هكذا مزّقتنا التبعية !

 

رؤية استراتيجية للثورة السورية 

 

سؤالان كبيران تفرضهما ساحات القتال وصفحات السّجال حول الثورة المعجزة ، التي أعجزتْ تحالف الأعداء فلم تنهزم ، ولم يُعجزها تفرّق الأبناء فلم تستسلم !

 

السؤال الأول : كيف يمكن لأنظمة متنافرة أن تجتمع ؟ ومذاهب متوازية أن تتلاقى ؟ وثقافات متباعدة أن تتقارب ؟ واتجاهات متناقضة أن تتّفق ؟! 

 

ما الذي يجمع المجوسي إلى الروسي والشيعي إلى الشيوعي والعلمانيين إلى المعمّمين وتجّار الفن إلى تجار الدين برغم كل عوامل التدافع والصدام !؟ 

 

السؤال الثاني : كيف يفترق الجهاد الواحد طرائقَ شتّى ويتبدّد الدين الجامع بين عقليّات 

ومذاهب تتنازع  ولا تتواضع ؟

 

كيف لأبناء ثورة متفرّقة ومحاصرة  أنْ يصعب اجتماعهم واستقوائهم في أحلك الظروف وأشدّها احتياجاً للوحدة لا التقارب ، والهرولة لا المشي ، والتغاضي عن الخلافات لا وضعها تحت المجهر ؟   

 

وكيف لفصائل عديدة يُراد حرقها أن يطول افتراقها وتستعصي على الاندماج برغم الضرورات الوجودية والمصيرية التي تفرض بقوة أن تندمج آلياً و حتمياً لا اضطرارياً وقسرياً ! 

 

كيف أمكن أن يعاد برمجة أهم جبهات الثورة ، بوابة دمشق ومفتاح الطريق الموصد ، جبهة حوران بكل مكوناتها لتصبح جزءً من خطة ابتلاع الجبهات واحدة تلو الأخرى ومن ثم وأد الثورة ؟ 

 

حوران التي كانت أول من كسر حاجز الرعب وأعلن صرخة الميلاد والحياة ، كيف غدتْ أول من يخيط أكفان الحرية ويعيدها للقبر ثانيةً ؟!    

 

لماذا اجتمع الأعداء وتفرّق الأبناء ؟

 

الجواب باختصار يكمن في ظاهرتَين أو بمعنى أدقّ في عقيدتَين  : 

 

في الاستراتيجية التي رَتَقَتْ تناقضات الأعداء والمذهبية التي مزّقت توافقات الأبناء ! 

 

فما هي العوامل التاريخية التي أفرزت تلك التحالفات الخرافية بين صُنّاع القرار ، والخلافات الكارثية بين المجاهدين والثوار ، فتمخّض عنها مذبحة الشعب السوري وانتزاعه من أرضه كرهاً وتهجيره قسراً ؟    

 

الشعوب المتصادمة ثقافياً وحضارياً ، والمذاهب المتناقضة فكرياً  ودينياً لا يمكن أن تلتقي إلا في حالة واحدة : 

 

أن تخشى من عدوّ عميق الجذور متنامي البذور ، تعتقد قوته الذاتية الكامنة وتؤمن بقدرته الهائلة على بلوغ أحلامه وطمس أحلامها إنْ اكتشف ذاته وتصالح معها ، وتدرك أنها لا تستطيع القضاء عليه إلا أن تشترك جميعاً في المهمة والمسؤولية ! كما صنعت قبائل العرب في الجاهلية الأولى لاغتيال النبي الخاتَم محمّد صلى الله عليه و سلم . 

 

ذلك هو سحر الاستراتيجية ، يُلغي فوارق كثيرة مؤقتاً في سبيل الوصول إلى هدف مشترك يخدم مشروعاً مشتركاً يستحوذ على الأطراف جميعاً ! 

 

هذا المشروع قديم جديد منذ بدء الدعوة الأولى ، وإعْمال معْول الحرية بالأصنام البشرية والآلهة المزيّفة التي استعبدت الناس ولا تزال ! 

 

ولذلك ترى الميليشيات الشيعية والمجوسية والطائرات الروسية والأسدية والسياسات الأمريكية والأممية مصمّمة على مذبحة ( السُّنّة ) مهما كان الثمن باهظاً ومهما تلطّخت بالعار والدماء ! 

 

إنها استراتيجية الأعداء التي ذوّبتْ متناقضات ثقافية وطائفية ومذهبية ، شرقية وغربية ، لتركب في سفينة واحدة مهما بدا الموج عالياً والبحر ضارياً ! 

 

على الشاطئ الآخر ( أرض الجهاد و فصائل المجاهدين ) تغيب الاستراتيجية وتنتشر المذهبية ! حيث مراكب كثيرة وزوراق صغيرة تصارع الأمواج العاتية ذاتها والبحر الهائج ذاته ! لكنها مراكب شتّى ذات مذاهب شتّى ، ليس لها استراتيجية جامعة وذكية بما يكفي لتجتمع في مركب واحد أقدر على الإبحار في بحر متلاطم بالأخطار وليس ثمّة إلا الموت أو الحياة ! 

 

إنّ الرؤية الاستراتيجية بمثابة العقد الفريد الذي تنتظم فيه الحبّات المتناثرة معاً ولولاه لانفرطتْ وذهبتْ كل حبة باتجاه ! 

 

لكن الرؤية المذهبية بمثابة اليد الغاضبة العصبية التي تفرط حبات العقد النظيم وتنثرها نثراً !

 

هكذا مزّقتنا المذهبية على اختلاف أنواعها ولا تزال ! 

 

مذهبية مناطقية تتّهم مدينة وتخوّن أخرى ، مع أنّ نسيجنا واحد ! 

 

مذهبية فكرية تسارع إلى حظر الآخر وإلغائه ، مع أنّ مصيرنا واحد !

 

مذهبية دينية تحتكر الفهم وتوزّع صكوك الردّة والإيمان ، مع أنّ كتابنا واحد ! 

 

إنه سحر المذهبية التي تفرّق بين المرء وزوجه ، وبين الأخ وأخيه ! 

 

تباعد العالم عن المفكّر ، وتفرّق بين المقلّد والمجدّد ! 

 

تضع حواجز التنافر بين الأحكام والحياة ، والفنّ والدعوة ، والإبداع والدين ! 

 

كما تفرّق بين يجاهد باسم الله ومن يجاهد ليرفع الظلم والإذلال  وينتزع الحرية والكرامة  ! 

 

إنها المذهبية التي تجعل الأشياء المتكاملة متصادمة ، 

 

والأفكار المتكاملة متخاصمة ، والأعمال المتكاملة هادمة !!

 

لقد كان الأعداء (متعدّدو الجنسيات والمعتقدات والمذاهب)  أولى وأجدر بنار المذهبية المحرقة ، لكنّ الاستراتيجية جعلت المشروع مقدَّماً على الفوارق فانْطفأتْ النار إلى حين . 

 

و لقد كنا أحقّ البشر باستراتيجية تهمّش كل خلاف وتُعلِي كلّ اتّفاق ، غير أنّ المذهبية كانت حاضرةً بكامل قوّتها وفِتْنتها فمزّقتْنا أفراداً وهيئاتٍ وفصائل  . 

 

خلاصة القول : 

 

نحن لا نملك الاستراتيجية التي تجب كما يجب .. 

 

 نحتاج النفوس الكبيرة التي تحلّق بجناحَين : 

 

فكر لا يرتاح إلا أن يحمل همّ القضية المصيرية ويجتهد في وضع الرؤية الناجعة والاستراتيجية الجامعة  . 

 

وقلب لا يرتاح إلا بمشاركة المستضعَفين المنكسرين همَّهم ومشاركة جند الحق الحقيقيين حلمَهم والعمل في طريقهم حتى ينجبر الكسر ويتحقق الحلم . 

 

الثورة السورية في هذه المرحلة تحتاج البراغماتية حاجتها إلى المضادات النوعية ، إذ يستحيل اجتماع الفصائل بغير تغاضٍ عن خلاف وتغافلٍ عن اختلاف للاعتصام بحبل الله جميعاً . 

 

هنا تحديداً يتجلّى قصور بل إثم المفكّر والعالم والمثقّف والداعية ، إن لم يحمل ما يستطيع من المسؤولية ويبذل جهداً يقلّل النعرات المذهبية ويزيد التوجّهات الاستراتيجية . 

 

وهنا تحديداً تتجلّى الحاجة الماسّة لاندماج الفصائل كافّة دون استثناء مهما كانت التوجّهات المذهبية متطرّفة ، 

 

فكسب المتطرّف في جهتك قطعاً أفضل من تبديد الطاقة والزمن والدماء في قتاله ! ولأن استثناءه يعني قطعاً الفتنة والاقتتال وبالتالي خسارة استراتيجية كارثية ، وهو قبل ذلك كله سقوط أخلاقي وجحود ذميم لرفاق الكفاح والدم ، وهديّة مجانية مذهلة للأعداء المتربّصين !

 

 ختاماً : إذا كانت الانتصارات الميدانية تتحقّق بأيدي المجاهدين الشرفاء ، فإن رسم الاستراتيجية يتحقق بفكر المجتهدين الحكماء ، الذين يضعون الآليات الفاعلة لاستبعاد أسباب التصادم والإقصاء واعتماد أسباب التلاقي والتمكين .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين