فلنستح من الدّعاء

إن لكلّ عبادةٍ شروطا وسننا وآدابا وموانع ومحبطات ؟ومن أعظم العبادات: الدعاء. 

 ألم يقل صلى الله عليه وسلم : "الدّعاء هو العبادة"؟ لماذا تمّ استثناء الدعاء من كلّ تلك الشروط والآداب والموانع ؟! 

هل من المناسب أن ندعو أيّ دعاء دون أن نحقق ما أمرنا الله بتحقيقه، وأن نبتعد عما أوجب الله علينا الابتعاد عنه ؟.  

 

- ربّ قائلٍ يقول: ليس هناك ما يجدي نفعاً لإنقاذ أهلنا في سوريا.. ولا حتى الدّعاء!!

- وربّ قائلٍ يقول أيضا: ما بالنا ندعو ليل نهار ولا يستجاب لنا!! بل نزداد بلاءً على بلاء.

- ألم يقل اللّه في كتابه الكريم: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ}.

- ألم يقل سبحاته:{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.

- بل يصل الحال ببعضهم -معذوراً ربما- للجهر قائلاً: "إمّا أنّ اللّه لم يعد يسمعنا أو أنّه خلق الكون وتركنا نتخبّط فيه دون أن يتدخّل"!! تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيرا.

 

أسئلةٌ كثيرةٌ من هذا القبيل يرددها بعض الناس دون جوابٍ شافٍ. بل أجزم غير مبالغ أنّ بعض الدّعاة والعلماء اليوم هم من أكثر من يزيد الهُوَّة بين المسلمين ومفهوم الدّعاء، ويدفعون الشّباب الغارق في اليأس إلى الإلحاد - أو الشكّ على أقلّ تقدير- من حيث دروا أو لم يدروا بتحميلهم الدّعاء ما لا يحتمل فيزهد النّاس فيه.

 

لنلق نظرة إلى سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكيف تعامل مع الدّعاء في الأزمات لعلّنا نصل إلى أجوبة أسئلتنا:

روى البخاري في صحيحه (3612 )عن خباب بن الأرت، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»

 

أوّل ما يفهم من الحديث هو تثبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين، وحثّهم على الصّبر والتمسّك بدينهم، وتبشيرهم بالنّصر والفتوحات.. لكن إذا أمعنّا النّظر ثانيةً وجدنا أنّ المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يدع لهم!!

رفضُ رسول الله صلى الله عليه وسلم للدّعاء في ذلك الموقف هو لغرس مفهوم الدّعاء الصّحيح في نفوس الصّحابة مخافة أن يتسلّل الفهم المغلوط إلى قلوبهم كما هو حاصلٌ مع  كثير من المسلمين اليوم.

 

وكأنّي أسمع حواراً خفياً بلسان الحال دار بين خبّاب ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم:

- ولكن يا رسول الله إنّا قومٌ مؤمنون ثابتون على الحقّ أليس الأولى أن تكون الغلبة لنا، لماذا نعذّب ونقتّل؟ ألسنا خيرة خلق الله على أرضه، ألسنا أصحابك!!

- يا خبّاب لدينا خطّة نسير عليها، وهناك سنن للّه لا نحيد عنها ولا يمكن القفز عليها حتّى ولو كنتم أصحابي وكنت رسول اللّه وخاتم النبيّين.

- يا خبّاب إن دعوت الله لكم فقد يخفّف عنكم اليوم وننتهي كلّنا غداً.

- يا خبّاب إنّ صبراً مع فهمٍ صحيحٍ خيرٌ من رخاء في طريقٍ خاطئ.

- يا خبّاب إن الدعاء ليس حيلة المتواكل بل هو سند العامل.

 

كلّنا يعلم أن الأخذ بالأسباب واجبٌ حتميٌّ، ونحفظ أدلّةً كثيرةً على ذلك من السّنة وسير الصّحابة:

-اذهب فاحتطب. 

-أعنّي على نفسك بكثرة السجود. 

-السّماء لا تمطر ذهبا ولا فضّة...

ولكن حينما نصل إلى الكارثة بمحيدنا عن السّنن، نتناسى أخطاءنا وانحرافنا وعدم أخذنا بالأسباب التي أمرنا بها، ونجأر إلى الله داعين ظاهراً لائمين ممتعضين باطناً ممّا بيّنه لنا ابتداءً: متى نصر الله؟ يا رب نصرك الذي وعدت !!

أليس الأحرى بنا في لحظة مثل هذه أن ندعو اللّه أن يغفر لنا تقصيرنا ويلهمنا رشدنا ويهيّئ لنا أسباب النّصر؟! حريّ بنا- والله- أن نستحيي من دعاءٍ كهذا بعد كلّ ما اقترفته أيدينا.

 

روى مسلمٌ في صحيحه من حديث عمر بن الخطّاب قال: لمّا كان يوم بدرٍ نظر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مدّ يديه فجعل يهتف بربّه: "اللهمّ أنجز لي ما وعدّتني، اللهمّ آت ما وعدّتني، اللهمّ إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" فما زال يهتف بربّه مادّاً يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبيَّ الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك.

 

جهّز رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش ورصّ الصّفوف ورفع المعنويات وثبّت النفّوس.. ثمَ التجأ لله تعالى بأن قد قمت بما أمرتني فأنجز لي ما وعدّتني . فجاء الجواب: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} هل هناك أيسر من مثل هذه المعادلة؟!

 

وقد أوضح الدكتور أحمد خيري العمري هذه المعادلة التي نغفل عنها في تعليقه على الآية الكريمة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون} بأنّ الله شرط إجابة الدّاع باستجابته لأوامره وهو ما يغفل عنه كثير ممن يقرؤون الآية بشطرها الأوّل غافلين عن الشّطر الثاني.

 

- ما دمنا مأمورين بالأخذ بالأسباب كما يأخذ بها عدوّنا فما فائدة الدّعاء إذاً وأين تأييد الله لنا كمسلمين؟

- وهل أخذنا عشر معشار ما أمرنا به من أسباب، وسلكنا الطّريق الصّحيح واتّبعنا سنن اللّه في كونه ثم رأينا غياب معيّته!

معيّة الله تظهر جليّةً ما دمنا على طريقه وهديه واتّباع سنّته، أمّا وقد ابتعدنا عن ذلك كلّه فلا نجاة من الابتلاء والمصائب. فإمّا أن نؤوب وإمّا أن نُستبدل ليجيء من يفهم ذلك كلّه، وفي حالٍ مثل هذه يجب ألّا ننتظر أكثر من تخفيف العقوبة من الرّحمن.

 

ألا فلنعلم :

لا نصر بدعاء الأئمّة على المنابر فقط  دون عمل وسعي دؤوب.

لا نصر بدعاء المتعاطفين في بيوتهم مع الشّهداء والمظلومين دون تحرّك مطلوب.

 ولا نصر حتّى بدعاء المجاهدين إذا لم يحكموا الخطة ويأخذوا  بالأسباب التي أمر الله بالأخذ بها.

 

-وماذا عن قوله صلى الله عليه وسلم: اتّق دعوة المظلوم، فإنّها ليس بينها وبين اللّه حجاب؟

صحيح، ليس بينها وبين اللّه حجاب، ولكن من قال: إنّ الإجابة ستكون على الكيفية التي يريد، وفي الوقت الذي يختار ؟! ربّما يخفّف الله عن المظلوم آلامه، وربّما يتلطّف به بالابتلاء، وربّما يدّخر له دعاءه وصبره فيجزيه به خيراً في الآخرة، وربّما ينتقم من ظالمه في الدنيا أو يؤخّر عقابه للآخرة، الملك والتدبير والحكمة له وحده، ومن قال: إنّ الدّنيا هي محكمة العدل الربانية؟!

 

وكأنّه سبحانه يُتذكّر فجأةً عند حاجتنا إليه فنطلب منه ما نريد ليحقّقه لنا بالشّكل الذي نريد، ثم نعود إلى حياتنا بعيداً عنه، ألم يقل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "احفظ اللّه يحفظك.. اعرف اللّه في الرخاء يعرفك في الشّدّة"؟!!.

إنها دعوةٌ للعودة إلى عبادة الدّعاء - بشكلها الصّحيح والتمسّك بها وبأسبابها- وتنقيتها ممّا علق بها من المغالطات وليس الزّهد بها. 

اللهم وفقنا للعمل الذي يرضيك عنا،وتجاوز عن سيئاتنا وتقصيرنا. واجعلنا ممن استجاب لأوامرك، وأخذ بسننك، ودعاك بصدق وإخلاص ويقين.  

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين