الرسالات الإلهية والعقل الإنساني – 2 -

 

أما الدور الثاني للرسالات الإلهيَّة فهو دور مُؤاخاة العقل ومُظاهرته، حتى يتغلَّب على جموح الغرائز ويكفكف من حِدَّتها، ويُطامن من غروبها، ويقلل من اندفاعها ويوجهها وجهة صالحة دون كبت يُميتها أو انطلاق يُفسدها.

ومجال هذا الدور هو الحياة الواقعيَّة التي يحياها الأفراد والجماعات، وتحديد علاقة الفرد بالفرد، وعلاقة الفرد بالجماعة، وعلاقة الجماعة بالجماعة، بل علاقة الفرد والجماعة بالحياة والأحياء، وتنظيم هذه العلاقات على أسس من العدل تعطي لكلِّ ذي حقٍّ حَقَّه وتشيع بين الأحياء الثقة والاطمئنان والتعاطف والتواسي والمحبَّة والإخاء.

والعقل الإنساني في هذا الدور يجبُ أن يكون هو المسيطر على الغرائز، يقودها بحكمته ويوجِّهُها بسياسته، والرسالات الإلهيَّة هي المرشد العليم، والمستشار الأمين، والناصح الحكيم، وعلى ضوء إرشادها ونصحها ومَشُورتها يسير العقل في طريقه مُؤدياً واجبه على أكمل وجه في الحياة.

ولقد مرَّت الإنسانيَّة بأطوار مُتعدِّدة اختلفت عليها في تلك الأطوار الرسالات الإلهيَّة فكانت فيها مَعَالم للتاريخ على تلك الأطوار، وكانت كل رسالة في الغالب مبدأ لطور ونهاية لآخر، وقد احتفظت تلك الرسالات بخصائص ومميزات هي في الواقع خصائص ومميزات الأطوار التي سايرتها. ومن تلك الخصائص يُعرف نصيب العقل الإنساني من تلك الأطوار، فهو مولود مع الإنسانيَّة وخاضع لما تخضع له من حكم التدرُّج في طرق الاكتمال.

وكما مَرَّت الإنسانيَّة في مرحلة الطفولة الغريرة محكومة بالغرائز المنطلقة مرَّ معها العقل الإنساني في هذه المرحلة مُنطلقاً مع الغرائز يفتح لها أبواب الماديَّة المجنونة الجائعة وجاءت الرسالات الإلهيَّة في هذا الطور تومئ إلى الحقائق العُليا ولا تُفصح، وترمز ولا تصرِّح تمشياً مع طاقة الإنسانيَّة الساذجة، وحالة الطفولة التي يمرُّ العقل في مرحلتها في هذا الطور من أطوار التاريخ البشري.

واستعراض الصور الجدليَّة التي يقصُّها التاريخ، وتحدثنا بها كتبُ الرسالات الإلهيَّة عن أوائل الأنبياء ومُتقدميها في الزمن: كنوح وهود وصالح مع أممهم تدلنا على أنَّ العقل البشري وقتئذ كان مُدثراً في مهاد الطفولة محاطاً بالغرائز.

وكان هؤلاء الرسل الكرم ممن قصَّ الله علينا سيرتهم قد ضاقوا ذرعاً بهذه البلادة العقليَّة.

وذلك التعبد الذليل للغرائز العمياء التي تستلهم المادَّة في أغراضها وتستوحي الأرض في مطالبها، وتتصامم عن صوت السماء، حتى إذا استيأسوا وظنُّوا أنَّ منافذ الأول في إيقاظ العقل قد سُدَّت، وأبواب الرجاء في تخليصه من سيطرة الغرائز وسلطان الطين قد أقفلت، وأنَّ رواسب الطبيعة الكثيفة عَدَت على أوائل الفطرة الباقية فمسختها إلحاداً لا يفيء إلى إيمان، وسرى دم الآباء والأجداد في شرايين الأبناء والأحفاد، تبيناً للحكمة الإلهية في اعتقاب داء العقول لمظاهرها في الأفراد حتى يصبح ذلك الداء العقيم هو داء الجماعة العصي، وتحقيقاً للوراثة الروحية المنحدرة من الأصول إلى الفروع طلبوا التطهير العام والإفناء المستأصل إيذاناً بطور جديد من أطوار الإنسانيَّة يتجدَّد به ميلادها، وتتجدَّد به بذرة الإنبات لجيل جديد لم تفسده أوضار التقليد الأبله، ويحمل عقلاً شبَّ عن الطوق، وتهيَّأ للتغلُّب على طراءة الطفولة، والتفلُّت من أغلال الغرائز، ونير الماديَّة واستعدَّ لفهم لغة الأرواح وأحاديثها عن عوالم الغيب وموازين الأخلاق، فكانت النهايةُ التي لابدَّ منها: [وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا] {نوح:26-27}.

واستجاب الله تعالى ومضى القدر، وتمَّت النهاية واستفتحت الحياة طوراً جديداً كان فيه الإنسان قد فتح عينيه على نجوم السماء وآياتها فأخذ بريقها بعقله، فألقى إليها بيديه وألَّهها وتعبَّد لها، فجاءت إليه رسالة إبراهيم عليه السلام تخاطبه مُتدرِّجة به في مرحلة المعارف العليا لتقوده – مُستعينة بالحسِّ الذي كان لا يزال له المكان الأول في مدركاته – إلى آفاق الحقائق الكليَّة وعوامل التجريد، وقد صوَّر لنا القرآن الكريم ذلك أبدع وأوجز تصوير في قوله تعالى: [فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الآَفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ] {الأنعام:76-78}.

الكواكب الزاهرة والقمر المنير في دُجى الليل، والشمس المشرقة هي أول ما يَأخذ بأبصار المقيدين بأغلال الحسِّ والمشاهدة، وأول ما يَلفت نَظَرهم في عوالم السماء، وهي كائنات فوق عالم الطين، وعوالم الأرض، لها فيها آثارها، ولها عليها جلالها وقوتها، لكنها تأفل وتغيب عن الحسِّ فيذهب أثرها، وتمحى قُوَّتها ويتبدَّد جلالها الذي يبهر الحسَّ، والربوبية كمال أَزَلي لا يجوز عليها الأفول ولا يَعتريها التغيير، بل يجب أن تكون مظاهر وجودها على الكون سابغة وسلطانها على الخليقة مبسوطاً تمنح كلَّ موجود عناصر وجوده وتعطيه مقومات حياته، إليها وحدَها يكون التطامن والخضوع والتعبد والخشوع: [إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] {الأنعام:79}.

ولقد كان للعقل الإنساني في هذا الطور من أطوار الحياة ومضات، إذا نبَّهته الرسالة الإلهية تنبه وأشرق بنور الحق من خلال تلك الومضات ولكن في سرعة خاطفة وإذا غلبت عليه كثافة الغرائز المتحكمة نكص على عقبيه وعاد كأن لم يبصر من الحقِّ شيئاً، وهذا ما صوَّره القرآن الكريم، أبرع تصوير في هذه المحاورة بين منطق الحق والإيمان على لسان الرسالات الإلهية، وبين منطق الضلالة والحيرة على لسان عبيد الغرائز العمياء، في قوله تعالى: [وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ] {الأنبياء:51} إلى قوله سبحانه: [لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ] {الأنبياء:65}. 

وهو تصوير يُمثِّل مُغالبة الطبيعة الحالكة للعقل الحبيس مع قارعات الحجج الإلهيَّة، وداويات النذر لم تجد من العقل إلا يقظة المغلوب، فلم يبقَ للرسالة الإلهيَّة إلا الأسف الحزين: [أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ] {الأنبياء:67}.

كان تعبُّد العقل للغرائز البلهاء في أمة (نوح) عليه السلام تعبداً شاملاً لم يترك للعقل مَنْفذاً ينظر منه للحياة غير منافذ تلك الغرائز المادية المظلمة، فكان جزاؤها الفناء العام تحقيقاً لحكمة التطهير والوقاية من داء البلادة الوراثيَّة، وكانت الإنسانيَّة على عهد إبراهيم عليه السلام قد استقبلت من أمر العقل عقلاً ناشئاً لم ينضج ولم يتحرَّر تحرراً مُنطلقاً، فكان إذا كشف له الرسالة الإلهيَّة الغطاء أبصر إبصار الأرمد، ثم عاد إلى مكانه حَسيراً يتطلَّع إلى نور الهداية الذي ظلَّ يُهاديه ويواصله في صُور مُتعدِّدة ومن هنا يلحظ المتأمِّل في تاريخ الرسالات الإلهيَّة أنَّ هذا الطور من أطوار الإنسانيَّة كان أحظى أطوارها بمطالع الرسالات تمكيناً للأسباب والدوافع من إنضاج الفطرة في دور مراهقة العقل وتعبده للنزوات المادية في أشكالها المختلفة، حتى يتهيَّأ العقل للانطلاق من سجن الغرائز بالغاً رشده ناظراً إلى السماء وعوالمها، قادراً على إدراك المعارف العليا من عالم الغيب والنبوات، والوحي والحياة الآخرة والأرواح. 

وفي هذا الطور حفل التاريخ البشري بأعمال عقليَّة ضخمة، سجَّلها فيما ادَّخره من تراث الفلسفة الإغريقيَّة التي خرَّجت نخبة من قادة الفكر في الحياة، وفي هذا الطور بدأت الرسالات الإلهية تؤاخي بين الحقائق العُليا من المعارف الكونية وبين أمور الحياة الواقعة والحوادث الجزئيَّة التي تحيا مع الناس ويحيا الناس معها، فتحدَّثت التوراة عن الخالق جلَّ شأنه وعن الكون، وعن النبوة والأنبياء والوحي والملائكة، وعن الحياة الآخرة وعن الثواب والعقاب، وعن علاقة المخلوق بالخالق، وعلاقات الناس بعضهم ببعض في حياتهم التي ينقلبون فيها، ونحو هذا من القضايا والتشريعات التي لم تفصح عنها الرسالات السابقة.

بيد أنَّ أسلوب التوراة في التعبير عن ذلك كله كان أسلوباً يَعتمد على الحسِّ وتغمره الأمثلة والصور الماديَّة ويقل في المنطق الروحي القائم على التجريد، وذلك مراعاة لأثر الرواسب الفرزية المستخفية في داخل الطبيعة البشريَّة مما كان يطفر إلى سطح الحياة في غفلة من العقل كما تطفر فقاعات الهواء الفاسد التي تتنفَّس عنها حياض المستنقعات، وكان جيل بني إسرائيل هو المرآة التي ظهرت فيها تلك الصور، فهو جيل عرف من الحقائق العُليا ما لم يعرفه غيره ممن سبقه من الأمم، وهو جيل خاطبت فيه الرسالات الإلهيَّة العقل وشرَّعت له، وهو نفسه الجيل الذي تبلَّد عقلُه وأنكر معارفه العليا في لحظة استعلى فيها سلطان الغريزة فحجبه عن السماء وجذبه إلى الأرض ونسي ماضيه القريب.

والقرآن الكريم يُصوِّر ذلك تصويراً بارعاً في قوله تعالى: [وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ البَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ] {الأعراف:138}.

فليس إلا مجاوزة البحر بهم، وكانوا قبل هذه المجاوزة المثل المضروب في عرفان الحقائق العُليا، وتوحيد الله تعالى ونعوت كماله، فنسوا ذلك كله، وعادوا كأخبث ما كانت طبيعة بليدة مظلمة، وكأضعف ما كان عقل مُستعبد للمادَّة العمياء.

أما التشريع للحوادث الواقعة في الحياة اليوميَّة التي تربطها بالناس وتربط الناس بهم فقد أحالته غرائزهم المسعورة إلى رسوم استغلاليَّة لا تُقيم وزناً للقيم الخلقيَّة ولا تعرف فيصلاً بين فضيلة ورذيلة سوى المنفعة الذاتية، مهما كانت وسيلتها، ولذلك جاءهم الإنجيل ترنيمات زاهدة خاشعة مُترهِّبة مُتصوِّفة لتهدئة فورة الغرائز وتخفيف ثورتها ولكن طبيعتهم المتمرِّدة لم تألفْ تلك الترنيمات ولم ينسجمْ وقعها في قلوبهم فمسخوها وثنيَّات سخيفة أنكرها العقل الذي بلغ في الطور من أطوار الإنسانيَّة رُشدَه وتكاملت خصائصه، فاشرأبَّ إلى مكانه من الحياة، وتطلع ينظر في شوق إلى السماء ليسمع من آفاقها النداء برسالة إلهيَّة كاملة شاملة تقوده إلى آفاق المعارف الكونيَّة العُليا وأسرار الوجود ونظم الحياة، فكانت تلك الرسالة هي الرسالة المحمديَّة خاتمة الشرائع الإلهية على يد محمدِ بن عبد الله صلوات الله عليه وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة المسلمون، السنة الأولى، جمادى الأولى 1371 - العدد 3).

الحلقة السابقة هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين