللغة العربية بفضله على نكبات الدهر ورسخت رسوخ الجبال الرواسي خلافاً لما انتاب لغات الأقوام الذين اندمجوا في العرب بعد الإسلام، كالرومان والسريان والأقباط والأنباط والصابئة واليهود وغيرهم.

وفي تقدير العلامة إتيان دينيه: أنَّ القرآن قد حقَّق معجزة لا يَستطيع أعظم المجامع العلميَّة أن يقوم بها، ذلك أنَّه مكَّن اللغة العربية في الأرض بحيث لو عاد أحد أصحاب الرسول اليوم إلينا لكان ميسوراً أن يتفاهم تمام التفاهم مع أهل اللغة العربية، وهكذا عكس ما يجده مثلاً أحد معاصري (رابليه) من أهل القرن الخامس عشر الذي هو أقرب إلينا من عصر القرآن من الصعوبة في مخاطبة العدد الأكبر من فرنسيي اليوم.

وإنَّ لغة القرآن وإن كانت تَمُتُّ في أصولها إلى عصور بعيدة قديمة فهي مرنة طيعة تسع التعبير عن كل ما يجدُّ من المكتشفات والمخترعات الحديثة دون أن تفقد شيئاً من رونقها وسلامتها.

ويقول إدوارد جيبون: إنَّ القرآن مُسَلَّم به من حدود الأقيانوس الأطلانطيكي إلى نهر الكانج بأنَّه الدستور الأساسي ليس لأصول الدين فقط، بل للأحكام الجنائيَّة والمدنيَّة والشرائع التي عليها مدار حياة نظام النوع الإنسان وترتيب شؤونه.

ويقول العلامة فيني: إنَّ القرآن ليس بكتاب ديني فقط، بل كتاب علم وآداب، ونجد فيه بيان الحياة السياسيَّة والاجتماعيَّة حتى إنَّه يُرشد الإنسان إلى وظائفه اليوميَّة والأحكام السياسية التي إن لم توجد في القرآن تُوجد في السنة.

ويدافع السير ريشارد وود عن القول بأنَّ القرآن حائل دون النهضة فيقول: إن القرآن يتضمَّن أحكام الدين، وفي نفس الوقت يشمل الأمور المدنيَّة والأصول السياسيَّة، وأنَّ كثيراً من مؤلفي الإفرنج يزعمون أنَّ المسلمين لا يتسنَّى لهم التقدم والارتقاء في معارض الحضارة ما داموا مُقيَّدين بنصوص القرآن التي يقولون إنَّها لا تُلائم المعارف واكتساب الفنون، وهذا وهم باطل نشأ عن الجهل بمقاصد القرآن، ويَكفي بُرهاناً على بطلانه تاريخ صدر الإسلام وعناية علماء العرب بالمعارف والفنون، ودرسهم كتب الحكماء والأقدمين).

وتقول الدكتورة لورا قيشيا فاليري: إنَّ المعجزة التي تَفوق كل المعجزات والتي وصلت إلينا أخبارها من مصادر غير مشكوك في صحتها هي (القرآن)، فإنَّه كتاب لا يستطيع إنسان أن يأتي بمثله، إذ أنَّ كل عبارة من عباراته متزنة مُنَسَّقة مُشتملة على معانٍ كثيرة سهلة المأخذ، فلا هي كثيرة الإيجاز، ولا هي بالغة حدَّ الإسهاب والإطالة. 

ولما كان أسلوب القرآن فريداً في بابه، ولم يكن له مثيل سابق في الأدب العربي، فإنه يقع في النفس البشرية موقعاً صحيحاً لا تَصَنُّعَ فيه ولا افتراء ولا تمويه ولا استكراه، إذ أن آياته كلها على جانب عظيم من الفصاحة، حتى ما كان منها خاصاً بالأوامر والنواهي التي يجب منطقياً أن تكون في أسلوب هادئ، كما أنَّ سير الأنبياء وأوصاف بدء الخلق ونهايته، والأحكام، وخصائص الله تعالى وصفاته، كل ذلك يتكرَّر ذكره في هذا الكتاب العجيب بأشكال وصور مُتعددة، ولكن دون أن يَفقد شيئاً من روعته ومكانته، وكذلك فإنَّ الانتقال من موضوع إلى موضوع في القرآن يحصل كثيراً، ولكن بغير أن ينحطَّ التعبير عن مستواه ودون أن تقلَّ حلاوته، كذلك فإنَّ التعمق وسلامة التعبير وهما صفتان يندر أن يجتمعا معاً، وقد ظهرتا مُتجلِّيتين في القرآن، وفيما عدا ذلك فإنَّ كل صور البلاغة تجد تطبيقاً كاملاً في القرآن، فكيف إذن والحالة هذه يمكن القول بأنَّ هذا الكتاب العجيب من صنع محمد؟!، الذي لم ينظم طوال حياته سوى بيت واحد من الشعر وهو: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)! ولقد تحدَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم قومه أن يأتوا بكتاب مثل القرآن أو بسورة واحدة منه، ومع أنَّ الفصحاء من العرب كانوا أكثرَ من رمل الصحراء فإنَّ أعداء الإسلام لم يستطيعوا أن يُعارضوا القرآن، ولكنهم حاربوه بالسلاح عندما لم يجرؤوا على محاربته بالكلام.

3 – انتشار الإسلام:

واصل الإسلام انتشاره منذ فجره إلى اليوم، ولم يتوقَّف عن الانتشار حتى في أشدِّ أيام الصراع بينه وبين الاستعمار، وقد انتشر بقوَّته الذاتية وبفضل مبادئه التي تحمل التوحيد والحريَّة.

يقول توماس أرنولد (2): إن كانت دولة الإسلام قد انقسمت وانهارت وحدتها السياسية فإنَّ فتوح الإسلام الروحيَّة قد بقيت لا تحول دونها الحوائل، حدث هذا برغم إغارة المغول على بغداد، وقيام حكام الأندلس بطرد المسلمين من الأندلس، كان ذلك يجري والمسلمون يضعون أقدامهم في أرض جديدة، ويدخلون أهلها في دين الله، تلك هي جزيرة سومطرة، ثم كانوا على وشك أن يبدأوا تقدُّمهم الموفَّق في جزائر أرخبيل الملايو، وهكذا أقام الإسلام في ساعات أزمته السياسيَّة بطائفةٍ من أعظم غزواته الروحيَّة.

ويقول العلامة منتيه (3): في أفريقيا أناس من المرابطين هم دعاة تبشير حقيقيون، وهناك طرق دينية أخذت على نفسها نشر الإسلام، على أنَّ الإسلام ينتشر بنفسه بواسطة المسلمين أنفسهم، لأنَّ كل مسلم في البلاد الوثنية داعية دين بحدِّ ذاته، وقد أنشا المسلمون قرى يسكنها المهتدون إلى دينهم من المحدثين في الإسلام، والمدرسة إحدى العوامل الفعَّالة، فهم على الجملة عندما ينزلون ويتوطَّنون في بقعة جديدة يَصْرِفون أولى عنايتهم إلى إنشاء مسجد ويجعلون بجانبه مدرسة.

(والمسلم ينشر دينه وهو متوفر على تجارته أو عامل في صناعته، والإسلام ينتشر بواسطة القوافل التي ترحل إلى البلاد الوثنية، ودعاة الإسلام فيما عرفوا من الغيرة يعمدون إلى ذرائع مختلفة، تناسب كل حال، بحسب الأقطار والشعوب التي يبثون دعوتهم بين أهلها).

4 – الإسلام والعلم:

وفي مجال الدفاع عن الإسلام: تبدو القضية الكبرى في اتهام الإسلام بإعاقة تقدم الثقافة والعلوم، ولسنا نحن الذين نُدافع عن الإسلام، ولكنا ندع بعضَ المنصفين من المفكرين الغربيين الذين فهموا الإسلام فهماً صحيحاً يتحدَّثون:

يقول إتيان دينيه: إنَّ العقيدة المحمديَّة لا تقفُ عقبةً في سبيل الفكر فقد يكون المرء صحيحَ الإسلام، وفي الوقت نفسه حُرَّ الفكر، ولا تقتضي حريَّة الفكر أن يكون المرءُ منكراً لله تعالى، لقد رفع قدر الإسلام إلى أعظم الدرجات وأعلى المراتب، وجعله من أول واجبات المسلم. ويقول: (يوزن يوم القيامة مداد العلماء بدماء الشهداء ويرفع فضل العلم على فضل العبادة).

ويقول الدكتور حرمانوس: أستطيع أن أجهر بمنتهى الجرأة بعد أن قرأت كتاب المسلمين المقدَّس وثقافة الإسلام بأنَّه لا يُوجد في تعاليم الإسلام كلمة واحدة أو عمل واحد من شأنه أن يعوِّق تقدم المسلم، أو يمنع زيادة حظه من الثروة والمعرفة والقوة.

ويقول ليوبولد فابس: ما من دين ذهب أبعد من الإسلام في تأكيد غَلبة العقل، وبالتالي غلبة العلم على جميع مَظَاهر الحياة.

ويرى العلامة مسمر: إنَّ بين الإسلام والعلم رابطة قوية، فإنَّ الإسلام لم يزدهر إلا بانتشار العلوم وتقدمها.

ويقول رينيه ميليه: لقد جاء المسلمون بمبدأ في البحث جديد، مبدأ يتفرَّع عن الدين نفسه، هو مبدأ التأمُّل والبحث، وقد مالوا إلى العلوم وبرعوا فيها، وهم الذين وضعوا أساس علم الكيمياء، وقد وجد فيهم كبار الأطباء.

ويقول الدكتور فرنتورونتال: إنَّ أعظم نشاط فكري قام به العرب يبدو لنا جلياً في حقل المعرفة التجريبيَّة ضمن دائرة مُلاحظاتهم واختباراتهم، فإنَّهم كانوا يبدون نشاطاً واجتهاداً عجيبين حين يُلاحظون ويُمَحِّصون، وحين يجمعون ويُرتِّبون ما تعلموه من التجربة.

ويقول جوستاف لوبون: إنَّ القرون الوسطى لم تعرف الأمم القديمة إلا بواسطة العرب، وإنَّ جامعات أوروبا عاشت خمسمائة سنة بكتب العرب، وإنَّ العرب هم الذين مدَّنوا أوروبا في المادَّة والعقل والخلق، وإنَّ الشعوب التي دانت الأرض لسلطانها عفت الأيام آثارهم، ولم يبقَ سوى ذكريات ألسنتهم وأديانهم، ولكن أهم عناصر مدنيَّة العرب وهي الدين واللسان والفنون لا تزال حيَّة، ولا شك أنَّ العرب هم أول من علَّم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين.

للبحث بقية.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة الوعي الإسلامي، 1 ذي القعدة 1386 - العدد 23 ).

--------------------

(1) ليس على سبيل الإلزام لكل فرد من المسلمين.

(2) كتابه: الدعوة إلى الإسلام

(3) كتابه: حاضر الإسلام ومستقبله

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين