أضواء على مشروع نهضتنا القادمة

 

تعيش الأمة الإسلامية اليوم أزمة مركبة ذات جوانب متعددة، وأسباب مختلفة، وقد عرفت الأمة خلال القرن الماضي مشروعين للنهضة هما المشروع القومي والمشروع الإيراني.

 

المشروع القومي

وقد انبثق هذا المشروع من انفجار الثورة العربية الكبرى التي أطلق شرارتها الشريف حسين في عام 1916، ودعا إلى قيام كيان موحد للعرب والانفصال عن الأتراك، وقد تهيأت لهذا المشروع عدة عوامل مساعدة على النجاح، منها:

 

1- أنه قام في العراق وهي دولة ذات إمكانات اقتصادية وبشرية واجتماعية ممتازة، وهي مؤهلة لأن تتبنى مشروعا للنهضة.

"انبثق المشروع القومي من انفجار الثورة العربية الكبرى التي أطلق شرارتها الشريف حسين في عام 1916، ودعا إلى قيام كيان موحد للعرب والانفصال عن الأتراك، وقد تهيأت لهذا المشروع عدة عوامل مساعدة على النجاح، ولكنه فشل في نهاية المطاف"

2- أنه توفرت له قيادة فكرية متقدمة في وعيها القومي وتمثلت هذه القيادة في شخصية ساطع الحصري رائد القومية، الذي يعتبر أهم مفكر قومي من ناحية الإدراك القومي، ومن ناحية غزارة الإنتاج الفكري، ومن ناحية الاطلاع على الحضارة الغربية.

 

3- ارتبطت القيادة السياسية المتمثلة في الملك فيصل ملك العراق بقيادة ساطع الحصري الفكرية، وكانت هذه القيادة السياسية تعتمد رؤى ساطع الحصري في كل مجالات بناء المجتمع العراقي السياسية والفكرية والثقافية والتربوية والفنية واللغوية إلخ.. وهذا مما يعطي رسوخا وقوة لمشروع النهضة.

 

لكن مع كل هذه الظروف التي خدمت المشروع القومي، وتهيأت له، لم ينجح في إحداث نهضة للأمة، والامتحان الأول الذي سقط فيه هو معركة عام 1948، والتي انتصرت فيها إسرائيل على كل الجيوش العربية وأقامت دولتها في فلسطين، وقد شكل قيام إسرائيل عام 1948 زلزالا هز المنطقة، وأدى إلى سلسلة انقلابات عسكرية بدأت بانقلاب حسني الزعيم في سوريا عام 1949، مرورا بانقلاب جمال عبد الناصر في مصر عام 1952، وانتهاء بانقلاب معمر القذافي في ليبيا عام 1969.

 

ثم أخذ المشروع القومي فرصة ثانية لإحداث نهضة على يد جمال عبد الناصر، الذي اعتمد الفكر القومي، وأقام الوحدة مع سوريا، ثم استطاع أن يؤثر في كثير من الأنظمة العربية ويجعلها تنقل تجربته السياسية والفكرية والثقافية كالعراق واليمن والجزائر والسودان والصومال وليبيا إلخ.. فقد اكتسب عبد الناصر شعبية طاغية، ومع ذلك سقط المشروع القومي في امتحان الصراع مع إسرائيل، فقد احتلت إسرائيل في حرب 1967 أضعاف ما أخذته عام 1948، إذ أخذت سيناء من مصر، والجولان من سوريا، والضفة الغربية من الأردن. 

 

بالإضافة إلى الهزيمة الفاضحة أمام إسرائيل، لم يستطع المشروع القومي أن يحقق النهضة في أي مجال، فلم تتحقق العدالة، وانخفض مستوى التعليم والجامعات، وزاد الفساد، ولم تتحقق النهضة الصناعية، وازدادت التبعية السياسية، وازداد التضييق على الشعوب، وانعدمت الحريات، وتدنى المستوى المعيشي.. إلخ.

 

ونتساءل الآن: لماذا لم يستطع المشروع القومي أن يحقق النهضة؟ السبب الرئيسي في ذلك هو أن الفكر القومي تنكر للإسلام، فقد اعتبر ساطع الحصري أن هذه الأمة تقوم على عاملين اثنين هما: اللغة والتاريخ، وهذا ليس صحيحا، فأمتنا تقوم على ثلاثة عناصر: اللغة والتاريخ والإسلام، فالإسلام مكون رئيسي في كل عناصر تكوين الأمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفنية والنفسية.. إلخ، وقد أدى هذا التنكر للإسلام من قبل الفكر القومي إلى عدم تفاعل جماهير الأمة معه.

"وضع المشروع الإيراني له هدفا رئيسيا هو نشر التشيع وتحويل هذه الأمة إلى أمة ذات صبغة طائفية، مما أحدث صراعا في معظم الدول بين المكونات السنية والشيعية، وجعل الأمة تنصرف عن المواجهة مع الخطر الغربي، وتستهلك طاقتها في صراع داخلي"

ومن الجدير بالذكر أن ساطع الحصري عندما اعتبر أن أمتنا تقوم على عنصري اللغة والتاريخ، لم يكن كلامه ناتجا عن دراسة موضوعية لكيان الأمة، فالدراسة الموضوعية توجب إدخال الدين الإسلامي كعنصر أساسي من عناصر تكوين أمتنا، لكنه كان ناقلا ومسقطا للنظرية الألمانية التي تقول بأن عنصري اللغة والتاريخ هما العنصران الرئيسيان في تكوين الأمة على واقع أمتنا نتيجة بعض المشابهات التاريخية، والقياسات الخاطئة.

 

المشروع الإيراني

قاد الخميني ثورة على حكم الشاه، وتغلب عليه عام 1979، واستبشر قسم كبير من جماهير الأمة بوصوله للحكم، وقدّم الخميني ثورته على أنها مشروع لنهضة الأمة، وبخاصة أنه دعا إلى نصرة المستضعفين، ومحاربة الاستكبار العالمي وعلى رأسه أميركا، ودعا بالموت لإسرائيل، وأغلق سفارتها في طهران، وأعطاها لمنظمة التحرير الفلسطينية، ودعا إلى وحدة المسلمين.

 

لكن هذا المشروع الإيراني لم ينجح، والسبب في ذلك أن الخميني وضع الثورة منذ البداية في سلّة الطائفية، واتضح ذلك في قضية الدستور، فقد وضع مادة في الدستور الإيراني تؤكد أن الجمهورية الإيرانية ملتزمة بالمذهب الجعفري إلى الأبد، ومع أنه رجاه كثير من العلماء المسلمين ألا يضع هذه المادة وألا يعطي إيران صبغة طائفية، لكنه أصر على هذا التوجه الطائفي الذي اتضح في عشرات الوقائع. 

 

لقد وضع المشروع الإيراني له هدفا رئيسيا هو نشر التشيع وتحويل هذه الأمة إلى أمة ذات صبغة طائفية، مما أحدث صراعا في معظم الدول بين المكونات السنية والشيعية، وجعل الأمة تنصرف عن المواجهة مع الخطر الغربي، وتستهلك طاقتها في صراع داخلي، سيؤدي إلى التقسيم الطائفي لكل بلد، وهو ما حدث في لبنان والعراق وسوريا واليمن، وسيؤدي إلى تدمير وحدة المسلمين.

 

وكذلك لم ينجح المشروع الإيراني لأن إيران تعاونت مع أميركا في احتلال دولتي أفغانستان والعراق، مما جعل جماهير الأمة تنظر إلى إيران باعتبارها دولة أقوال وليست دولة أفعال، فهي تحارب أميركا في وسائل الإعلام، لكنها تتحالف معها على أرض الواقع.

 

مشروع النهضة الجديدة

ها قد مضى قرن على انطلاق المشروع القومي ثم من بعده المشروع الإيراني، ولم تتحقق النهضة، بل صارت أوضاع الأمة في أسوأ أحوالها، في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية والاجتماعية.

"نريد أن يكون "مشروع النهضة الجديدة" متصالحا مع حقائق الإسلام ومبنيا عليها، لأن معاداة المشروع القومي للإسلام هو الذي أفشله، ولأن الإسلام مكون رئيسي في بناء هذه الأمة، إن لم يكن المكون الوحيد، فهو الذي صاغ المكونات الأخرى مثل اللغة والتاريخ"

ثم جاء الربيع العربي معبرا عن ثورة الأمة على هذه الأوضاع السيئة بما فيها من استبداد وظلم وقهر وإذلال وإفقار ونهب، وجاء معبرا عن تطلعها لإقامة مشروع نهضة جديدة بعد أن فشل المشروعان السابقان في تحقيق هذه النهضة، فما المعالم التي نريدها لهذا المشروع النهضوي حتى يتحقق له النجاح؟

1- نريد أن يكون "مشروع النهضة الجديدة" متصالحا مع حقائق الإسلام ومبنيا عليها، لأن معاداة المشروع القومي للإسلام هو الذي أفشله، ولأن الإسلام مكون رئيسي في بناء هذه الأمة، إن لم يكن المكون الوحيد، فهو الذي صاغ المكونات الأخرى مثل اللغة والتاريخ، وهو الذي غلّب لهجة قريش وقضى على اللهجات الأخرى، كذلك فإن كل وقائع التاريخ الاجتماعية والثقافية والسياسية والعسكرية والفنية والتربوية.. تنطلق من مبادئ الإسلام وآرائه وقيمه ومثله وأخلاقه ورجاله.. إلخ.

 

2- لانريد أن يكون مشروع النهضة الجديد طائفيا، فإن الذي أفشل المشروع الإيراني هو كونه مشروعا طائفيا، فقد أدى بطائفيته إلى تقسيم الأمة، وتمزيق وحدتها. 

 

3- نريد أن يعبر مشروع النهضة الجديد عن تطلعات الأمة إلى العدل والمساواة والحرية، وأن ينجح في بناء مجتمع متمدن، وأن يجعل أمتنا تعود إلى المساهمة في البناء الحضاري.

 

4- نتطلع أن تكون قيادة مشروع النهضة الجديد واعية لواقع الأمة، وتطورات مسيرتها الحضارية، وواعية -في الوقت نفسه- لواقع الغرب الحضاري من أجل أن تستطيع تسديد مسيرة الأمة في اتجاه تحقيق النهضة. 

 

الخلاصة: حاولت الأمة النهوض بعد سقوط الخلافة العثمانية في مطلع القرن العشرين، وتبنّت المشروع القومي من أجل النهضة، ورسم ساطع الحصري ملامح المشروع فكريا، ثم قاده سياسيا الملك فيصل في العراق وجمال عبد الناصر في مصر، لكن المشروع فشل لأنه تنكر للدين الإسلامي، وأخطأ في تحديد عوامل بناء أمتنا. 

 

ثم انبثق المشروع الإيراني على يد الخميني في إيران، لكنه فشل لأنه قام على الطائفية، وقدم أقوالا لا أفعالا في مجال التعامل مع الغرب.

 

ثم جاء زلزال الربيع العربي إيذانا ببدء مشروع النهضة الجديد الذي رسمنا له بعض المعالم التي يجب أن تسعى قيادات الأمة إلى تحقيقها في أرض الواقع.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين