بين رمضانين

من سنوات بعيدة وأنا أصلي إماما في التراويح في مسجدي (القعقاع بن عمرو) أو غيره ما لم يكن ثمة مانع، وقبل رمضان الفائت (١٤٤٤) بعدة أشهر انتقلت للتدريس في (كلية الدعوة الإسلامية) التابعة لوزارة الأوقاف، وبقيت على رأس عملي في الإمامة محتسبا، وتحررت بعض الشيء من قيد الإمامة، فخطر لي أن أطوف على طائفة من المساجد الكبيرة في قطاعنا الحبيب، والتي يؤم فيها جماعة من إخواننا وأحبابنا الندية أصواتهم، وما بي رغبة في التطواف، ولكن رجوت التلذذ بسماع القرآن والقيام.

صليت -صحبة أخي الحبيب عبد الرحمن الكحلوت- في تسعة عشر مسجدا، وكان من أجمل الرمضانات بالنسبة لي، فإن صلاتي مأموما  أحب إلي من صلاتي إماما، كيف وأنت تصلي خلف من إذا سمعته حسبته يخشى الله، ولا أزكي أحدا على الله.

كنا نستقبل رمضان في غزة ونحن صغار بالفوانيس والأضواء والاحتفالات، وكان كل حي من أحيائها وشارع من شوارعها يبتهج بمقدمه، ثم ضعفت هذه المظاهر مع كر السنين، لكن بقي ألق صلاة التراويح، يصلي الناس المغرب ثم يفطرون فما هي إلا دقائق حتى تعج الطرقات بالمصلين، وتعمر بيوت الله بهم، ثم بعد التراويح ينطلق الناس في صلة أرحامهم، ويرجعون في ساعة متأخرة من الليل، فمنهم من ينام قليلا، ومنهم من يواصل إلى السحور فالصلاة، ومن سنوات كانت تعمر كثير من المساجد بحمد الله بالتهجد في نصف الليل، فكنا نختم ختمة في التهجد وختمة في التراويح.

ثم جاءت الحرب في الثاني والعشرين من ربيع الأول، وكنا نظنها أياما وتنتهي، فمضى ربيع الأول ثم الآخر وتبعهما الجمادان، وعيننا علم الله على رمضان، هل يدخل علينا ونحن على هذه الحال؟ فنخدع أنفسنا أن لا، ثم مضى رجب وتبعه شعبان وما لنا حديث إلا حديث رمضان.. يا رب بلغنا رمضان ونحن في أمن ويمن وإيمان، ويمضي قدر الله ويدخل رمضان ونحن تحت القصف والصواريخ والراجمات.

عادت بي الذكرى في أول ليلة إلى رمضان الماضي، وتهيجت الأحزان، لا أذان ولا تراويح، ولا جمعة ولا جماعة، ولا صلة ولا أفراح، ولا غدو ولا رواح.. ذهب ذلك كله.

كل المساجد التي صليت بها عام الأول تهدمت، وكل أئمتها بين شهيد وأسير وطريد.

دخل رمضان وهم أكثر الناس في الشمال أن يجد شيئا يتسحر به ويفطر عليه، ولا والله لست مبالغا.

ثم جاء الله بالخير، واتسع حال كثير من الناس بما يصل إليهم من أهل الخير والإحسان.

وفي الناس هنا بقية خير ولله الحمد، فقد عمرت البيوت بالعبادة والصلاة، وكثر الخير والإحسان والمواساة في الناس، ومضت ليالي رمضان بحلوها ومرها، وبقي أجرها إن شاء الله.

لم ينقطع رجاؤنا في المولى الكريم طرفة عين، ولم نشك كذلك أن هذه المحنة في طيها منح، وأن هذا الكرب سيتبعه الفرج، وهذا العسر سيلحقه يسر، لكن الشأن في العبد أن لا يبرح باب الإيمان والتسليم والرضا بقدر ربه، ولا يقضي رينا إلا الخير، ولا يأتي من قبله إلا الخير، والحمد لله رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين