رغبة إلى الله

إن البعد عن الله لن يثمر إلا علقماً، ومواهب الذكاء والقوة، والجمال والمعرفة تتحول كلها إلى نقم ومصائب عندما تعرى عن توفيق الله وتحرم من بركته.

 ولذلك يخوف الله الناس عقبى هذا الاستيحاش منه، والذهول عنه.

 قد تكون سائراً في طريقك فتقبل عليك سيارة تنهب الأرض نهبا، وتشعر كأنها موشكة على حطم بدنك وإتلاف حياتك، فلا ترى بداً من التماس النجاة وسرعة الهرب...

 إن الله تعالى يريد إشعار عباده تعرضهم لمثل هذه المعاطب والحتوف إذا هم صدفوا عنه، ويوصيهم أن يلتمسوا النجاة ـ على عجل ـ عنده وحده: (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين * ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين).

 وهي عودة تتطلب ـ كما رأيت ـ أن يجدد الإنسان نفسه، وأن يعيد تنظيم حياته، وأن يستأنف مع ربه علاقة أفضل وعملاً أكمل وعهداً يجرى على فمه هذا الدعاء، (اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).

 قال الدكتور زكي مبارك ـ نقلاً عن قوت القلوب ـ.

(ولا تنظر أيها التائب إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت.

 فقد كانت الصغائر عند الخائفين كبائر، وكان من الصحابة من يقول: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات.

 وليس معنى ذلك أن الكبائر التي كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم صارت بعده صغائر، ولكن معناه أنهم كانوا يستعظمون الصغائر لعظمة الله تعالى في قلوبهم، ولم يكن ذلك الوجدان في قلوب من بعدهم من المؤمنين.

 واختلفت الصوفية في نسيان ما سلف من الذنوب، فقال بعضهم: حقيقة التوبة أن تنصب ذنبك بين عينيك، وقال آخر: حقيقة التوبة أن تنسى ذنبك، وهذان طريقان لطائفتين، وحالان لأهل مقامين، فأما ذكر الذنوب فطريق المريدين وحال الخائفين، وأما نسيان الذنوب فطريق العارفين وحال المحبين.

 قال زكي مبارك ونحن نرجح الرأي الثاني ونريد الأخذ به في جميع الأحوال فإن تذكر الذنوب الماضية يشل العزيمة ويفتُّ في عضد التائب، ويخلق جواً جديدا للتعرف على ما سلف من الذنوب، وهو فوق ذلك جهد ضائع وشغل للقلب بما لا يفيد.

 وإقامة المناحات على الهفوات الماضية علالة سخيفة يتوهم فريق من الناس أنها تزيد في طهر القلوب، وهي في عالم الأخلاق تشبه بعض ما يقع في عالم القضاء، فلو كان يصح للقضاة أن يتعقبوا ماضي الناس ليأخذوهم بهفوات قدم عليها العهد لاختل الميزان، وذهب جمال الحاضر، وزهد الناس في فضل المتاب، فإن الأصل في التوبة أن تكون حجازاً بين عهدين، وأن يصبح التائب وكأنه مولود جديد، ولا تنسى أن اجترار الذكريات الماضية سيء الأثر في نظام الأعصاب، وهو خليق بأن تنهب العافية ويضيع جمال الساعة الحاضرة، وهي العدة الخلقية في نظام الأعمال) أ. هـ.

 والدكتور زكي مبارك مخطئ في تعصبه للرأي الثاني، ونحن لا نتعصب للرأي الأول بل نختار ما هو أصلح لدعم التوبة، وهجر الآثام، وإلف الطاعات والفضائل.

 فإن كان استصحاب الماضي يحرس الإنسان من الانزلاق ويقيه العودة إلى مساخط الله فيجب استصحاب ذلك الماضي.

 إنه يشبه التجربة التي تفيد صاحبها دربة على السير، وقدرة على تخطى العوائق.

 والنسيان هنا ذريعة إلى الجهل والانحراف.

 أما إذا كان الإنسان يكره استعادة صور انقضى عهدها، وامحى أثرها، ويشعر بأنه قد استأنف عهداً حافلاً بثمار الخير، ويرى أن نقل الماضي للحاضر تعكير لصفوه وشل لامتداده، فالواجب أن ينسى ما كان، وأن يقبل على حاضره وحده لينميه ويقويه.

إن النفوس مختلفات في هذا المضمار، وأحسب أن الذين تسوقهم سياد الرهبة أكثر من الذين يحدوهم نداء الرغبة: [قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا] {الإسراء:84} .

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر : كتاب الجانب العاطفي من الإسلام

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين