الحق والقوة

1 – منذ خلق الله الخليقة، والحق والقوة يتنازعان في هذا الوجود، ولا نقصد بالقوة ما يكون ذاتياً منبعاً من النفس، محكوماً بمعنى من المعاني الإنسانية العالية، لأن ذلك من ذات الحق، فالحق بلا ريب فيه قوة بتأييد الله تعالى وبقدرته، وبالفطرة الإنسانية، فإنَّ هذه الفطرة تنبعث نحو الحق بسلامتها إذا لم تكن قد تدرنت بالأهواء فإن تدرنت بها، كانت غواشي تمنعها من الإدراك السليم، فتطمس، وتسد منافذ الادراك، وبذلك يحق أن يقال فيه ما قاله تعالى في كل قوي مبطل: [خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ] {البقرة:7}.

وحيث فسدت الفطرة كان ظلام النفس، وكانت الأثرة، وكان مرض القلوب بالداء الوبيل، ويكون في ذلك المرض الأثيم وفي جراثيمه مسكن للباطل يأوي غليه، وللقوة التي لا تعتمد على نور من يقظة الضمير الإنساني، وقوة الاحساس الاجتماعي، الذي يربط القلوب على محبة ومودة وتقوى ورضوان من الله.

ومن هذا يتبين معنى القوة التي تقابل الحق، وتناضله وتغالبه، وأحياناً يكون له الغلب، وأحياناً في ظلام العصور وجهالاتها، وضلال النفوس واضطرابها، وتحكم الشهوات ومعابثها يكون لها الغب ولكن إلى حين، وأن ذلك التغالب في داخل النفوس وبين بني الإنسان آحاداً وجماعات، ودولاً ولذلك توهم بعض الناس قوتها فدفعه الضلال آن يقول أن للشر إلهاً، وللخير إلهاً، وأن ذلك الضلال، يدفع إلى الزعم المترتب عليه أن يكون مع إله الشر في زعمهم القوة بعمايتها، ومع إله الحق في زعمهم الحق بنوره ورشاده وهدايته.

2 – وأن نزوع الخير والشر كامن في نفس الإنسان، فإنه منذ بدء الخليقة توقع ملائكة الله الشر في الإنسان فقد جرت المجاوبة بينهم وبين رب البرية في شأن هذا الإنسان الذي أراد أن يجعله في الأرض خليفة مع أنهم لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ولننقل لك هذه المجاوبة كما جاء بها النص القرآني الكريم [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ(32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ(33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ(34) وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(36) ]. {البقرة}.

سقنا هذا النص الكريم لنتعرف منه منبع الحق، ومنبع الباطل، فأما منبع الباطل فهو من وسوسة إبليس اللعين التي تسكن في نفس كل إنسان، وهي التي توحي بالباطل وتحرض عليه، كما توعد وأنذر بقوله الذي حكاه الله تعالى عنه: [قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ] {ص:82-83}.

وأن هذه الوسوسة بالشر تجيء من قبل الشهوات وأوبائها، فمن تغلب النور عليه، فقد تغلب في قلبه الحق، ومن تتغلب عليه شهوته قد غلبت عليه شقوته، وشقي به الأكثرون من الإنسانية فرادى وجماعات، وهو الذي يجعل الحق بعد القوة ويرضى بالظلام [وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ] {يوسف:103}.

ولأن الشهوات هي الدافع  الحيواني في الإنسان، كانت هي الأكثر سلطاناً عند الدهماء في العقول والأخلاق الإنسانية، ولأن العقل ونوره، والقلب وإشراقه، والوجدان الاجتماعي ويقظته هي التي تقاوم  الشهوات، وصوتها هادئ وإن كان عميقاً، وصوت الشهوات لجباً شديداً عاصفاً، وأنه لم يكن عميقاً كان أقوى، و أبعد في النفوس تأثيراً، وإن كان وبيلاً، وقد أخضعت الشهوات العقل لسلطانها وصار ابن الأرض يخترع المبيدات للإنسانية المظلومة، ويخفي الحقوق المهضومة، حتى حسب الناس أن القوة الغاشمة التي لا تقوم على تقوى القلوب هي السائدة، وأخذت المبررات لها تترى، وحت صار صوتها هو المسموع، وصوت غيرها الخافت الكظيم، ولقد تنبأ القرآن بالظلم السائد في الأرض فقال تعالى:[وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ] {الأنعام:116}.قال ذلك لنبيه الصادق الأمين، حتى لا يستسلم للباطل، ولكن ليتقيه ويجعل للحق قوة تدافعه، كما قال تعالى:[ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ] {البقرة:251}. 

والحق أبلج والباطل لجلج، ولذلك كان الجهاد في الإسلام، لأنه يجب دفع الباطل لا إتباعه، وخذلانه لا تأييده، ولو بطريق السكوت عنه، ولذلك يقول محمد صلى الله عليه وسلم: (أنا نبي المرحمة وأنا نبي الملحمة) وشرعت الملحمة لأجل المرحمة، والحق هو المرحمة، والمرحمة لا تكون إلا بالملحمة لأن حماية الفضيلة والأديان لا تكون إلا بالملحمة، ولقد قال سبحانه وتعالى:[أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] {الحج:39-40}.

3 – إن الحق نور يكشف ظلام القوة بضيائه، وإذا كشفت القوة وطغواها، تيقظت ضمائر، وإذا كانت ضئيلة ابتداء، فإنها تضم غيرها، وربما تصير شرارتها الأولى شعلة تعلن الحق، وتخفض الباطل [لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ] {الأنفال:8}.

وأولئك الذين يبثون روح الاستسلام، ويدعون إ ليحق الحق لخضوع لكثرة المبطلين هم أهل اليأس والباطل، والله تعالى يقول: [إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ] {يوسف:87}.

وإن الذين يرضون بالواقع، ولا يعملون على تغيير مظالمه ليسوا من أهل الله، وإلا ما كانت رسائل الرسل، ولا دعوة النبيين، لأنهم جاءوا ليغيروا الفاسد، ولنشر الصالح، وإبطال الباطل، وإحقاق الحق، ولمنع يأس أهل الحق من الصلاح، ولذلك جاءوا على فترات يكون سيل الشر قد طم، وصوت الخير قد اختفى، فكانوا صوته المدوي بنوره في هذا الوجود الإنساني.

إنه إذا تفاقم الشر لا يجوز لأهل الخير أن يسكتوا، وإلا عم الشر: [ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] {الرُّوم:41}. ولخربت الأرض، ولا تمنعن أهل الخير قوة الشر وأهله، ولو كانوا يملكون ناطحات السماء، وقاطعات أجواز الفضاء، وعابرات القارات، فإن الحق فوقهم، ورحم الله سعد زغلول إذ يقول: (الحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة).

4 – كان الصينيون في الماضي يؤمنون بالصلة بين الكون، والأخلاق والفضائل والرذائل فالأرض إذا سادتها الأخلاق المرذولة، اضطربت الكواكب، واختل نظام النجوم، والصلة وثيقة بين اضطراب العالم، والشر الذي يسود الأرض، وإذا سادت الأخلاق الفاضلة، وصلحت النفوس واستقامت العقول، وأعطى كل ذي حق حقه، استقام الكون، ولم يكن اضطراب.

ويسندون الزلازل التي تجعل الأرض عاليها سافلها، والخسف الذي تميد به الأرض ميداً، والعواصف التي تدمر الأخضر واليابس، والأمطار التي تكون عيثاً ولا تكون غيثاً، والفيضانات التي تكون دماراً، ولا يكون منها رعي ولا سقي، يسندون ذلك إلى فساد الأخلاق، ويسندون القرار والاطمئنان إلى سيادة الأخلاق الفاضلة، ولذلك كانوا يحرضون على الفضيلة لارتباطها بالكون استقراراً وينهون عن الرذيلة لارتباطها به فساداً واضطراباً.

5 – وما سقنا هذا الكلام لأننا نؤمن به، ولكنا نؤمن بالقرآن، وقد أشار إلى أن  الإيمان بالحق يفتح الله به أبواب الخير، ويوفق المؤمنين إلى أقوم السبل، والفضيلة لا تؤثر في سير الكون، ولكن الله يفيض بالخير على أهل الحق والإيمان، كما قال تعالى:[وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] {الأعراف:96}.وأن الله تعالى ينزل العذاب الدنيوي للمعتدين في الأرض رحمة للعباد منهم، واتقاء لشرهم، كما قال تعالى [أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ(97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ(98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الخَاسِرُونَ(99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ(100) ]. {الأعراف}..

نحن لا نعتقد ما يعتقده فلاسفة الصين في قديمهم، لأنا لا نؤمن إلا بالله تعالى، ولا نعلم بأسرار الوجود ومعانيه غلا من الله سبحانه، ومما أنزله على أنبيائه، وما هدى به أولياءه، ولكن بلا ريب تبين لنا الآيات أنه إذا تفاقم الشر، وسال سيله حتى بدا للناس كأنه عم أخذ الله الظالمين أخذ عزيز مقتدر، فحيث يأمنون بأس الله ويلغون في دماء البشرية ولغ سباع البهائم في دماء فرائسها، ويشتد إجرامهم حتى يحسبوا ألا رادع يردعهم ويجدوا من يؤمن بأن فسادهم يجب الخنوع له جاءهم غضب الله من حيث لا يحتسبون، ولا يقدرون.

6 – وإنه لا يضعف الحق إلا من جانب فرائس الظالمين، وهم الضعفاء ويجيء ذلك الضعف للحق، إذا فسد اعتقادهم، واضطرب إيمانهم، ولم يؤمنوا بالله حق الإيمان، ولم يتوكلوا على الله حق توكله، وقد يتواكلون، ولا يتخذون الأهبة أو يهملون حسن التدبير أو يغترون بالقوة، ولا يحسنون توجيهها، أو يتركون شعوبهم هملاً، أو يذيقونهم خسفاً وهواناً، فلا يعتمدون على الله، ولا يفقدون قوة شعوبهم، ويهملون التدبير، والحرب مكيدة وتدبير، وليست أسلحة فقط، فالسلاح لا يعمل إلا بقلب مؤمن يدفعه، وإخلاص ينير السبيل وعقل مدبر يحكم التدبير.

ولنا عبرة في نشأة الإسلام وقوته، وسيطرته على الأرض فقد نشأ بالحق، وقوي بالحق، وشدا في الوجود بالحق، وانتصر بالحق، وصارت بالحق كلمة الله هي العليا، فالحق أوجد له القوة، ونصره الله تعالى بالتأييد، لأن القلوب كانت مؤمنة، والنفوس كانت مخلصة، فكانت كل قوى الحق متضافرة متآزرة، متعاونة على البر والتقوى، ولما قامت حرب الفرس مع المسلمين، وكانوا  أكثر عدداً، واقوى عدداً، هال الأمر عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه، واراد أن يخرج مع الجند ليقوي عزمهم فوقف في وجهه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال ابق في مكانك وأدر رحى الحرب بالعرب فما كنا ننتظر بالعدد، ولكن بقوة التأييد من الله والمعونة.

[كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] {البقرة:249}.

إنه لكي ينتصر الحق يجب أن تتوافر قواه أولاً في النفوس، فيقوى بالإيمان، ويجب أن تتخذ الأهبة، ونعد له العدة، ونأخذ بقوله تعالى: [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ] {الأنفال:60}.

ويجب أن نجمع الكلمة، ونؤلف القلوب، ونزيل الأحقاد، ونستل الضغائن، وأن نتجنب الفتن: فتنة القول، وفتنة العمل، ويجب من بعد ذلك أن نتوكل على الله تعالى حق توكله، وأن نعلم أن النصر من عنده: [وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ] {آل عمران:126}. 

إنَّ التوكل على الله إيمان بسلطان الله تعالى في الكون  وأنه المالك لكل شيء، وأنه لا يخرج شيء عن إرادته، وأنه سبحانه فوق الأسباب العادية التي تجري بين الناس، فإذا اتخذنا الأسباب لا نقطع بأنها وحده سبب النصر، بل لابد من أن يكون معها قوة الله القاهرة فوق عباده، وألا نكن مغترين على الله، وقد دلانا الغرور، ومن تدلى بالغرور فإن الله سبحانه وتعالى خاذله ولا نصر من بعد خذلان الله تعالى:[إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ] {آل عمران:160}.

7 – إن الاستسلام للباطل يضعف القوي مهما تكن كبيرة، فإن الضعف يبتدئ من خور العزائم فعلى الذين يقاومون الفساد في الأرض ويغالبون خصوماً أن يجانبوا الخور في نفوسهم، وألا يكونوا في وهن، وأن الوهن يكون مسيطراً إن غلبت الأهواء وسيطر حب الدنيا، وكره أهل الحق الموت في سبيله، إيثار للشهوات، وابتعاداً عن ميادين الكفاح والنضال.

لقد اشتد الفساد في هذه الأرض، حتى لقد رأينا دولاً تستمرئ دماء الأبرياء كما تستمرئ دماء فرائسها، وفسدت المقاييس الإنسانية، وهبطت أخلاقها إلى الحضيض الأوهد وأصبحت لا تؤمن بالحقائق، بل تؤمن بالقوة، وبالقوة وحدها، ورفضت الأخذ بأي قانون وضعي، وبأي قانون خلقي، وباي مقياس إنساني، وصار يسيطر عليها قانون الوحوش في غاباتها، لا يأخذون بالحق ويفاخرون بخذلانه، والنداء بالحق عندهم لا فرق بينه وبين نعيق الفرائس في آذان وحوش الأرض.

لقد كدنا نظن أن الوحوش تنفر إذا شبه بها أقوياء الدول، لأنها تحسب أنها لم تنحدر هذا الانحدار، لأن الوحوش لا تفترس إلا لسد غائلة الجوع، وأولئك يفترسون لأن الغلب في دائه غاية، والافتراس سبيل للنهاية.

إذا سألت رئيساً لأقوى دولة الآن، لماذا تحارب، ولماذا تعرض أبناء دولتك للقتل والقتال، ولماذا تسمم الزرع لكيلا يأكله بنو الإنسان، ولماذا تلقي الحمم من طائرات التي تزمجر بالموت، ما وجدت إجابة إلا ما يسميه كرامة جماعته، ولماذا دخلت وعرضت كرامة من ابتلاهم الله تعالى بأن يكونوا رعيتك، فدفعتهم إلى الحتوف وإن نجوا حملوا معك عار الغدر، والفسق والكذب والبهتان، لماذا نفعل كل هذا؟ إنه مجيب حتماً بأنه ينافسه غيره في السلطان، اليس من حق الوحش المفترس أن يخشى على نفسه العار إن كانت مشابهة بينه وبين هذا الرئيس، ومن يناصره ويؤيده، بل من يطيعه، وهو في سعة من أن يقاومه.

8 – إن هذا الرئيس هو الذي يتحكم في سياسة الأرض بحذافيرها، وهو الذي يحكم بين المحق والمبطل، وهو الذي يضع المقاييس في الحكم على السياسات، أفهو الحكم الذي ترضى بحكومته، أهو الذي يفصل في دعاوى الأمم، أهو الذي يرد كيد المعتدين وإثم الآثمين وعبث العابثين، لا لا، إن من يطلب منه ذلك يكون كمن يطلب النيران في لجة البحار أو من يطلب الماء في أتون النيران.

إن قوة هذا الطاغية قد وصلت إلى أقصى الذروة من البطش، والغدر والخيانة والفساد ومن يصل إلى أقصى الذروة في أمر لابد أن يتدلى مهما تكن سطوته، ومن وصل إلى الأعلى لابد أن ينحدر في ناحية الهاوية، وإن هذه القوة الغاشمة تحمل في نفسها عوامل انهوائها، وذرائع انهيارها، فلابد بعد الظلام من نور، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً.

أيها العرب: إن الحق خذل بين أيديكم، ولكن إلى حين، فخذوا حذركم وخذوا أهبتكم ولكن تسربلوا بسربال التقوى، واستعينوا بالله، وأعدوا ما استطعتم من قوة، وتقدموا بنفوس مؤمنة صابرة ذاقت البأساء والضراء، وتوكلوا على الله حق توكله، فإنه يمدكم بروح من عنده، واعلموا أنكم إن لبستم لباس خشية الله تعالى كنتم جند الله في الأرض، وحماة الخير، ودعاة الفضيلة، وتذكروا قول الله تعالى وهو أصدق القائلين: [وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ] {الصَّفات:173}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: مجلة لواء الإسلام السنة 22 العدد 10، رمضان 1387هـ ديسمبر 1967م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين