قصة السواك نموذجاً لإشكالية التعامل مع التراث (2-2)

 

إن الخطاب الديني ينطلق أساسا من عقيدة غيبية، لكن تصورات المتدينين عن علاقة الغيب بعالم الشهادة ليست واضحة ولا تضبطها منهجية متفق عليها، إضافة لاختلاط هذه الدائرة بالروايات والقصص والأساطير التي تحل لدى بعضهم محل العقائد كما في قصة السواك مثلا.

كنت قد سمعت عن أحد الخطباء أنه حذر المصلين من دخول سبعة آلاف جني يهودي أرسلتهم إسرائيل لتخريب عقول المسلمين بالمس ونحوه! ذهبت إليه وسألته عن مصدر هذا الخبر؟! فأكد لي أنه سمعه عن شيخ ثقة كان يعالج ممسوسا فنطق الجني على لسانه وأخبره بذلك، وأن هذا الجني واحد من السبعة آلاف!

تصديق الشيخ بمثل هذا لا شك أنه مبني على مقدمات منها أنه يرى الجني ولو كان يهوديا مصدرا موثوقا للمعلومات الغيبية! وأن الجن باستطاعتهم التحكم بعقول البشر والعبث بها متى شاؤوا وكيفما شاؤوا، ومن ثم لا بد من فتح مراكز لبث (الوعي الجني) على غرار الوعي السياسي والاقتصادي..إلخ ثم فتح (عيادات جنية) لمعالجة آلاف البشر من ضحايا الغزو الجني، ولك أن تتصور حال الناس في مثل هذه الفوضى العقلية والنفسية، ومدى اختلاط الحق بالباطل، والناصح بالنصاب، والمعلومة الصحيحة بالخرافة..إلخ ثم ما ردود فعل الآخرين من غير المتدينين الذين يرون أن كل هذه الفوضى كانت بسبب الدين أو التدين؟

المشكلة لا تقف عند هذا، فهناك فوضى أخرى وخراب ودمار امتزجت أيضا بالخطاب الديني، حيث تصدت مثل هذه العقول للشأن العام، وصار الناس يسمعون فتاوى وبيانات ومواقف لا يمكن فهمها، وعلى سبيل المثال: تسمع لأحدهم وهو يهدد أميركا وروسيا والصين والعالم كله، بل ويدعو إلى قلع الأنظمة الحاكمة لأن (الكفر ملة واحدة)، {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، فإذا سألته عن عدته؟ قال: نحن لا نقاتل بعدد ولا بعتاد وإنما نقاتل بالله وننتصر بالله {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، وما المانع أن الله ينصرنا على أميركا أو الروس ولو بعود سواك أو حفنة من تراب؟ وربما يستدل هنا بقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} لأنه يفهمها قانونا إلهيا وليست خارقة خاصة.

في مقابل هذا تجد من يفتي بالاستسلام التام، لأن هذه إرادة الله و(كيفما تكونوا يولَّ عليكم) و(أن الكفار هم كلاب الله يسلطهم على عباده حينما يغفلون عن طاعته) فالتغيير إنما يكون بإصلاح النفوس حتى تتأهل لرحمة الله التي ستغير لنا كل شيء.

إن هذه لم تعد مواعظ مجردة، بل هي مشاريع وفصائل وجماعات، وقد انبنت عليها مواقف خطيرة تتعلق بحياة الناس وأمنهم واستقرارهم، ومن ثم فإننا أمام نتائج قد تكون أخطر وأكبر بكثير مما نتصور.

إننا بحاجة إلى إحياء المنهج الإسلامي الأصيل -وهو منهج السلف الصالح- لتصفية العقيدة الثابتة في الوحي حصرا عن كل تلك الروايات والحكايات المنسوبة إلى الجن أو إلى الإنس، ثم التمييز بين النظام الكوني الثابت الذي ألزمنا الله به وبين الخوارق التي لا يمكن اعتمادها ولا القياس عليها لأنها من صنع الله وليست من صنع البشر.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين