مقالات متناثرة

 

بقلم: د. عبد الحكيم الأنيس

 

 

    شارك كثيرٌ من العلماء والأدباء في الصحافة المحلية والإقليمية، وكتبوا في الجرائد والمجلات، وكانت مقالاتُهم ذوب عقل، وخفقة قلب، وخلاصة حياة، وقد جمع عددٌ منهم مقالاتهم – أو قسماً منها- في كُتُبٍ، فحُفظتْ، وبقيتْ، وأمكن الرجوعُ إليها، والاستفادة منها، وظلَّ في بطون الجرائد والمجلات كثيرٌ من المقالات الماتعة، والقصائد الرائعة، وخسر العلمُ والأدب بغياب هذا النتاج خسارة فادحة.
  وقد كان الأجداد أذكياء حين لجؤوا إلى ما يُسمَّى بـ " المجاميع"، وهي كتبٌ تجمع بين دفتيها كتباً كثيرة، والمجاميع نوعان: الأول: خاص بمؤلفات مؤلِّف واحد، والثاني: يجمع مؤلفات لمؤلفين متعددين، وهذا النوع الثاني قد يلتزم بموضوع واحد يحشد ما توصل إليه من مؤلفات فيه، وقد لا يلتزم، والأمثلة على ذلك كثيرةٌ جداً.
 
  وأريدُ مِنْ هذا التمهيد أن أدعو إلى جمع مقالات علمائنا وأدبائنا من بطون الجرائد والمجلات، وتقديمها لجيلنا والأجيال القادمة، فإنَّ فيها علماً وأدباً، وعقلاً ونضجاً، وكلما مر الزمن تعسر هذا أو تعذر، فالمبادرة مطلوبة جداً، والتسويف يضيّع خيراً كثيراً. وقد بادر الشيخ علي الطنطاوي فجمع من مقالاته كتباً نافعة مهمة، وترك أشياء فضاع له الكثير، ونسأل الله أن يوفق الأستاذ مجاهد ديرانية لاستكمال مشروعه في جمع هذا " التراث الطنطاوي" المميز.
 
    وكان العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة قد انتبه إلى أهمية مقالات الشيخ خليل الخالدي، وكان من آماله العلمية إصدارها، وتُوفي ولم تصدر، وقد جَمعتُ وقرأتُ ودرستُ عدداً منها، اشتياقاً إلى ما شوّق الشيخ إليه – رحمه الله - .
  ومن تلك المقالات مقالات العلامة اللغوي المؤرخ محمود شكري الآلوسي (ت: 1342هـ).
  ومقالات العلامة اللغوي المؤرخ كامل الغزي (ت : 5113هـ)، وقد جمعت عدداً من مقالاتهما.
  ومنها مقالات العلامة المؤرِّخ المحقِّق الشيخ محمد راغب الطباخ (ت: 1370)، وقد اعتنى بذلك الأخُ البارع البحاثة المجيد الشيخ مجد مكي، ولكنه يسبحُ في أكثر من بحر، ولعله يخرج إلى الشاطئ قليلاً، ويتفرغ - أو يُفرَّغ - لإنجاز هذا المشروع الكبير فهو من الأهمية بمكان.
   ومنها مقالات الأديب المؤرخ محمد سليم الجندي (ت:1375هـ)، وقد نشر الكثير في مجلة المجمع العلمي، ومجلة الهلال المصرية، ومجلة العرفان، ومجلة الرابطة الأدبية.
 
ومنها مقالات الأستاذ محمد بهجة الأثري، وقد اعتنى بجمعها الأستاذُ الدكتور عامر حسن صبري، ولكنه لم يصدر بعد شيءٌ من ذلك.
 
 ومن تلك المقالات مقالات الشيخ جلال الحنفي البغدادي، وقد كان غزير الكتابة، وفي شبابه كان أحياناً يكتب ثلاث مقالات في يوم واحد لثلاث صحف، حتى إنه دفع مبلغاً مالياً لرئيس تحرير لينشر مقالاته.
 

وقد سافر إلى الصين مدرساً للغة العربية في معهد اللغات بشنغهاي، وقال عنها: (الصين بلاد عجيبة، رأيت فيها الكثيرَ من الغرائب، ودونُتها في كتاب خاص بذلك، وكنت أراسل صحيفة " البلد" وكتبت فيها(30) مقالاً عن هذا البلد)، واستخراجُ هذه المقالات وجمعها مهم جداً.
 
      والحديث عن اشتغال الشيخ الحنفي بالصحافة، وكتابته فيها، وإصداره مجلة تسمى مجلة " الفتح" طويل ممتع.
   ومن آخر كتاباته عموده الأسبوعي في جريدة القادسية تحت عنوان: "رؤوس أقلام أسبوعية"، وكان يَصدر كلَّ أحد، واستمرَّ فيه وقتاً طويلاً، وكان يُشرك في رؤوس الأقلام هذه آخرين، وقد نَشَرَ لي عدةَ رؤوس.
 
ومن المقالات المهمة النافعة المتينة ما كان يكتبه الأستاذ "أبو خلدون" – رحمه الله- في جريدة " الخليج"، ولا أعرفُ اسمه.
 
وما كان يكتبه الأديبُ عبد المجيد الشاوي البغدادي في جريدة العراق وغيرها، ويقول هو عن نفسه: ( ليس لي في التأليف حضورٌ، غير أني كتبت إلى هذا العهد (سنة 1994م) أكثر من ست مئة مقالة صحفية في الأدب واللغة والتراث والتاريخ والفقه الإسلامي) كما في ترجمته في " موسوعة أعلام العراق" (1/ 135).
وكنت أقرأ كلَّ ما يكتبه، وأحتفظُ به، وأحتفظُ كذلك مما كتبه أبو خلدون بعدة مقالات.
وقد يكون العالم مقلاًَّ من كتابة المقالات، كالشيخين الجليلين الشيخ عبد الكريم الدبان التكريتي، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، ولا يجوز أن يكون هذا سبباً لعدم جمع ما كتباه، ففي كتابات بعض العلماء فائدةٌ في كل كلمة يكتبانها.
 
ومن المقالات المهمة جداً مقالات الأمير شكيب أرسلان، وكان عالماً أديباً شاعراً سفيراً لقضايا الإسلام والمسلمين في العالم، وقد رأيت قريباً كتاباً في أجزاء جُمِعَ فيه رسائل له، وينظر هل كان ذلك على طريق الاستيعاب، فقد كان غزير الإنتاج جداً.
 
ومنها مقالات العلامة مصطفى جواد، وقد قامت وزارة الإعلام العراقية بمشروع جمع مقالاته، وصدر من ذلك جزآن ، ولم يصدر بعدهما شيء!.
وللدكتور محمد عبد المطلب البكاء جهود مشكورة في ذلك.
وإنني هنا أدعو كلَّ كاتب أن يجمع مقالاته –أو يفهرسها على الأقل- بنفسه،
أو يكلف أبناءَه أو طلابَه بذلك، فإنَّ مرور الزمن يُنسي ويصعب المهمة.
 
وقد كان الغربيون منتبهين إلى هذه الفهرسة، ولهذا فحين سأل لويس ماسنيون الأبَ أنستاس ماري الكرملي اللغوي المعروف عن مقالاته،وأجابه بأنه ليس لديه فهرس لها، عجب من ذلك، وقد تولى الأستاذ كوركيس عواد هذه المهمة، وتحدَّث عن ذلك في كتابه عنه(الأب أنستاس ماري الكرملي: حياته ومؤلفاته) وقد بلغت أعماله أربعة آلاف عمل!
 
  ولننظرْ إلى " فيض الخاطر" وهو مجموع مقالات الأستاذ أحمد أمين في عشرة أجزاء، فلو لم يجمعها هو مَن كان سيقوم بذلك غيره، وهل سيتمكنُ من الإحصاء؟
  ورحم الله ابنَ الجوزي الذي جمع لنا خواطره في " صيد الخاطر"، ولو لم يفعل فمَن تُرى في مقدوره تتبُّع أفكاره وخواطره في مؤلفاته وهي بالمئات؟
  والفضلُ في هذا لابن عقيل الذي جمع كلَّ شيء رآه، وسمعه، وخطر له، ونظر فيه، وقاله، في كتابه الكبير " الفنون".
 
و أخيراً فإنَّ فينا حاجةً ماسةً إلى فهرسٍ يجمعُ ما صَدَرَ مِنْ كتب جمعت المقالات المتناثرة، ليعرفها الباحثون والدارسون والقارئون، وليُجْمَعَ ما لم يُجْمَعْ منها. والله المستعان.
 


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين