حدث في الأول من ربيع الأخر

 

وفاة ملك الأندلس عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم الأموي

 

 

في مستهل ربيع الآخر من عام 300 توفي في قرطبة، عن 71 عاماً، ملك الأندلس عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام الأموي، سابع ملوك بني أمية في الأندلس، والذي يعده كثير من المؤرخين من أصلح ملوك الأمويين في المغرب وأمثلهم طريقة وأتمهم معرفة.

 

ولد عبد الله بن محمد في قرطبة سنة 229 لأسرة حكمت الأندلس أباً عن جد، تولى والده محمد بن عبد الرحمن حكم قرطبة سنة 238 وهو في الواحدة والثلاثين، وصفت له أيامه، وكان كثير المغازي والغارات على الإفرنج، ويصفه المؤرخون بأنه كان من أيمن الخلفاء بالاندلس مُلكا وأسراهم نفسا، وأكرمهم تثبتا وأناة، يجمع إلى هذه الخلال الشريفة البلاغة والأدب، وتوفي سنة 273 مخلفاً نيفا وخمسين ولدا، وأما أمه أم ولد اسمها عشار.

 

وتولى الحكم بعد محمد ابنه المنذر بن محمد بن عبد الرحمن، وكان منذ أن شبّ يسير في الغزو والفتح، ولم تدم أيامه سوى سنتين فقد توفي سنة 275 عن 46 عاماً، وكان معسكراً في طُليلطة يحاصر متمرداً يدعى عمر بن حفصون.

 

أما صاحب حديثنا عبد الله بن محمد فكان مع أخيه في الحصار، فلما توفي بويع له في المعسكر ثم رحل بقرطبة، وكان شغله الشاغل الذي ورثه عن أخيه هو قمع المتمردين وعلى رأسهم عمر بن حفصون الذي كان أول من فتح باب الشقاق والخلاف بالأندلس على مصراعيه.

 

كان أصل ابن حفصون من رُندة Ronda، وكان منذ نشأته ذا طبيعة شرسة عتية، نال من أبويه فتركا البلد، وقتل أحد جيرانه على سبب يسير، فهرب من العقاب إلى المغرب فترة، ثم رجع إلى الأندلس سنة 270، وتحصن بمنطقة جبلية تدعى بُبُشتر Bobastro شمالي غربي مالقة، فيها قلعة كانت من أمنع قلاع الأندلس، وشارك مرة في معركة شنّها الأمير ضد الإفرنج، ثم ما لبث في سنة 267 أن أعلن العصيان فخرج إليه جيش الناحية فهزمه، فقوي أمره وبدأ يضم إليه أمثاله من الخارجين على القانون الطامحين للثروة وبالذات من غير العرب ومن الموَلَّدين، واستمال إليه بعضاً من إفرنج الأندلس، ثم انتقل إلى تملك الحصون واحداً تلو الآخر، حتى وصل إلى حصن بلى المطل على قرطبة، ودانت له حصون الاندلس كلها، فشن عليه أمراء قرطبة الغارات وأوقعوا به.

 

وكان ابن حفصون ماكراً ماهراً في مخادعة خصومه، أظهر الطاعة مرات إذ شعر بضعفه، لينال العفو والرفق، ليعود ويتمرد من جديد في اللحظة التي يراها مناسبة، حاصره مرة المنذر بن محمد بطليطلة حصاراً شديداً، أدرك أن لا خلاص له منه، فأعمل الحيلة وسلك طريق المكر والخديعة، وسأل الأمان، وأظهر الرغبة في سكن قرطبة بأهله وولده، فأمنّه المنذر وكتب له بما أراد، ثم سأل ابن حفصون مئة بغل يحمل عليها أثقاله وعياله إلى قرطبة، فأمر له المنذر وسُلِّمت إليه وعليها عشرة من العرفاء، وارتحل العسكر، فأخذ ابن حفصون البغال وقتل العرفاء، وعاد إلى سيرته الأولى، وتحصن بببشتر، فجاءه المنذر ثانية وعقد المنذر على نفسه أنه لا أعطاه صلحاً ولا عهداً إلا أن يُوثقه بيده وينزل على حكمه، ودام الحصار، فمات وهو يحاصره.

 

وعندما ولي عبد الله الخلافة، ووافته الكتب بالطاعة من البلاد، رأى عمر بن حفصون أن يدخل في طاعته، فأرسل ابنه حفصا إلى قرطبة مع جماعة من أصحابه، على أن يعقدوا مع الأمير سلما منتظما، وصلحا مبرما، على أن يستقر عمر بن حفصون بببشتر على الطاعة، ودفع إليه ابنه الطفل ضمانة لوفائه بعهوده، فقبل الأمير ذلك منه، وأرسل عبد الوهاب بن عبد الرؤوف واليا على كورة رية، ومشاركا لابن حفصون في عقده وحله، فمكثا كذلك لفترة وجيزة، ثم أخرج ابن حفصون عبد الوهاب، وعاد إلى سابق عهده من التمرد والتخريب، ثم تبين أن الطفل الذي جعله رهينة عند الأمير ليس ابنه!

 

وبقيت المناوشات بين الأمير الجديد عبد الله بن محمد وبين المتمرد المتمرس عمر بن حفصون قائمة إلى سنة 277، حين حشد المتمرد جيشاً قوامه ثلاثون ألف رجل، وتمركز جنوباً في حصن بُلى القريب من قرطبة، فنهض إليه عبد الله بن محمد على رأس جيش من أهل قرطبة ومن حولها من قبائل العرب، كان عدده أربعة عشر ألفاً، فأوقع به وهزمه هزيمة منكرة وتتبع أصحابه المنهزمين فأبادهم، ففاوض ابن حفصون الأميرَ على تسليم الحصن، على أن يخرج منه بمن معه، فأجابه إلى ذلك، ثم أظهر ابن حفصون النصرانية سنة 286، وقيل كان قبل ذلك يُسِرُّها، وقيل فعل ذلك جلباً للتأييد من الإفرنج، فانفض عنه جمع من مؤيديه وانضووا تحت طاعة الأمير، واتصلت عليه المغازي من ذلك الوقت، ورأى جميع المسلمين أن حربه جهاد؛ فتتابعت عليه الغزوات بالصوائف والشواتي.

 

وهذا المتمرد ظاهرة متميزة، حتى أفرد سيرته بعض مؤرخي الأندلس في كتاب، ووصفه ابن عِذاري الأندلسي أنه كان مع شره وفساده متحببا إلى أصحابه، متواضعا لأُلّافه، حافظاً للحرمة، تجئ المرأة في أيامه بالمال والمتاع من بلد إلى بلد منفردة، لا يعترضها أحد، وكان يأخذ الحق من ابنه، ويبر الرجال ويكرم الشجعان، وإذا قدر عليهم عفا عنهم.

 

وبقي هذا الـجَلِدُ الشجاع بين كر وفر، يقارع الدولة حتى طال أمره ونسجت الأساطير حوله، وظل على ذلك إلى أن مات سنة 305، وانتقل أمره إلى ولده جعفر، ثم إلى ولده سليمان، ثم إلى ولده حفص، ثم انقرض أمرهم.

 

ويعزو بعض المؤرخين هذه الثورة وغيرها إلى أن الأمير عبد الله كان لينا وادعا، يحب العافية، فقام عليه في كل قطر من الأندلس طامع يريد أن يتغلب على البلاد، ولكن الحقيقة هي أن تلك سمة من سمات حكومات الأندلس، نشأت في أجواء سادت فيها العصبيات القبلية والعرقية، ومارس فيها الحكام التمييز بين العرب وبين غيرهم من البربر والمولدين والعجم، وانغمس الحكام في الترف والملذات، وأهملوا مصالح الرعية.

 

وأياً كانت أسباب هذه الثورات والتمردات، فقد اتسم حكم الأمير عبد الله بن محمد بانعدام الاستقرار والأمن، وبالحملات العسكرية التي قادها هو وأولاده، فلم تمض سنة على تسنمه العرش حتى قامت الثورات في كل أنحاء مدن الأندلس من الطامعين والناقمين، وتحالف كثير منهم مع ابن حفصون، فثار في سنة 276 سوَّار بن حمدون القيسي بحصن منت شاقر، وكان هو الثائر العربي في وقت كان أغلب الثوار من المولدين، فانضوى تحت لوائه عرب الأندلس واعتزوا بشوكته، واستولى على إلبيرة Elvira، وأرسل له الأمير عبد الله جيشاً عليه عامله جعد بن عبد الغافر، فهزمه سوار وقتل من جيشه نحواً من 7000، وأسر جعداً فمنَّ عليه وأطلقه وأبلغه مأمنه، ولكنه اكتسب عداوة المتمرد الآخر ابن حفصون عندما أغار على حصونه وهزمه، في وقعة عرفت بوقعة المدينة، فتواطأ ابن حفصون مع متمرد آخر فترصده حتى فاجأه مرة بكمين وقضى عليه في سنة 277، فدامت زعامته نحو العام.

 

وآلت زعامة العرب إلى سعيد بن سليمان بن جودي السعدي في سنة 276، واصطدم مع ابن حفصون حتى كاد أن يهزمه، فلجأ ابن حفصون إلى الحيلة حتى أسره ثم أطلقه ليستأنف تمرده على الأمير عبد الله، الذي أعمل له المكر وأرسل له من اغتاله سنة 284، وقام بعده بزعامة العرب محمد بن أضحى الهمداني فوالى الأمير عبد الله حتى وفاته.

 

وثار العرب بإشبيلية في تمرد رئيس وتغلب عليها إبراهيم بن حجاج، وارتبط مع ابن حفصون على مقارعة الأمير عبد الله، ثم اختلفا فصالح ابن حجاج الأمير عبد الله، فأقره بإشبيلية، وصرف إليه أعمالها وأحكامها.

 

وخرج عليه في سنة 275 محمد بن لب بن موسى بن فرتون، وحاصر مدينة تطيلة Tudela، وملك طليطلة في بعض أوقاته، وبقي تمرده عشرة سنوات إلى أن انتهى به الامر إلى أن حاصر سرقسطة سنة 285، فقُتِل وهو محاصر لها، وحمل رأسه إلى الامير عبد الله بقرطبة.

 

وكان أبناء الأمير على رأس هذه الحملات التي خرجت لقتال المتمردين، فخرج ابنه أبان لقتال ابن الخصيب بحصن منت ميور في سنة 284، وخرج في سنة 285 لقتال ابن حفصون،  وفي سنة 291 خرج إلى رية وهزم ابن حفصون وأجبره على الانسحاب إلى حصونه، وفي سنة 294 خرج إلى الجزيرة وحصن لوزة وحصون إلبيرة، وأخضع المتمردين فيها، وخرج في سنة 295بالصائفة إلى جهة رية ثم قصد بُبُشتر، وحارب ابن حفصون، وأنزل به، وحارب ما حواليه من الحصون، وفي سنة 298، خرج ابنه العاصي، وكان في عشرينات العمر، في الصائفة إلى ببشتر وإلبيرة، وفي سنة 299 غزا بالصائفة ابنه أبان وقصد حصن ببشتر، وحارب ابن حفصون، وأوقع به.

 

وهكذا كانت أيامه في فتن عظيمة، فلم تبق مدينة في الأندلس إلا وخالفت عليه، وامتد نفوذ الثوّار حتى وصل الأمر إلى وقت لم يبق في يده إلا مدينة قرطبة وحدها، وأراد بعضهم البحث عن شرعية لدى الخليفة العباسي في بغداد، وعزموا على الدعاء على منابر الأندلس للمعتضد بالله العباسي، فكتبوا إلى إبراهيم بن أحمد الأغلب في أفريقية يسألونه أن يبعث إليهم رجلاً من قِبَلِه، فتثاقل عنهم إبراهيم وشغله أيضاً اضطراب أهل أفريقية عليه، فأمسكوا عن ذلك!

 

ولما كثر التمرد وانتشر قلَّت الأموال واضطرب الخراج، لأن الثوار كانوا يجبونه لحسابهم من المناطق التي تقع تحت سيطرتهم، وكان خراج الأندلس الذي يُؤدَّى إلى آبائه ثلاثمئة ألف دينار في كل سنة، فكانوا يعطون رجالهم وخدمهم مئة ألف دينار، وينفقون في أمورهم ونُوَّابهم وجميع ما يعرض لهم مئة ألف، ويدّخرون مئة ألف، فلما امتنع الخراج رجعوا إلى تلك المدخرات ينفقونها، واتصلت عليهم الحروب خمس عشرة سنة فنفدت ذخائرهم واحتاجوا للقروض!

 

وساعد في ألا تتفاقم الأزمة المالية أن الأمير عبد الله كان بطبيعته مقتصداً يكره السرف، ومبعدا لأهله، يظهر ذلك في ملبسه وشكله وجميع أحواله، فوفر على الرعية وأنمى لهم بيت مالهم، وكان ورِعاً فلم يمد يداً إلى المال العام، واقتصر في مؤونته ومؤونة من يعوله على ثروته الشخصية وميراثه الحلال، وحمل على ذلك ولده وسائر خاصته فلم ينفق من مال الله شيئاً إلا في موضعه من الدفاع عن البلاد والدين، وكان حفيده عبد الرحمن الناصر يمشي دون خادم معه لأن نفقته لا تمكنه من ذلك، حتى نُسِبَ الأمير عبد الله إلى البخل، وعيب به، لأنه لم ينفق مثل إنفاق غيره من الملوك.

 

وإزاء هذه الفتن الرهيبة المتتالية، كان الأمير عبد الله على خشية دائماً من أن يترصد به بعض الطامعين فيكمن له ويغتاله، لا سيما إذا ظهر من البلد، ولا شك أنه اتخذ التدابير التي تحول دون ذلك، فقد ذكر مؤرخوه أنه منع تحرك الناس إذا هو خرج للصيد، وكان هذا الأمر يسري على كل الناس، حتى إن صاحب المدينة حبس أبناء الأمير حين خرجوا من المدينة متروحين، فلما انصرف الأمير من صيده، أنهى إليه أمرهم وما فعله فيهم؛ فاستحسن ذلك منه، وشكر له، وعهد إليه بإطلاقهم.

 

وفي سنة 277 واجه الأمير أزمة كبيرة على يد ابنه المُطرِف الذي قتل أخاه محمد، المولود سنة 250، وكان سبب ذلك أن المطرف، المولود سنة 255، كان شجاعاً مقداماً جعله والده على رأس جيوشه في الغزو ومقارعة الإفرنج والمتمردين، وجعله وليَّ عهده، ولكنه خشي لما رآه من شدته وبطشه، فنزع منه ولاية العهد وجعلها في ابنه محمد، فغضب المطرف من ذلك غضباً شديداً، لأن محمد كان والي والده على إشبيلية، ثم اختلف معه، فهرب إلى المتمرد عمر بن حفصون، ثم عاد فأمر والده بسجنه في القصر، فلما سنحت الفرصة للمطرف انتقم من قرار والده بأن قتل أخاه، فغض النظر والده عن ذلك إذ كانت ظروف الدولة لا تسمح بالقصاص، وفي سنة 282 قتل المطرفُ عبدَ الملك بن عبد الله قائدَ جيش والده ووزيره، وكان على رأس جيشه على بعد ميلين من إشبيلية، فآل الأمر إلى أن أمر والده بعد فترة بقتله قصاصاَ بأخيه وبهذا وبغير ذلك من الأمور.

 

ولما اغتيل الابن البِكر محمد سنة 277، كان له ولد عمره عشرون يوما، واسمه عبد الرحمن سيقدر له فيما بعد أن يرث المملكة من جده، ذلك إنه لما توفي الأمير عبد الله سنة 300، خلفه على الأندلس حفيده عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن، وتلقب بالناصر لدين الله، وكانت خلافته غير مألوفة، فقد كان شابا في الثالثة والعشرين من عمره، وهناك من أعمامه وأعمام أبيه من هم أكبر منه، ولكن كان جده الأمير عبد الله يقربه دون أولاده، ويرشحه لأمره، وربما أقعده في بعض الأيام والأعياد مقعد نفسه ليسلم الجند عليه، فتعلقت آمال أهل الدولة به، ولم يشكوا في مصير الأمر إليه، فلما مات جده، أجلسوه مكانه في الخلافة، وكان يسكن القصر مع جده، فتهيأ إجلاسه مكانه بغير منازعة، وكان أول من بايعه أعمامه أولاد الأمير عبد الله، ولم يعترض معترض عليه، واستمر له الأمر.

 

ودام ملك الحفيد عبد الرحمن قرابة 50 عاماً، وهو من بنى مدينة الزهراء وأول من تسمى بأمير المؤمنين في الأندلس، فقد كان أجداده يُخاطَبون بالامارة فقط، وفعل مثلهم عبدالرحمن إلى السنة السابعة والعشرين من ولايته، فلما بلغه ضعف الخلافة بالعراق، وظهور الشيعة العبيدية بالقيروان، رأى أنه أحق بإمرة المؤمنين، وتلقب بذلك اللقب.

 

كان الأمير عبد الله بن محمد جميلاً يملأ العين بهاءً، أبيض مشرباً بحمرة، أقنى الأنف، رَبْعة في الطول،، يخضب بالسواد، له من البنين أحد عشر، ومن البنات ثلاث عشرة.

 

كان الأمير عبد الله من الصالحين المتقين، حافظا للقرآن الكريم كثير التلاوة له، كثير الصلاة والصوم، دائم الخشوع والذكر الله عز وجل، كثير التواضع، وكانت له صدقات كثيرة ونوافل جزيلة، وكانت اللذات في أيامه مهجورة؛ فإنه لم يشرب قطُّ نبيذا ولا مسكرا في أيام خلافته ولا قبلها، ولا يعرف اللهو هو أو خاصته وعامته، وإعمال الخير وإظهار البرّ والتقوى فاش في كل طبقة من رجاله ورعيته، وقد أثنى عليه ثناءً عاطراً معاصره الأديب الإمام أحمد بن محمد بن عبد ربه صاحب العقد الفريد المتوفى سنة 328 عن 82 عاماً، وقال فيه:

 

خلافة عبد الله حج على الورى ... فلا رفث في عصره وفسوق

 

تجلت دياجي الحيف عن نور عدله ... كما ذر في جنح الظلام شروق

 

وثقف سهم الدين بالعدل والتقى ... فهذا له نصل وذلك فوق

 

وكان الأمير عبد الله يلتزم بصلاة الجماعة في الجامع إلى جانب المنبر طول مدته، وكان إذا خرج إلى الجامع فمر بالصفوف قام الناس له، فكتب إليه سعيد بن حُمير وهو أحد علماء قرطبة: أيها الامام، أنت من المتقين، وإنما يقوم الناس لرب العالمين، فلا ترض من رعيتك بغير الصواب، فإن العزة لله جميعا. فأمر العامة بترك ذلك فلم ينتهوا، فبنى ساباطاً - أي ممراً مغطى - من قصره إلى المقصورة التي يصلي فيها الأمراء في المسجد.

 

وكان الأمير عبد الله ذا فقه، حفظ القرآن، وتفقه، وأبصر الحديث، وطالع الرأي، وكان يحب العلماء ويقربهم ويزورهم، وأدرك تلميذ الإمام أحمد بن حنبل الإمامَ بقي بن مخلد المولود سنة 201 والمتوفى سنة 271، واستفتاه في قتل الزنديق، فأفتاه أنه لا يقتل حتى يستتاب، وكان للأمير عبد الله مجلس شورى من علماء بلاده أمثال أحمد بن بِقيَّ بن مخلد، وأحمد بن يحيى بن يحيى الليثي، وهو ابن تلميذ الإمام مالك.

 

ولنعرف جانباً من أخلاق بعض من هؤلاء العلماء، نذكر قصة حصلت مع أحدهم وهو الوزير سليمان بن وانسوس، المتوفى سنة 292، الذي كان جليلاً أديباً، من رؤساء البربر، دخل على الأمير عبد الله بن محمد يوماً، وكان عظيم اللحية، فلما رآه الأمير مقبلاً أنشد:

 

هِلَّوْفةٌ كأنها جُوالق... نكراء لا بارك فيها الخالق

 

للقمل في حافاتها نفائق... فيها لباغي المتكا مرافق

 

وفي احتدام الصيف ظل رائق... إن الذي يحملها لمائق

 

ثم قال: اجلس يا بربري! فجلس وقد غضب، فقال: أيها الأمير، إنما كان الناس يرغبون في هذه المنزلة ليدفعوا عن أنفسهم الضيم. فأما إذا صارت جالبة للذل فلنا دور تغنينا عنكم، فإن حلتم بيننا وبينها فلنا قبور تسعنا. ثم اعتمد على يده وقام ولم يسلم، فغضب الأمير وأمر بعزله.

 

وبقي لذلك مدة، ثم وجد الأمير لفقده ونصيحته وفضل رأيه، فقال: لقد وجدت لفقد سليمان تأثيراً، وإن استرجاعه كان ذلك غضاضةً علينا، ولوددت أنه ابتدأنا بالرغبة. فقال له الوزير محمد بن الوليد بن غانم: أنا أكلمه.

 

فنهض ابن غانم إلى دار ابن وانسوس فأستأذن، فأبطأ الإذن على ابن غانم حيناً، ثم أذن له، فدخل عليه فوجده قاعداً، فلم يتزحزح له ولا قام إليه، وكانت تقاليد رتبة الوزارة بالأندلس تقضي أن يقوم إليه ويتلقاه وينزله معه على مرتبته، فقال له ابن غانم: ما هذا الكبر؟ عهدي بك وأنت وزير السلطان وفي أبهة رضاه، تتلقاني على قدم، وتتزحزح لي عن صدر مجلسك، وأنت الآن وهو غاضب عليك بضد ذلك! فقال له: نعم. لأني كنت حينئذ عبداً مثلك، وأنا اليوم حر! فيئس ابن غانم منه وخرج ولم يكلمه، ورجع إلى الأمير فأخبره؛ فابتدأ الأمير بالإرسال إليه ورده إلى أفضل ما كان عليه.

 

وكان من الأمراء العادلين الذين يعز وجودهم، فقد كان يقعد قبل صلاة الجمعة وبعدها، فيرفع الحجاب، ويأذن لكل متظلم، وكان يجلس على بعض أبواب قصره في أيام معلومة فترفع إليه الشكايات، وتصله الكتب من باب في القصر سماه باب العدل، يضع فيه أصحاب الظلامات كتبهم وعرائضهم، فلا يتعذر على ضعيف إيصال مظلمته، وكان شديد الوطأة على ذوي الظلم والجور، فكان كبار القوم يتحفظون من كل أمر يوجب الشكوى بهم، ولا يتحاملون على من دونهم، هيبة من عقابه، وحذراً من تأنيبه.

 

وكان يحرص على الشورى ولا يخلو في أكثر أيامه من اجتماع بوزرائه ووجوه رجاله للنظر في الرأي والتدبير لإدارة المملكة وما كان يحاوله من حسم الفتنة.

 

وكان الأمير عبد الله حافظا لأشعار العرب وأيامها وسِيَر الخلفاء، بصيراً بلغات العرب، يقصده الشعراء ويلزمون بلاطه، ومنهم الشاعر مقدَّم بن مُعافى القَبْري - نسبة إلى قَبرة Cabra بليدة جنوب قرطبة - الذي اخترع الموشحات وأخذها عنه شاعر آخر في بلاط الأمير هو ابن عبد ربه الأندلسي صاحب كتاب العقد، ثم أبدعها وتفنن فيها من جاء بعدهم من شعراء الأندلس.

 

وكان الأمير عبد الله، مثلَ كثير من ملوك الأندلس وأمرائها، فصيح اللسان، حسن البيان، يقول الشعر ويرويه، ومن شعره:

 

يا كبِدَ العشاق ما أوجعك ... ويا أسير الحب ما أخضعك

 

ويا رسول العين من لـحظِها ... بالرد والتبليغ ما أسرعك

 

تنطق بالسحر وتأتي به ... في مجلسٍ يخفى على من معك

 

ومنه:

 

هذه الدار التي قد ... كنت من قبل أزورُ

 

قد محاها الدهر بعدي ... مثل ما تُمحى السطور

 

عُجْ بها حتى يوّفي ... حقَها القلبُ الصبور

 

ما قلوبٌ لم تذب بعد النوى إلا صخور

 

ومن قوله في الزهد:

 

يا من يُراوغه الأجَل ... حتّامَ يُلهِيكَ الأملْ

 

حتّامَ لا تَخشَى الردى ... وكأنه بِكَ قد نَزَل

 

أغفَلتَ عن طلبِ النجاة ... ولا نجاةَ لمن غَفَل

 

هيهات تَشغلُك المُنَى ... ولما يدومُ لك الشَّغَل

 

فكأنَّ يومَك لم يَكُن ... وكأن نَعيَك قد نزل

 

وله أيضا في الزهد:

 

أرَى الدنيا تصيرُ إلى فَنَاء ... وما فيها لشيء من بقاءِ

 

فبادِر بالإنابة غير وَانٍ ... على شئٍ يصير إلى فناء

 

كأنك قد حُمِلتَ على سرِيرٍ ... وغُيبَ حُسنُ وجهك في الثَّرَاء

 

فَنَافِس في التُّقى واجنح إليه ... لعلك تُرضيَنْ رب السماء

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين