تصحيح مفاهيم شرعية خطيرة سفكت لأجلها دماء 2-

حديث ( .. لقد جئتكم بالذبح ... ) رواه أحمد وحسنه الأرنؤوط .

هذا الحديث قاله النبي - عليه الصلاة والسلام - لبعض صناديد قريش .

وهو غالبا ما يتعلق به أناس يبررون به أعمال عنف يرتكبونها بحجة أن النبي - عليه الصلاة والسلام - بشر مخالفيه بالقتل منذ البدء !

أولا وقبل الدخول إلى بعض تفصيلاته لابد من ذكر قضية أصولية يغفل عنها - للأسف - الكثيرون رغم أهميتها ، وهي وجوب رد المتشابه ( غير الواضح أو الذي يحتمل دلالات متعددة ) إلى المحكم ( الشديد الوضوح ولا يحتمل إلا معنى واحدا ) ، فمثلا : 

النبي عليه السلام أعلن أن : ( المدينة حرم، يحرم صيدها ) ... محكم

وقال أيضا : ( يا أبا عمير ما فعل النغير )  .................. متشابه

فالحديث الأول هو الأصل في القضية ويجب رد أي نص آخر إليه، ومن ثم لايمكن أن يأتي أحد ويعتمد على الحديث الثاني ويقول : " يجوز صيد المدينة لأنه - عليه السلام - لاطف الغلام بعصفوره، وهو صيد " ! / ، فالحديث الثاني بالنظر إلى الأول ترده الاحتمالات فيتم تأويله لامحالة ، أما الحديث الأول فلا يحتمل إلا وجها واحدا ولا يؤول .

/  ينظر لزاما ابن القيم ( إعلام الموقعين ) ج 2 ، ص 347  / 

 

يضاف إلى ذلك ما أنصح به طلابي دائما أنه يجب عليهم ألا يأخذوا نصا هكذا وحده، وإنما عليهم أن يجمعوه مع بقية النصوص التي تتكلم عن نفس الموضوع في نسق واحد ثم يدرسوا القضية ككل .

 

وبالتالي إذا عدنا إلى حديثنا نجد أن :

قوله تعالى في المرحلة المكية : ( كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة )  .. محكم

وقوله عليه الصلاة والسلام : ( جئتكم بالذبح )  ....................... متشابه

فيجب تفسير المتشابه على ضوء المحكم، وعدم قطعه من سياقه ..

 

وفي ظني أن أول من وقع في الخلل العلمي بخصوص هذا الحديث وأثار العمل بظاهره ، مقتطعا إياه من سياقه ، ومن دون النظر الأصولي المعهود ، هو المهندس محمد عبد السلام فرج - غفر الله له - وقد ناقشه العلامة جاد الحق - أحد فحول الأزهر - في كتابه ( نقض " الفريضة الغائبة " )  وذهب إلى أنه يُحمل على المجاز / تذكية النفوس وتطهيرها / لا الحقيقة ، بأدلة كثيرة منها الدلالة اللغوية، ومنها المنهج النبوي في الدعوة المكية من خلال أمر الصحابة بتحمل الأذى وعدم رفع السلاح ..

غير أني أرى أن الحديث وإن حُمل على الحقيقة فهو لا يُخالف السيرة المكية { كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة } , لأنه ورد ( وفق قاعدة وجوب أن يُنظر النص الشرعي بتمامه وضمن سياقه ) في معرض رد الكيد والتهديد القولي لدفع شر المشركين أو المقارعة وإثبات الندية .. بمعنى أنه خاص بأناس محددين وهم طواغيت قريش الذين حاربوا الدعوة بكل السبل ولم يتركوا أي مجال آخر .

كحال النبي عليه الصلاة والسلام مع ابن خلف فقد ورد في مصنف عبد الرزاق : ( .. وأما أُبي بن خلف فقال: والله لأقتلن محمداً، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : بل أنا أقتله إن شاء الله .. ) .

وهذا مناسب لوضع النبي عليه السلام الدعوي ، حيث طُلب منه مجرد الدعاء على المشركين فرد : ( إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا ، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً ) رواه مسلم .

ثم عندما دخل النبي - عليه الصلاة والسلام - مكة منتصرا ، هل ذبح من حاربه وطارده وشرده ؟

نجد عكس ذلك تماما ، فمثلا حين قال زعيم الأنصار سعد بن عبادة أثناء فتح مكة :

" اليوم يوم الملحمة .. " فبلغ ذلك النبي - عليه السلام - فقال : " كذب سعد ، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة .. " البخاري .

وفي رواية عند البيهقي : أنه عليه السلام عزل سعد .

 

نعم حديث : " اذهبو فأنتم الطلقاء " لم يصح لفظه ، لكن صح معناه، بدليل الحدث التاريخي وهو العفو ، وبدليل الحديث الصحيح : " من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن " . أبو داوود .

 

هذا ما بدا لي والله تعالى أعلى وأعلم .

الحلقة السابقة هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين