العز بن عبد السلام مدرسة في التحدي السياسي

 

سنتناول في هذا المقال نموذجاً جلياً للتحدي السياسي والكفاح اللاعنيف الذي قاده واحد من أبرز علماء الإسلام والملقب بسلطان العلماء (العز بن عبد السلام).

بدأ الإمام مسيرة كفاحه في مسقط رأسه في "دمشق" ضد تعاون حاكم دمشق "إسماعيل" مع الصليبيبن ضد سلطان مصر والشام "الصالح أيوب" خليفة السلطان الأيوبي "الكامل" ، وسَلَّم الصليبين بعض حصون المسلمين ، بل وسمح للصليبين بدخول دمشق وشراء السلاح منها .

فغضب الإمام وأصدر فتواه بحرمة بيع الأسلحة للصليبين ، وصعد منبر المسجد الأموي الكبير، وذمَّ موالاة الأعداء، وقبّح الخيانة، وشنّع على السلطان، وقطع الدعاء له بالخطبة، وصار يدعو أمام الجماهير بما يوحي بخلعه واستبداله، ويقول: ( اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رَشَداً، تُعِزّ فيه وليَّك، وتُذِلُّ فيه عدوَّك، ويُعمَل فيه بطاعتك، ويُنهى فيه عن معصيتك )، والناس يبتهلون ويؤَّمنون وراءه .

وخرج الشيخ من الشام متوجهاً إلى مصر (مركز إدارة حكم الدولة الأيوبية) عام 639 هـ ليستكمل مسيرة إيقاظ شعوب الأمة وإحياء دورها في التحدي السياسي .

وفي أول مواجهة مع السلطة أفتى بصفته قاضي القضاة بأن الأمراء وقادة الجند الذين اشتراهم الأيوبيون من أواسط آسيا (وكان منهم نائب السلطان ومعظم وزرائه وقادة جنده) لا يزالون في حكم الرِقْ لبيت مال المسلمين، ولم يَثبُتْ أنهم أحرار ، فأصدر فتواه : (بأن ولايتهم لا تصح ، ولا يصح لهم بيع ولا شراء ولا نكاح) ، فتجاوزت هذه الفتوى إسقاط الشرعية إلى الحصار الاقتصادي والنبذ المجتمعي لأركان النظام .

وتزلزلت أركان الحكم ، وحاولوا إثناء الشيخ عن فتواه باللين والمساومة ثم التهديد من أعلى سلطة في البلد من السلطان نفسه .

وهنا أدرك الشيخ أن الأمراء تمالؤوا عليه، فقرر الاستقالة من القضاء ، والرحيل عن مصر احتجاجاً على موقف السلطة ، ونفذ قراره فوراً، فحمل أهله ومتاعه وخرج من القاهرة. وما أن انتشر الخبر في الشعب حتى قرروا التضامن معه وعصيان السلطة ، ولحِقَ به على مشارف القاهرة غالب المسلمين من العلماء والصلحاء والتجار، حتى النساء والصبيان. فقال قائل للسلطان: (أدرك ملكك، وإلا ذهب بذهاب الشيخ).

وهنا أذعنت السلطة وركب السلطان بنفسه، ولحق بالشيخ واسترضاه وطلب منه الرجوع والعودة إلى القاهرة، فوافق الشيخ بشرط تحرير الأمراء وقادة العسكر وبيعهم في سوق العبيد ، وإيداع الأموال المتحصلة من البيع في بيت مال المسلمين .

ولم يمض عام على الحادثة السابقة (بيع الأمراء) حتى وصل إلى عِلْم الشيخ أن قائد الجيش بنى فوق أحد مساجد القاهرة (طبلخانة) ، أي قاعة لسماع الغناء والموسيقى، فأصدر أمره بصفته قاضي القضاة بهدم البناء ، ولما تراخت السلطة التنفيذية في التنفيذ ، قام بنفسه وجمع معه أولاده وموظفيه ومن انضم إليهم وذهب إلى المسجد، وحمل مِعْوله معهم، وقاموا بإزالة المنكر وهدم البناء المستحدث فوق المسجد. ولم يكتف العز بهذا التحدي للوزير والسلطان معاً، بل أسقط عدالة الوزير ، بما يعني عدم قبول روايته وشهادته .

وفي عام 657هـ، تقدم التتار بعد سقوط بغداد إلى الشام (وكان عمر الشيخ 80 عاماً) ، بعث ملك حلب في طلب النجدة من مصر لجهاد التتار ، فجمع "سيف الدين قطز" العلماء والأعيان والقضاة لمشاورتهم في أمر مواجهة التتار وعزمه على فرض ضرائب على الشعب لتجهيز الجيش ، فأفتى سلطان العلماء بوجوب قتال التتار ، واشترط تجهيز الجيش من بيت مال المسلمين ومن ممتلكات الأمراء والقادة والجند حتى يقتصر كل منهم على سلاحه ومركوبه ويتساووا بالعامة ، فإن لم يكن في هذه الأموال الكفاية لتجهيز الجيش يتم فرض ضريبة على الشعب ، أما بدون الشرط فلا شرعية لفرض ضريبة يتحملها الشعب وحده .

وتوفي الشيخ عام 660هـ ودُفن بسفح المقطم وكان يومُ دفنه مشهوداً، وحضر جنازتَه الخاصُّ والعامُّ وشارك في الجنازة خلائقُ لا تُحصى، وصلى عليه ملكُ مصر والشام "الظاهر بيبرس" ، وحَمَلَ نعشَه وحَضَرَ دفنَه.

وأقيمت صلاة الغائب عليه في باقي الديار المصرية وفي المسجد الأموي بدمشق وفي سائر بلاد الشام والعراق والحجاز واليمن .

نحن هنا أمام مدرسة مكتملة الأركان للكفاح اللاعنفي في تراثنا قبل ثمانمائة عام ، تم فيها العزل السياسي للسلطة بسحب الولاء لها والشرعية منها ، وتم ممارسة العزل السياسي والاجتماعي لأركان السلطة ، وتم ممارسة المقاطعة الاقتصادية ، والامتناع عن دفع الضرائب ، بل والاحتلال الجماهيري للمنشآت بهدم (طلبخانة).

وتمت فيها مراحل الكفاح اللاعنفي بنجاح ، بدءاً من تحول الشعب من الخنوع للمقاومة ، مروراً بمرحلة مساومة السلطة لرأس المقاومة ورفضه للتنازل ، وصولاً إلي إذعان السلطة للشعب.

وقراءة ما بين سطور التاريخ تنبئ عن أن المسألة لم تكن فقط شخص الشيخ بل مؤسسة العلماء الشرعيين والقضاة كطليعة للشعب ، ووراءهم شعب داعم خرج وراء الشيخ في خروجه من القاهرة وأطاعه في كل وسائله الكفاحية ضد السلطة .

وختاماً : كانت هذه محاولة للرد على من يدعي خلو تراثنا من هذا النوع من المقاومة أو من يدعي عدم شرعية هذا الأسلوب ، أو من يدعي أن هذه أساليب مستوردة من الغرب وبعيدة عن مجتمعاتنا .

وأتمنى أن يُحَفِز هذا الموضوع من هم أَقْدَر مِني على البحث ليستخرجوا كنوز تراثنا المدفون في بطون الكتب ويضيفوا للمكتبة العربية نوعاً جديداً من الدراسات التاريخية يعيدون به الاعتبار والثقة لشعوبنا .

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين