تصحيح مفاهيم شرعية خطيرة سفكت لأجلها دماء -3-

 

منذ أن نشأ تيار الغلو المعاصر وهو يحاول الاتكاء على نصوص لأجل دعم نزعة غضبه, ومنها قوله عليه الصلاة والسلام :

« أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلاَّ الله، وأَنَّ مُحَمَّداً رسولُ اللهِ، ويُقيموا الصَّلاةَ، ويُؤْتُوا الزَّكاةَ، فإذا فَعَلوا ذلكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءهُم وأَموالَهُم، إلاَّ بِحَقِّ الإسلامِ، وحِسَابُهُم على اللهِ تَعالَى » متفق عليه .

 

والحقيقة أن هذا الحديث حديث مظلوم, كما قال الشيخ محمد الغزالي, رحمه الله, فقد أسئ فهمه بشكل خطير

ولهذا سنوضح معناه من خلال نقاط محددة :

1- الفرق بين ( أقاتل ) و ( أقتل )، فهناك بون كبير بين اللفظتين, والنصوص الشرعية قيلت بدقة بالغة, ولهذا قال الشافعي : " ليس  (القتال ) من ( القتل) بسبيل ، فقد يحل قتال الرجل ولايحل قتله " . رواه البيهقي

 

2 - لفظ ( الناس ) هنا المقصود به هم مشركو العرب من أهل الأوثان لا عموم البشرية , وهذا أسلوب قرآني, حيث جاء في نفس المعنى في قوله تعالى : 

(( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ )) آل عمران 173 

و" الناسُ " الأولى هنا هم  مشركو مكة , بل بعضهم .

 

والحديث ذُكر عند حروب الردة أثناء قول عمر لأبي بكر : ( كيف تقاتل الناس ؟ ) وتوجد رواية ذكرها البيهقي : ( أتريد أن تقاتل العرب ؟ ) ..

وهذا ما أيده شرّاحٌ للسنة :

- يقول القسطلاني في إرشاد الساري : ( " أقاتل الناس" أي بمقاتلة الناس , وهو من العام الذي أريد به الخاص، فالمراد بالناس المشركون من غير أهل الكتاب ... قال الطبري: إنه, عليه الصلاة والسلام, قاله في وقت قتاله للمشركين أهل الأوثان الذين لا يقرون بالتوحيد ) .

- ويقول البدر العيني في عمدة القاري : ( وَأَرَادَ بِالنَّاسِ: الْمُشْركين ) .

ويقول في موقع آخر : ( قَالَ الطَّيِّبِيّ قَالَ أَكثر الشَّارِحين : أَرَادَ بِالنَّاسِ عَبدة الْأَوْثَان بِدُونِ أهل الْكتاب ..

قَالَ القَاضِي عِيَاض .. المُرَاد بِهَذَا مشركو الْعَرَب وَأهل الْأَوْثَان .. ) . 

 

3 - من نطق كلمة التوحيد صار مسلما, لعموم الأدلة من الكتاب والسنة, ثم يلزم ببقية أركان الإسلام .

 

4 - فإن رفض ركنا ما ثم جلس في بيته مغلقا باب داره ، فقد اختلف العلماء بشأنه ، لكن إن قام مجموعة ما - كأهل بلدة مثلا - برفض ركن أو شعيرة ثم " نصبوا أنفسهم للقتال " ، أصبحوا " طائفةً ممتنعة " ووجب على الدولة المسلمة مقاتلتهم ( لا قتلهم ) حتى يرجعوا عما هم عليه ، وهنا حصل إجماع الصحابة في تطبيق الحديث على حروب المرتدين ..

 

طبعا يوجد كلام كثير حول شرح بقية الحديث واختلاف الفقهاء حوله يُرجع فيه إلى مظانه .

 

وفي هذه النقطة يعجبني تحقيق ابن رجب الحنبلي أثناء شرحه للحديث في كتابه ( جامع العلوم والحكم ),حيث يؤكد أن القوم لايقاتلون لأجل دخولهم في الإسلام ، إنما يقاتلون إن امتنعوا عن أداء حقوق الإسلام بعد إسلامهم كما فعل الصحابة في حروب الردة .

أي إن وجدت طائفة ممتنعة عن أداء الشعائر تقاتل لذلك، أما الفرد فحصل خلاف بين العلماء في شأنه ..

 

5 - وللتوسع قليلا نقول : حروب الردة كانت خاصة في الدرجة الأولى بمن تبع الأنبياء الكذبة, وهؤلاء كفروا بعد إسلام، لكن دخل معهم في الاسم لا الحكم مانعو الزكاة بسبب شمولية الحرب, وهذا ما قرره غيرُ واحد من أهل العلم, ومنهم الإمام البغوي في كتابه " شرح السنة " ج / ? /  ص / ??? / .

والإمام الخطابي اعتبرهم " أهل بغي لا ردة " . انظر ( نيل الأوطار ) للشوكاني :  ج / 4 / ص / 508 / .

 

6 - في صدر الإسلام لم تترسخ شعائر الإسلام بعد ، لهذا حصل التأويل الفاسد عند مانعي الزكاة ، عند قوله تعالى ( خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكيهم بها ) حيث فهموا أنها خاصة بحياة النبي عليه السلام وبعد وفاته انتهت الزكاة ، لكن مع ذلك لم يكفرهم الصحابة لأجل تأويلهم الفاسد إنما فقط قاتلوهم عليها، كبغاة متأولين, لكن فيما بعد عند رسوخ الشريعة لم يعد هناك عذر لتأويل فاسد فيما يتعلق بأركان الإسلام , إلا أن يكون أسلم حديثا , كما قرر ذلك الإمام النووي في شرحه على مسلم , ج / 1 / ص / 205 / .

 

هذا مابدا لي, والله تعالى أعلى وأعلم.

الحلقة السابقة هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين