حدث في التاسع من رجب وفاة القاضي أبو الوليد الباجي سليمان

في التاسع عشر من رجب من سنة 474 توفى، عن 71 سنة، في المريةAlmeria بالأندلس القاضي أبو الوليد الباجي سليمان بن خلف بن أيوب بن وارث التجيبي الأندلسي القرطبي الباجي، الإمام العلامة المحدث الرحالة المناظر، الذي مثلت حياته وحدة الأقطار الإسلامية في المشارق والمغارب، ودفن في رباط المرية على شاطئ البحر.

ولد أبو الوليد الباجي سنة 403 بمدينة بطليوس Badajoz في جنوبي غرب الأندلس ثم انتقلت أسرته إلى باجة Beja، جنوبي البرتغال اليوم، ثم سكنوا قرطبة، وكان من أهل بيت عرف بالصلاح والتدين والعفاف والتصاون، وكان والده خَلَف تاجراً في قيروان باجة، ارتحل إليها للتجارة من بلده، وكان وافر الصلاح والتدين والتورع والتعبد، منقبضا عن الدنيا متقللا منها مع جاهه وحاله واتساع ثروته، وفي آخر سنينه أقبل على العبادة والاعتكاف إلى أن توفي رحمه الله.

وكانت أم أبي الوليد ابنة العالم الكبير أبي بكر محمد بن موهوب التجيبي القَبْري القرطبي، المتوفى سنة 406، وكانت توصف بالفقيهة وكان والدها من العلماء الزهاد الفضلاء، رحل إلى المشرق فسمع من رجاله، وغلب عليه علم الكلام والجدل على مذهب أهل السنة، وله مؤلفات في ذلك، وكان خال أبي الوليد عبد الواحد بن محمد محدثاً أديباً شاعراً سرياً متواضعاً ولي القضاء والخطبة ببلنسية والمظالم بشاطبة، وتوفي بها سنة 456 عن 79 سنة.

وقص أبو الوليد الباجي قصة زواج والده من والدته فقال: كان أبي من تجار القيروان من باجة القيروان، وكان يختلف إلى الأندلس، ويجلس إلى فقيه بها يقال له: أبو بكر بن سماح، وتعجبه طريقته، فكان يقول: تُرى أرى لي ابنا مثلك؟ فلما أكثر من ذلك القول قال ابن سماح: إن أحببت أن ترزق ابناً مثلي فاسكن بقرطبة، والزم أبا بكر محمد بن عبد الله القبري، واخطب إليه ابنته فإن أنكحكها فعسى أن ترزق مثلي. فقدم قرطبة ولزم أبا بكر القبري سنة وأظهر له الصلاح فأعجب بطريقته، ثم خطب إليه ابنته بعد سنة فزوجه بها، وحقق الله رجاء الوالد أن يكون في أولاده عالم يشار إليه بالبنان، فأكرمه بأبي الوليد الذي كان أوسط أبنائه الذكور، ولم يكن منهم إلا مشهور بالحج والجهاد والصلاح والعفاف، وكان أحدهم صاحب الصلاة بسرقسطة.

طلب أبو الوليد العلم مبكراً توفيقاً من الله وتحقيقاً لرغبة والده، ودرس على شيوخ الأندلس من أمثال القاضي أبي الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث الصفار، المتوفى سنة 429، والذي تولى القضاء للخليفة هشام بن محمد المرواني سنة 419، وقد زاد على الثمانين؛ وهو ذو ذهن ثابت، جزل الخطابة، حاضر المذاكرة؛ وكان من أهل العلم بالفقه والحديث، كثير الرواية، وافر الحظ، قائلاً للشعر النفيس في معاني الزهد وما شابهه، بليغاً في خطبته، كثير الخشوع فيها، لا يتمالك سامعه من البكاء، مع الخير والفضل، والزهد في الدنيا، والرضى منها باليسير؛ وله كُتب حِسان في الزهد والدقائق، منها كتاب: فضائل المنقطعين إلى الله.

ودرس أبو الوليد على الإمام المقرئ أبي محمد مكي بن أبي طالب، المولود في القيروان سنة 355 والمتوفى بقرطبة سنة 437، وكان عَلَماً في القراءات والتفسير والعربية، وأخذ أبو الوليد عن قاضي سرقسطة أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن فورتش، المولود سنة 381 والمتوفى سنة 435، وكان ثقة في روايته، ضابطاً لكتبه، فاضلاً ديِّناً، عفيفاً راوية للعلم، وأخذ عن عالم وَشْقة Huesca وقاضيها أبي الأصبغ الوشقي، عيسى بن خلف بن عيسى ابن أبي درهم.

ثم رحل أبو الوليد الباجي إلى المشرق في سنة 426 مخلفاً زوجته وولده، فحج والتقى هناك بالحافظ أبي ذر الهروي، عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن غفير، المولود سنة 356 والمتوفى بمكة سنة 434، وكان مالكياً، له تصانيف منها تفسير القرآن، ومستدرك على الصحيحين، وكان قد جاور بمكة المكرمة وتزوج من عرب جبال السروات وأقام فيها، فكان يحج كل عام، ويحدَّث في الموسم، ثم يرجع إلى أهله، وكان ثقة ضابطا دينا، وقد لازمه أبو الوليد 3 سنوات يسافر معه إلى السراة ويخدمه، وأخذ عنه علم الحديث والفقه والكلام.

ثم ارتحل أبو الوليد الباجي إلى دمشق فسمع من محدثيها، ثم ارتحل منها إلى بغداد فسمع الحديث بها، وتفقه على كبار علمائها، مثل القاضي أبي عبد الله الصيمري، والقاضي أبي الطيب الطبري، وأبي الفضل بن عمروس المالكي، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وأبي عبد الله الدامغاني، وكان مملقاً لا مال عنده، وكان في إمكانه أن يستدرَّ أيدي المحسنين، ولكن الهمة التي دفعته إلى طلب العلم أبت له هذه المهانة، واختار أن يتعاطى عملاً، ولو لم يكن مناسباً لمقامه العلمي، فأجر نفسه لحراسة درب بغداد في الليل، ليستعين بأجرته على طلب العلم بالنهار، وكان يقرأ على ضوء المشعل الذي يوقده.

ونتحدث باختصار شديد عن كل علم من هؤلاء الأعلام وفقاً لسنة وفاتهم، أما أبو عبد الله الصيمري، فهو الحسين بن علي بن محمد الصيمري، المولود سنة 351 والمتوفى سنة 436، قال أبو الوليد الباجي عنه: هو إمام الحنفية ببغداد، وكان قاضيا عالما خبيرا. وشرح الصيمري مختصر الطحاوي في عدة مجلدات، وله مجلد ضخم في أخبار أبي حنيفة وأصحابه.

أما أبو الطيب الطبري، فهو طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري، المولود سنة 348 والمتوفى سنة 450، ولد في آمُل طبرستان، واستوطن بغداد، وولي القضاء بربع الكرخ، وتوفي ببغداد، وله شرح على مختصر المزني في الفقه الشافعي من أحد عشر جزءا.

وابن عمروس، هو الإمام العلامة أبو الفضل محمد بن عبيد الله بن أحمد، البغدادي المالكي، المولود سنة 372 والمتوفى سنة 452، وكان فقيها أصوليا صالحا، وشيخ المالكية ببغداد.

وأما أبو إسحاق الشيرازيّ، فهو إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزابادي الشيرازي، المولود سنة 393، وجاء من شيراز إلى بغداد فلازم القاضي أبا الطيِب وصحبه، وبرع في الفقه حتى ناب عن أبي الطيب، ورتَّبه معيداً في حلقته، وصار أنظر أهل زمانه، وإمام الشافعية في عصره، ومات سنة 476 لم يخلّف درهماً، ولا عليه درهم، وقد أدخل الباجي كتبه في الفقه وأصول الفقه والجدل إلى الأندلس.

وأما أبو عبد الله الدامَغاني، فهو محمد بن علي الدامغاني، المولود بدامغان سنة 398 والمتوفى ببغداد سنة 478، قاضي القضاة وشيخ الحنفية في زمانه، بقي ببغداد قاضياً مدة 30 سنة.

وفي بغداد التقى أبو الوليد الباجي بالحافظ المحدث أبي بكر الخطيب البغدادي، أحمد بن علي المولود سنة 392 والمتوفى سنة 463، وروى كل واحد منهما عن الآخر، وهو ما اصطلح عليه بالتدبيج، وسمع عليه الباجي بعض مصنفاته وعلى رأسها تاريخ بغداد وأجازه بروايته.

وذهب أبو الوليد الباجي إلى الموصل، فأقام بها سنة يدرس على القاضي أبي جعفر السِمناني، محمد بن أحمد، المولود سنة 361 والمتوفى سنة 444، وكان من أذكياء العالم في المنطق وعلم الكلام، وله في الفقه تصانيف، فبرز بذلك أبو الوليد في الحديث والفقه والكلام والأصول والأدب.

ولما قرر أبو الوليد العودة إلى الأندلس في أوائل سنة 437 مر في طريقه على حلب بنية البقاء فيها بضعة أيام، ولكنه جلس فيها سنتين، بطلب من علمائها ووجهائها، ذلك إن أميرها معز الدولة ثمال بن صالح الكلابي كان قد تشيع بسبب معلم قرأ عليه، فرغبت زوجته من أبي الوليد أن يجتمع به ويصرفه عن ذلك الرأي الفاسد، فاجتمع به وناظر بين يديه الشيعة وبين له عوار دعواهم، فأخرجهم الأمير من البلد، وقرأ فيها صحيح البخاري بأكمله معتنياً بفضائل الصحابة، وصار هو القاضي الأول فيها يفتي على مذهب الإمام مالك، وجاءته التهنئة من شيخه السِمناني في الموصل، الذي قال له: استفتحت بلدا ما استفتح القاضي أبو بكر مثله!

وبطلب من والدته وإخوته وأهله رجع أبو الوليد في سنة 439 إلى الأندلس بعد رحلة دامت ثلاث عشرة سنة، واستقر في شرقها في مدينة المرية، وعاد وملء إهابه روايات واسعة وعلم غزير مع فقر مدقع، فعمل في طَرِق الذهب لجعله خيوطاً تدخل في نسيج الملابس، قال أصحابه: كان يخرج إلينا للإقراء وفي يده أثر المطرقة! ثم انتقل من ذلك إلى التكسب بكتابة الوثائق الشرعية كالمبايعات والوصايا والعقود، وما لبث الناس أن عرفوا فضله وفشا فيهم خبر علمه، فأقبل عليه الأعيان يستعملونه في ترسلهم، ويجيزونه بالصلات الجزيلة، ويقبل هو جوائزهم، حتى أصبح من الأثرياء، مع بقاء القناعة ركناً راسخاً في نفسه وسلوكه، وقد أثار هذا القرب من الأغنياء والرؤساء حفيظة بعض من يرى البعد عنهم والتورع عن أموالهم، فتناوله بعضهم غاضاً من قدره وطاعناً في سلوكه، وزاد في ذلك أنه قبِلَ أن يولى قضاء بليدات صغيرة رغم كونه من أكابر علماء الأندلس إن لم يكن أكبرهم، فقد قبل قضاء أوريولة، وإن كان لم يمارسه فقد كان يبعث إليها خلفاءه، وربما أتاها المرة ونحوها.

ولم يكن ذلك إلا إحدى الأمور التي واجهها بعد عودته، ولعل أسوأها أنه اتهم بمعارضة القرآن الكريم وبالكفر، وذلك إنه قرئ عليه بمدينة دانية صحيح البخاري فمر بحديث صلح يوم الحديبية الذي رواه البراء بن عازب رضي الله عنه قال:

لما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. قالوا: لا نُقِرُّ لك بهذا! لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك، ولكن أنت محمد بن عبد الله. قال: أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله. ثم قال لعلي: امحُ رسول الله. قال عليٌّ: لا والله لا أمحوك أبدا! فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، وليس يحسن يكتب، فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القِراب، وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع أحدا من أصحابه إن أراد أن يقيم بها...

وقال أبو الوليد في شرح الحديث بما يقتضيه ظاهر لفظه؛ كتابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: وعلى من يعود ضمير قوله كَتَب! فقال: على النبي صلى الله عليه وسلم! فقيل له: وكتب بيده؟ قال: نعم! ألا ترونه يقول في الحديث: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، وليس يحسن الكتاب.

وهذا القول يتعارض في ظاهره مع نص القرآن الكريم الذي وصف الرسول بالأمية في قوله تعالى في سورة الجمعة: ﴿هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، وقوله في سورة الأنعام: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.

فأنكر عليه الفقيه أبو بكر بن الصائغ الداني، وكفَّره بإجازته الكتابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي الأمي، وأنه تكذيب للقرآن، فتكلم في ذلك من لم يفهم الكلام، حتى أطلقوا عليه الفتنة، وقبحوا عند العامة ما أتى به، وتكلم به خطباؤهم في الجمع، وقال شاعرهم:

برئت ممن شرى دنيا بآخرة ... وقال: إن رسول الله قد كتبا

فصنف القاضي أبو الوليد رسالته المسماة بتحقيق المذهب، وبيَّن فيها المسألة لمن يفهمها، وأنها لا تقدح في المعجزة كما لا تقدح القراءة في ذلك، فوافقه بها جماعة من أهل العلم الدقيق، وكتب الأمير في المسألة إلى إفريقية وصقلية، برغبة الباجي في ذلك، فجاءت الأجوبة من هنالك بتصديقه وتصويب مقالته.

وقد ناقش الأمر الإمام الذهبي في عدة مواضع من كتابه سير أعلام النبلاء، وقال في موضع منها بعد أن ذكر ما سبق: قلت: يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب اسمه ليس إلا، ولا يخرج بذلك عن كونه أميا، وما من كتب اسمه من الأمراء والولاة إدمانا للعلامة يعد كاتبا، فالحكم للغالب لا لما ندر، وقد قال عليه السلام: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. أي لأن أكثرهم كذلك، وقد كان فيهم الكتبة قليلا. فقوله عليه السلام: "لا نحسب" حق، ومع هذا فكان يعرف السنين والحساب، وقسم الفئ، وقسمة المواريث بالحساب العربي الفطري لا بحساب القبط ولا الجبر والمقابلة... وبعض العلماء عدَّ ما كتبه يوم الحديبية من معجزاته، لكونه لا يعرف الكتابة وكتب، فإن قيل: لا يجوز عليه أن يكتب، فلو كتب، لارتاب مبطل، ولقال: كان يحسن الخط، ونظر في كتب الأولين. قلنا: ما كتب خطا كثيرا حتى يرتاب به المبطلون، بل قد يقال: لو قال مع طول مدة كتابة الكتاب بين يديه: لا أعرف أن أكتب اسمي الذي في خاتمي! لارتاب المبطلون أيضا، ولقالوا: هو غاية في الذكاء، فكيف لا يعرف ذلك؟ بل عرفه، وقال: لا أعرف. فكان يكون ارتيابهم أكثر وأبلغ في إنكاره، والله أعلم.

ومن ناحية أخرى كان لأبي الوليد مواقف نالت استحسان علماء الأندلس وأهلها، ذلك إنه لما عاد من الرحلة إلى الأندلس كان ابن حزم، علي بن حزم المولود بقرطبة سنة 384، يتصدر الميدان الفقهي بدعوته لمذهبه الظاهري، ولمهارته في المنطق وحضور ذهنه ودربته على المناظرة قصرت ألسنة الفقهاء عن مجادلته وكلامه، فبرز نجمه واتبعه على رأيه جماعة من أهل الجهل، وحل بجزيرة ميورقة بعد سنة 452، فرأس فيها، واتبعه أهلها، فلما قدم أبو الوليد، وكان متمرساً بعلم الكلام والمنطق والجدل، كتب إليه الفقيه محمد بن سعيد الميورقى يخبره بما جرى فيها على يد ابن حزم، وندبه إلى مناظرته، فسافر الباجي إلى ميورقة واجتمع بابن حزم بين يدي أميرها العالم الصالح والفقيه المحدث أبي العباس أحمد بن رشيق، وناظره وأظهر خلل رأيه، وذلك في مناظرات مناطها الاحترام والتقدير، وكان كثير من الناس قد نفروا من ابن حزم لطريقته في ازدراء الفقهاء وتخطئته لهم بأفجّ عبارة، وأقطّ محاورة، فتقوى خصوم ابن حزم بهذه المناظرة، وصار الملوك يبعدونه عن بلادهم، وأحجم الناس عن كتبه، وأحرق بعضها بإشبيلية ومزق علانية، وانكفأ ابن حزم إلى موطنه الأصلي في بادية لبلة، حيث وافته منيته في سنة 456 فريداً معزولا.

ومن طرائف ما جرى في هذه المناظرات، أن أبا الوليد لما انقضت مناظرةٌ منها قال لابن حزم: تعذرني فإن أكثر مطالعتي كان على سُرُج الحراس. فقال ابن حزمٍ: وتعذرني أيضاً، فإن أكثر مطالعتي كانت على منائر الذهب والفضة! أراد ابن حزم - وهو محقّ- أن الغِنى أضيعُ لطلب العلم من الفقر، وأن المظنون أن الفقير يطلب العلم رجاء تبديل حاله بأحسن، والغني يطلب العلم راجياً علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة.

ولم يقتصر أبو الوليد على النشاط العلمي والتدريس، بل قام بواجب العلماء في السعي بالخير وربط عرى الوحدة بين المسلمين، ذلك إنه لمّا قدم من المشرق إلى الأندلس وجد ملوك الطوائف أحزاباً متفرقة، فمشى بينهم في الصلح والتوحد، وعن ذلك قال ابن بسام في كتابه الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة: فورد وعُشب بلادها ناب وظفر، وصوب عِهادها دمٌ هدْر، ومالها لا عين ولا أثر، وملوكها أضداد، وأهواء أهلها ضغائن وأحقاد، وعزائمهم في الأرض فساد وإفساد، فأسف على ما ضيعه، وندم لو أجدى عليه ذلك أو نفعه، على أنه لأول قدومه رفع صوته بالاحتساب، ومشى بين ملوك أهل الجزيرة بصلةِ ما انبتَّ من تلك الأسباب، فقام مقام مؤمن آل فرعون لو صادف أسماعاً واعية، بل نفخ في عظامٍ ناخرة وعكف على أطلال دائرة، بيد أنه كلما وفد على ملك منهم في ظاهر أمره لقيه بالترحيب، وأجزل حظه بالتأنس والتقريب، وهو في الباطن يستجهل نزعته، ويستثقل طلعته، وما كان أفطن الفقيه، رحمه الله، بأمورهم، وأعلمه بتدبيرهم، لكنه كان يرجو حالاً تثوب، ومذنباً يتوب.

وكان لأبي الوليد الباجي تأثير كبير في العودة بجمهور المسلمين ومتعلميهم إلى أصول الشريعة الصافية، التي تقوم على الإيمان الصادق والتسليم الحق، قال الإمام محمد الخضر حسين رحمه الله: كانت الفلسفة اليونانية يومئذ قد مدَّت أطنابها على الأندلس، وروَّجت كثيراً من العقائد المقارنة لها في كتب أصحابها في قلوب كثير من ضعفاء الذين مازجوها، حتى أفضت ببعضهم إلى الإلحاد في الدين، ولم يجدوا مع ذلك كله من يقوم بتبيان الحق ويفسِّر حقائق الإِسلام وآدابه للذين استهوتهم فلسفة الأخلاق اليونانية والفارسية على ما فيهما من تبديل وقِدَمٍ، ومن خلطِ العقائد بالفلسفة، فلما جاء أبو الوليد ابتدأ يبين لخاصة المتفلسفين أن الفلسفة شيء والعقيدة شيء، وأن لهم في كتابهم من فضائل الأخلاق ما لو شرحوه ودوَّنوه لفاق غيره، ومن حديثه في ذلك أنه كان يوماً في مُناخ ملك سرقسطة المقتدر أحمد بن هود ينتظر إذنه، فجالسه ابنه الأمير يوسف الملقب بالمؤتمن والذي ورث بعده ملك سرقسطة سنة 474، وكان قائماً على الفلسفة والعلوم الرياضية وله فيها تآليف مثل الاستهلال والمناظر، وأخذ المؤتمن يجاذب الباجي الحديث في كتب الفلسفة حتى قال له: هل قرأت أدب النفس لأفلاطون؟ فقال له الباجي: قرأتُ أدب النفس لمحمد بن عبد الله؛ يعني: شريعته من قرآن وسنّة.

وبعد عودته إلى الأندلس توافد على أبي الوليد كثير من طلبة العلم والمحدثين من الأندلس والمغرب وأفريقيا، استرفاداً لعلمه ورغبة في مسانيده، ولذا كثر من أجازهم كثرة بالغة، وممن لزم أبا الوليد الباجي واشتهر بتلمذته عليه الحافظ أبو بكر الطرطوشي، محمد بن الوليد القرشي الفهري الأندلسي المالكي، المولود في طرطوشة Tortosa سنة 451 والمتوفى بالاسكندرية سنة 520، والذي لازمه في سرقسطة وأخذ عنه مسائل الخلاف، ويذكره في كتابه سراج الملوك بقوله: أستاذنا القاضي. ثم رحل الطرطوشي إلى المشرق بعد وفاة الباجي بسنتين، واستقر به المقام في الإسكندرية حيث توفي، وكان زاهدا ورعا متقشفا متقللا من الدنيا راضيا منها باليسير، وهو قائل الأبيات السائرة:

إن لله عباداً فُطُنا ... طَلَّقُوا الدنيا وخافوا الفِتَنا

فكّروا فيها، فلما علموا ... أنها ليست لحيٍّ وطنا

جعلوها لُجّةً واتخذوا ... صالحَ الأعمال فيها سُفُنا

واشتهر بصحبة أبي الوليد الباجي كذلك القاضي أبو عبد الله ابن شِبرين، محمد بن عبد الرحمن الجذامي، المتوفى سنة 503، وشيخ القاضي عياض، فقد رحل إليه سنة 569 بسرقسطة، ثم سافر معه إلى المرية، وصحبه واختص به حتى موته، فكانت صحبته له نحو أربعة أعوام، أخذ عنه فيها كثيراً من مروياته وتآليفه، ووصل من منفعته به في العلم في هذه المدة، ما لم يصل إليه غيره منه في المدة الطويلة، وصار من أهل العلم، والمعرفة والفهم، عالماً بالأصول والفروع، وبعد وفاة أبي الوليد صحب ابنه أبا القاسم، رحم الله الجميع.

وروى عن أبي الوليد الباجي الإمام الحافظ المؤرخ أبو عمر ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله النَمَري القرطبي، وهو أسن منه إذ ولد في قرطبة سنة 368 وتوفي بشاطبة سنة 463، وقال عنه الباجي: أبو عمر أحفظ أهل المغرب. وبهذه الرواية يتميز أبو الوليد الباجي بأنّه روى عنه حافظا المغرب والمشرق: أبو عمر ابن عبد البر، والخطيب أبو بكر ابن ثابت البغدادي.

صنَّف أبو الوليد الباجي عدداً من الكتب الهامة الفريدة الزاخرة بالفوائد الحديثية والفقهية واللغوية، منها كتاب المنتقى شرح الموطا، وكتاب المعاني في شرح الموطأ، عشرين مجلداً، لم يؤلَّف مثله. وكان قد صنَّف كتاباً كبيراً جامعاً بلغ فيه الغاية سمّاه كتاب الاستيفاء في شرح الموطأ، وصنَّف كتاب الإيماء في الفقه، خمس مجلدات، وكتاب السّراج في الخلاف، لم يتمَّم، ومختصر المختصر في مسائل المدوَّنة، وكتاب إختلاف الموطآت، وكتاب التعديل والتجريح لمن روى عنه البخاري في الصحيح، وكتاب التسديد إلى معرفة التوحيد، وكتاب الإشارة في معرفة الأصول والوجازة في معنى الدليل، وكتاب إحكام الفصول في أحكام الأصول، وكتاب الحدود، وكتاب شرح المنهاج، وكتاب سنن الصّالحين وسنن العابدين، وكتاب التبيين لسبل المهتدين، وكتاب فرق الفقهاء، وكتاب تفسير القرآن، لم يتمّه، وكتاب سنن المنهاج وترتيب الحجّاج.

كان لأبي الوليد ولدان؛ أبو الحسن محمد، وأبو القاسم أحمد، أما محمد فتوفي في حياة والده بسرقسطة سنة 427، ورثاه أبو الوليد فقال:

أمحمداً، إن كنت بعدك صابراً ... صبر السليم لما به لا يسلمُ

ورزئت قبلك بالنبيّ محمدٍ ... ولرزؤه أدهى لديّ وأعظم

فلقد علمت بأنني بك لاحقٌ ... من بعد ظنّي أنّني متقدِّم

لله ذِكرٌ لا يزال بخاطري ... متصرّفٌ في صبره مستحكم

فإذا نظرت فشخصه متخيّلٌ ... وإذا أصخت فصوته متوهّم

وبكلّ أرضٍ لي من اجلك لوعةٌ ... وبكلّ قبرٍ وقفةٌ وتلوّم

فإذا دعوت سواك حاد عن اسمه ... ودعاه باسمك معولٌ بك مغرم

حُكمُ الردى ومناهجٌ قد سنّها ... لأولي النّهى والحزن قبل متمّم

فلئن جزعت فإن ربي عاذر ... ولئن صبرت فإن صبري أكرم

وأما أبو القاسم أحمد فسار على خطاه في طلب العلم حتى صار العلامة الكبير، سكن بسرقسطة، وروى عن أبيه كثيرا، وأذن له أبوه في إصلاح كتبه في الأصول فتتبعه، وهو الذي صلى عليه عند وفاته، وخلفه في حلقته، وبرع في الأصول والكلام، له تصانيف تدل على حذقه وذكائه، ووصفه معاصروه بالنباهة والجلالة، وممن أجازه القاضي عياض الذي قال عنه: كان حافظا للخلاف والمناظرة.

وكان الابن كوالده ماهراً في النظم والأدب، وكان دينا ورعا، تخلى عن تركة أبيه الوافرة لقبوله جوائز السلطان، وسار كذلك على خطى والده في الرحلة فسافر إلى بغداد فأقام بها سنتين أو نحوهما، ثم تحول إلى البصرة، ثم استقر في بعض جزائر اليمن، ثم حج فاتفق موته بجدة بعد الحج في سنة 493 وهو في سنوات الأربعين من العمر.

وأبو الوليد الباجي على جلالته في العلم والفقه، شاعر رقيق المشاعر، لطيف الديباجة، أكرمه الله بالجمع بين العلم الشرعي والذوق الأدبي والعاطفة الشاعرية، وله يرثي أمه وأخاه ودفنا متجاورين:

رعى الله قبرين استكانا ببلدة ... هما أسكناها في السواد من القلبِ

لئن غُيبا عن ناظري وتبوّءا ... فؤادي لقد زاد التباعد في القرب

يقر بعيني أن أزور ثراكما ... وألزق مكنون الترائب بالترب

وأبَكي وأُبكي ساكنيها لعلنّي ... سأُنْجَدُ من صحب وأُسعَد من سُحب

فما ساعدت وُرْقُ الحمام أخا أسى ... ولا روّحت ريحُ الصبا عن أخي كرب

ولا استعذبت عيناي بعدكما كرى ... ولا ظمئت نفسي إلى البارد العذب

أحنّ ويثني اليأس نفسي عن الأسى ... كما اضُطر محمولٌ على المركب الصعب

ولأبي الوليد الباجي أشعار في الزهد والتقوى، منها:

إذا كنت تعلم أن لا محيد ... لذي الذنب عن هول يوم الحساب

فاعص الإله بمقدار ما ... تحب لنفسك سوء العذاب

وله كذلك:

إذا كنت أعلم علما يقينا ... بأن جميع حياتي كساعة

فلِمْ لا أكون ضنينا بها ... وأجعلها في صلاح وطاعة

اللهم اجعل أوقاتنا صلاحاً في طاعتك.

نشرت 2015 وأعيد تنسيقها ونشرها 14/3/2020

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين