اعتبار المناسبات في الإسلام بين الإفراط والتفريط -1-

 

قال رحمه الله تعالى في آخر تفسير سورة الإنسان في تتمة أضواء البيان لشيخه العلامة محمد الأمين الشنقيطي :

الحكمة من قراءة سورتي السجدة والإنسان في فجر الجمعة : 

(جاءت السنة بقراءة هذه السورة في الركعة الثانية من فجر يوم الجمعة، مع قراءة سورة السجدة في الركعة الأولى.

قال ابن تيمية:" إنَّ قراءتهما معا في ذلك اليوم ؛ لمناسبة خلق آدم في يوم الجمعة، ليتذكر الإنسان في هذا اليوم - وهو يوم الجمعة - مبدأ خلق أبيه آدم، ومبدأ خلق عموم الإنسان، ويتذكر مصيره ومنتهاه؛  ليرى ما هو عليه من دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهل هو شاكر أو كفور". اهـ ملخصا.

ومضمون ذلك كله أنه يرى أن الحكمة في قراءة السورتين في فجر الجمعة، أن يوم الجمعة هو يوم آدم - عليه السلام - فيه خلق، وفيه نفخ فيه الروح، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تيب عليه، وفيه تقوم الساعة.

كما قيل: يوم الجمعة يوم آدم، ويوم الاثنين يوم محمد - صلى الله عليه وسلم -، أي: فيه ولد، وفيه أنزل عليه، وفيه وصل المدينة في الهجرة، وفيه توفي.

ولما كان يوم الجمعة يوم إيجاد الإنسان الأول ويوم أحداثه كلها، إيجادا من العدم، وإنعاما عليه بسكنى الجنة، وتواجده على الأرض، وتلقِّي التوبة عليه من الله ؛ أي: يوم الإنعام عليه حسا ومعنى، فناسب أن يذكر الإمام بقراءته سورة " السجدة " في فجر يوم الجمعة؛  لما فيها من قصة خلق آدم في قوله: {الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه} .

وفيها قوله تعالى: { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}  ، مما يبث الخوف في قلوب العباد، إذ لا يعلم من أيِّ الفريقين هو، فيجعله أشد حرصا على فعل الخير، وأشد خوفا من الشر.

ثم حذر من نسيان يوم القيامة: { فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا } .

وهكذا في الركعة الأولى، يرجع المسلم إلى أصل وجوده ويستحضر قصة الإنسان الأول.

وكذلك يأتي في الركعة الثانية بقصته هو منذ بدأ خلقه: من نطفة أمشاج، ويذكره بالهدي الذي أنزل عليه، ويرغبه في شكر نعمه عليه، ويحذره من جحودها وكفرانها.

وقد بين له منتهاه على كلا الأمرين: {إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا} .

فإذا قرع سمعه ذلك في يوم خلقه ويوم مبعثه، حيث فيه تقوم الساعة، فكأنه ينظر ويشاهد أول وجوده وآخر مآله ؛ فلا يكذب بالبعث. وقد علم مبدأ خلقه ولا يقصر في واجب، وقد علم منتهاه، وهذا في غاية الحكمة كما ترى.

ارتباط نزول القرآن بشهر رمضان وليلة القدر: 

ومما يشهد لما ذهب إليه - رحمه الله -، اعتبار المناسبات كما في كثير من الأمور، كما في قوله تعالى:{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ، فجميع الشهور من حيث الزمن سواء، ولكن بمناسبة بدء نزول القرآن في هذا الشهر، جعله الله محلا للصوم، وأكرم فيه الأمة كلها بل العالم كله، فتتزين فيه الجنة وتصفد فيه مردة الشياطين، وتتضاعف فيه الأعمال.

وكذلك الليلة منه التي كان فيها البدء اختصها تعالى عن بقية ليالي الشهر، وهي ليلة القدر جعلها الله تعالى خيرا من ألف شهر، وما ذاك إلا لأنها كما قال تعالى:{  إنا أنزلناه في ليلة القدر... }السورة بتمامها.

المناسبات قسمان: 

مسألة: لقد أكثر الناس القول في اعتبار المناسبات في الإسلام وعدم اعتبارها، ووقع فيها الإفراط والتفريط، وكما قيل:

كلا طرفي قصد الأمور ذميم

ومنطلقا من كلام ابن تيمية، نقدم هذه النبذة في هذه المسألة، وهي أنه بالتأمل في الشرع وأحداث الإسلام عامة وخاصة، أي في عموم الأمم وخصوص هذه الأمة، نجد المناسبات قسمين: 

مناسبة معتبرة عُني بها الشرع لما فيها من عظة وذكرى، تتجدد مع تجدد الأيام والأجيال، وتعود على الفرد والجماعة بالتزود منها. 

ومناسبة لم تعتبر، إما لاقتصارها في ذاتها وعدم استطاعة الأفراد مسايرتها.

يوم الجمعة مناسبة معتبرة:

فمن الأول: يوم الجمعة، وتقدم طرف من خصائص هذا اليوم في سورة «الجمعة» ، وكلام ابن تيمية وقد عني بها الإسلام في الحث على القراءة المنوه عنها في صلاة الفجر، وفي الحث على أدائها والحفاوة بها من اغتسال وطيب وتبكير إليها، كما تقدم في سورة «الجمعة» .

ولكن من غير غلو ولا إفراط، فقد جاء النهي عن صوم يومها وحده، دون أن يسبق بصوم قبله، أو يلحق بصوم بعده، كما نهى عن إفراد ليلتها بقيام، والنصوص في ذلك متضافرة ثابتة، فكانت مناسبة معتبرة مع اعتدال وتوجه إلى الله، أي بدون إفراط أو تفريط.

يوم الإثنين مناسبة معتبرة: 

ومنها يوم الإثنين كما أسلفنا، فقد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن صيامه يوم الإثنين، فقال: «هذا يوم ولدت فيه، وعلي فيه أنزل» ، وكان يوم وصوله المدينة في الهجرة، وكان يوم وفاته - صلى الله عليه وسلم -، فقد احتفى به - صلى الله عليه وسلم - للمسبَّبات المذكورة، وكلها أحداث عظام ومناسبات جليلة.

الأحداث الكونية في مولده: 

فيوم مولده - صلى الله عليه وسلم - وقعت مظاهر كونية ابتداء من واقعة أبرهة، وإهلاك جيشه إرهاصا بمولده - صلى الله عليه وسلم -، ثم ظهور نجم بني الختان، وحدثت أمه وهي حامل به فيما قيل: أنها أتيت حين حملت به - صلى الله عليه وسلم -، فقيل لها: «إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، ثم سميه محمدا» ، وذكر ابن هشام: أنها رأت حين حملت به أنه خرج منها نور، رأت به قصور بصرى من أرض الشام.

وذكر ابن هشام: أن حسان بن ثابت وهو غلام سمع يهوديا يصرخ بأعلى صوته على أطمة بيثرب: يا معشر يهود، حتى إذا اجتمعوا إليه، قالوا: ويلك! ما لك؟  قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به.

وساق ابن كثير في تاريخه، والبيهقي في دلائله، وابن هشام في سيرته أخبارا عديدة مما شهده العالم ليلة مولده - صلى الله عليه وسلم -، نوجز منها الآتي:

عن عثمان بن أبي العاص: أن أمه حضرت مولده - صلى الله عليه وسلم -، قالت: فما شيء أنظر إليه في البيت إلا نور، وإني أنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول: ليقعن عليّ.

وعن أبي الحكم التنوخي، قال: كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة إلى الصبح يكفأن عليه برمة، فأكفأن عليه - صلى الله عليه وسلم - برمة، فانفلقت عنه، ووجد مفتوح العينين، شاخصا ببصره إلى السماء.

وقد كان لمولده من الأحداث الكونية ما لفت أنظار العالم كله.

ذكر ابن كثير منها : انكفاء الأصنام على وجوهها، وارتجاس إيوان كسرى، وسقوط بعض شرفه، وخمود نار فارس، ولم تخمد قبلها، وغاضت بحيرة ساوة، فكان في ذلك إرهاص بتكسير الأصنام وانتشار الإسلام، ودخول الفرس في الإسلام، ثم كان بدء الوحي عليه - صلى الله عليه وسلم - في يوم الإثنين.

التتمة في الحلقة الثانية 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين