الرسالات الإلهية والعقل الإنساني – 1-

 

مكان الرسالة الإلهيَّة من الحياة مكان العقل الإنساني من أفراد البشر، والعقل هو المرشد الأول للإنسان، يهديه إلى سواء الطريق، وينير له ظلمات الوجود، ويفتح أمامه مَغَاليق الكون، ويسدِّدُه في مسيره ضارباً في بيداء الزمن حتى يقضي ما قُدِّر له من بقاء.

وعلى قدر استعداده الفطري يكون كسبه من تجارب الحياة، وعلى قدر ما يكسبه من تلك التجارب تكون فائدته، وعلى قدر هذه الفائدة تكون مكانة الفرد في الجماعة ومكانه منها، ومن ثَمَّ يتدخل العقل بوساطة الفرد في إرشاد الحماية وهدايتها وتسديدها والسمو بها صعداً في مدارج الرقي والكمال.

وإذا كانت الحياة لم تعرفْ حَدّاً لرقي الفرد في الجماعة البشرية ينتهي إليه فأحرى ألا يكون للجماعة نفسها حد تقف عنده في رقيها، فالحياة مُتجددة، والمعارف الإنسانيَّة متزايدة.

والعقل البشري دائب العمل، وخزائن الكون لا تزال مغلقة، وأسراره ما برحت محجَّبة، وحقائقه ما فتئت مجهولة.

وكيف يقف رُقي الفرد أو الجماعة عند حد، ومهمة العقل في الحياة هي كشف تلك الأسرار الكونيَّة، ومعرفة حقائق الوجود واستخدامها في إفادة الإنسانيَّة؟ ومن الغرور العقلي أن يزعم إنسان أنَّه وصل إلى درجة من المعارف والعلم بحقائق الكون وأسرار الوجود تقربه من الكمال المقدور للبشرية، فالمجهول من تلك الأسرار وهذه الحقائق لا يزال أعظم بكثير جداً مما عُرف، والذي عرف لا يزال الكثير منه مستخدماً في الحياة على غير جهته التي تفيد منها الحياة، فالجهاد أمام العقل واسع المدى فسيح الجنبات.

بيد أنَّ هذه المعارف العقليَّة التي لا تنتهي عند حد في الأفراد والجماعات هي في الواقع المشهود محدودة المنزع، لا تتعدَّى مشاهد الوجود ومظاهر الكون.

وهنا يأتي دور من أدوار الرسالات الإلهيَّة في قيادة العقل إلى مجاهل الطبيعة ومطبوعها ومداخل الوجود، وبواطن الحياة، بل إلى ما وراء الطبيعة وإلى ما فوقها، إلى الخالق جلَّ شأنه، وإلى عظيم قدرته، وباسط سلطانه، وبالغ حكمته، وواسع علمه، وهيمنة إرادته، وإلى الكون وما فيه من أسرار وآيات ودلائل تدل – مما اشتملت عليه من نظام مُتماسك وقوى مُترابطة وسنن مُتوافقة، ومَنَافع مُتتابعة – على فضل الله ورحمته ولطفه وإحسانه وجوده وقهره وكبريائه ولطائف تدبيره.

وهذا مجال تنبيه وإرشاد تتجه فيه الرسالات الإلهية إلى مخاطبة العقل لتوجهه إلى تعرف جلال الكون وعظمة الوجود، وخطر الحياة ليقف منها على وشائج التكوين والإبداع التي تصل المخلوق بالخالق سبحانه وتربط بين أجزاء الوجود، وتكشف عمَّا طوى فيها من منافع واستجابات لرغبات الإنسان الماديَّة والروحيَّة.

وكلما اتسعت مَعَارف العقل من حقائق الكون ازدادت استجابات الحياة له وقوي سلطانه في تسخير قوى الطبيعة فيما يُفيد النوع الإنساني ويُرقي عناصره ويدعِّم قواه ويهيئ أمامه الفرص للتغلب على احتمال أعباء الحياة في ثقة واطمئنان.

وليس العقل الإنساني بمعصوم من الزلل والخطأ، بل ربما كان من الحق أن يقال إنَّه كثير الخطأ والزلل، ولاسيما إذا ضعف أمام الغرائز والقوى الحيوانيَّة واستجاب لدواعيها، وخضع لسلطانها، فإنَّه حينئذ يُصبح أداة طيِّعة لهوى تلك الغرائز وعبداً لشهواتها تتحكَّم فيه وتوجهه في طريق أغراضها وتصبح معارفه وسيلة من وسائلها في تلوين الحياة كما تشتهي وتريد.

وتاريخ الحياة والأحياء يدل على أنَّ سلطان الغريزة كان أقوى في الأفراد والجماعات من سلطان العقل، ويدلُّ على أنَّ الحياة أسرع استجابة لنداء الغريزة من منطق العقل وأسلس قياداً في يد الغريزة منها في يد العقل، والغرائز في الإنسان شبيه بعضها ببعض في مطالبها وغاياتها، ولكنها تختلف في الأفراد قوة وضعفاً، وظهوراً وكموناً، وليس العقل الإنساني على هذا الغرار في أفراد الإنسان، فهو مختلف فيهم أشد الاختلاف، وقلَّما يتفق عقل وعقل، فاتفاق الغرائز في الغايات يكسبها قوة في مطالبها وتنفيذ أغراضها، واختلاف العقول يوهن من سلطان العقل على الغرائز، والغرائز منافذ للقوى المادية تتنفَّس منها، ومن ثمَّ نراها تشتطُّ في تنفيذ رغائب الجسد، وتحاول أن توجه قوى الحياة – حتى العُليا منها – إلى مقاصد مادية، لا وزن عندها للقيم الخلقيَّة من العدل والرحمة والإيثار إلا إذا كانت وسيلة لنفع مادي وقضاء شهوة جسديَّة، فالظلمُ والقسوة والأثرة في لغة الغرائز ومنطق المادة الصمَّاء تساوي العدل والرحمة والإيثار في كثير من الأحايين والأوقات.

فالغرائز إذا انطلقت على سَجَاياها وتغلَّبت على العقل كيَّفت أعمال الأفراد والجماعات على حسب مُيولها وهواها، وخلعت على تصرُّفات الأشخاص والأشياء نعوتاً من لغتها حتى تصبح القوة هي الميزان الأعلى في شرعة الحياة، ولا فرق بين أن يكون هذا الميزان منصوباً على حشائش الأحراش والأدغال وعلى أبواب الكهوف والغيران، أو موضوعاً على بساط من سندس الحضارة الزائفة الملوثة بدماء الضعفاء.

وهنا يأتي دور آخر للرسالات الإلهيَّة هو دور إيقاظ العقل من ذهول سطوة الغرائز، وإفساد المجال أمامه لتنظيم رغائبها في صورة تخضعها لموازين الأخلاق، وإعطاء الفضائل قيمتها في الحياة ووضع الرذائل في مواضعها منها حتى تُقاس كل فضيلة أو رذيلة في أعمال الأفراد والجماعات بمقياسها العادل الذي لا يَعرف الغشَّ والخداع.

فالدور الأول للرسالات الإلهيَّة دور قيادة وتعليم، ومجالها في هذا الدور هو الحقائق الكلية والمعارف العليا، فهي التي تنبئ عن الغيب وتكشف عن حقائقه في صور وأمثال تقرِّبها إلى الواقع المشهود حتى تكون دانيةً إلى مجال العقل ومدركاته وهي التي تتحدَّث عن الخالق ونعوت كماله، وعن فَيض الحياة من خزائن رحمته، وعن عَوالم السماء والأرواح، وعن الوحي والنبوَّة، وعن نظام الكون وقوانين تَرابطه، وعن الحياة الأخرى، وما فيها من ثواب وعقاب، ولا سبيل للعقلِ وحدَه إلى إدراك هذه الحقائق إدراكاً يتجاوب صَداه مع الواقع الغيبي في هذا المجال؛ لأنَّ الغيب محجوب عن الحسِّ، والحس بأدواته الماديَّة هو المشكاة التي يستضيء بمصباحها العقل، فيهتدي إلى أوليات من الحقائق يحمل عليها مثيلاتها بضرب من القياس والتشبيه، ومن هذه الحقائق تتولَّد القضايا العقليَّة المنتزعة من الوجود المشهود انتزاعاً مُباشراً أو غير مباشر.

فالعقلُ الإنساني في هذا الدور يجب أن يكون خاضعاً للرسالات الإلهيَّة، آخذاً عنها وهي التي تمدُّه وترشده وتهديه، فإذا استجاب لها أمن العثار والزلل، وإذا تأبى عليها وقع في أغلال الغرائز، وانقلب عمله إلى استجابات ماديَّة تصبُّ المعارف العليا في قوالب وثنيَّة تعتمد على التشبيه والتصوير، وتاريخ الفلسفات والأديان مليء بالشواهد الصادقة على ذلك.

للمقالة تتمة في الجزء الثاني.

 

المصدر: مجلة المسلمون، السنة الأولى، جمادى الأولى 1371 - العدد 3

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين