للمسلم أن يُقلِّد عِدَّة أئمة

 

1 – هل يجوز لمن قلَّد مالكاً أو الشافعيَّ في أحكامه أن يخالِفَه في بعض الأحكام ويقلِّد فيها أبا حنيفة؟ 

? – وهل يجوز لمن قلَّد أبا حنيفة في حكم مسألة عرضت له أن يقلِّد فيها غيره إذا عرضت له مرَّة أخرى؟

 ? - وهل يجوز صلاة الشافعي مُؤتمّاً بالحنفي وهو لا يلتزم التسمية، والتسميةُ فرض عند الشافعي؟ 

4- وهل يجوز للحكومة الإسلاميَّة أن تشرِّع قانوناً شرعياً لا تتقيَّد فيه بمذهب خاص، بل تأخذ من مختلف المذاهب الإسلاميَّة الأحكامَ التي تراها أرفق بالناس، وتلائم بيئتهم ومصالحهم؟ 

هذه أسئلة تجول بخواطر كثيرين من المسلمين، وقد وُجِّه إليَّ بعضُها على إثرِ مقالي الذي كتبتُه في العدد الماضي، بعنوان: (في اختلاف الأئمَّة رحمة). وأنا أكتب في هذا الموضوع راجياً من الله سبحانه أن يوفِّقني إلى الحق والسداد: 

على كلِّ مُسلم أن يعرف أحكام شريعته لتكون جميع أفعاله من عباداته ومُعاملاته وعقوده وتصرفاته على ما يَقتضيه دينُه الذي يَدين به، وليعرف ما أحلَّه له دينه وما حرَّمه عليه، وما أوجبه، وما ندبه، وما كرهه، وما رتَّبه على الأسباب من آثار ومُسبَّبات؛ لأنَّ الدين عقائد وأعمال.

والأحكام الشرعيَّة التي يجب على المسلم معرفتها تنقسم قسمين:

 القسم الأول: أحكامٌ شرعيَّة ظاهرة مشهور? قرَّرتها وكرَّرتها نصوص صريحة قطعية في القرآن وفي السنَّة، وتناقلها المسلمون بالتواتر، جموع عن جموع، لا يختلفون فيها، ولا يحتاج مسلمٌ إلى من يُعينه على معرفتها، مثل فرضيَّة الصلاة والزكاة والصيام والحج؛ ومثل حُرمة الزنا وقَتْل النفس، ومثل اشتراط الوضوء واستقبال القبلة لصحَّة الصـلاة؛ ومثل حرمة زواج المسلم بأمِّه أو بنته، فهذه الأحكام وأشباهها يَعرفها كل مسلم بنفسه من غير تقليد لغيره فيها، ويعرف أدلَّتها الصريحة القطعيَّة مما يَقرأ ويسمع عِدَّة مرات في ليله ونهاره، وكل مُسلم يشعر أنه ما عَرف فرضية الصلاة أو الصيام، أو حرمة الزنا وشرب الخمر تقليداً لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة، وإنَّما عرفها بنفسه من آيات قرآنه، وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّها من الشعائر الإسلاميَّة، والأحكام الظاهرة الأساسيَّة؛ فهي لا اختلاف فيها بين المجتهدين، ولا تقليد فيها من أحد المسلمين. 

والقسم الثاني: أحكام شرعيَّة ليست في مَرتبة الأحكام الأولى من الوضوح، وأدلتها ليست صريحة قطعيَّة، مثل أدلَّة الأحكام الأولى، وتختلف العقول في فهمها وفي الأحكام التي تأخذها منها، ومن هذا أكثر الأحكام التفصيليَّة في العبادات والمعاملات، مثل فرض التسميَّة في قراءة الفاتحة في الصلاة، وبُطلان الوضوء بخروج دمٍ سَائل من بدن المتوضئ، وإرث حقِّ الشُّفْعة، واعتبار الخُلْعِ فَسْخاً أو طلاقاً، والتفريق بين الزوجين للإعسار. 

فهذه الأحكام التفصيليَّة وأشباهها ليست في وُضوح الأحكام الشرعيـَّة الأولى، ولهذا لم تتَّفق آراء العلماء فيها كما اتفقت في الأولى، وليس في مقدور كلِّ مُسلم أن يعرفها بنفسه من غير مُتابعة غيره كما عرف الأولى؛ لأنَّ المسلمين ككل أمة وكل جماعة فيهم العامَّة الذين لا يَقتدرون بأنفسهم على فهم هذه الأحكام، ولابد لهم لمعرفتها من سؤال غيرهم عنها، ومُتابعتهم فيما يجيبون به؛ وفيهم من لا يَقتدرون على فهم دليل الحكم وطريق الاستدلال به، ولابدَّ لهم من الاقتصار على معرفة أنَّ هذا حرام أو مباح، أو مُبطل للوضوء أو غير مبطل، أو صحيح شرعاً أو غير صحيح. 

وهذا هو الذي يُسمَّى في الاصطلاح الشرعي التقليد. 

فالتقليد هو اتباع المسلم قولَ غيرِه في حكم شرعي، من غير وقوفه على الدليل الشرعي على هذا الحكم. 

وتقليد المسلم لإمامٍ من الأئمَّة المجتهدين في معرفة حكم شرعي لفعل من أفعاله هو طريقٌ لمعرفته حكم شريعته، حيث لا يَتيسَّر له أن يعرفه بنفسه من أدلَّته الشرعيَّة؛ لأنَّ الله سبحانه لا يُكلِّف نفساً إلا وسعها، وليس في وسع كل عامي من المسلمين أن يأخذ الحكم الشرعي عن دليله بنفسه، ولا أن يعرف الحكم ودليله ووجه الاستدلال به؛ ولهذا أوجب الله تعالى على من لا يعلم أن يسأل من يعلم، فقال عزَّ شأنُه: [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {الأنبياء:7} 

وليس تقليدُ المسلم لإمامٍ من الأئمَّة المجتهدين عبادة، ولا واجباً مَقْصوداً لذاته؛ وإنما هو طريقٌ لمعرفة الحكم الشرعي، أو وسيلة لاتباع المسلم أحكام دينه؛ وليس لإمام مجتهد ممن يُقلِّهم المسلم ميزة على غيره من الأئمَّة تجعله مَعْصوماً من الخطأ في اجتهاده: لأنَّه بعد وفاة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لم يُوجد مجتهد مَعْصوم من الخطأ، لا من أصحابه ولا من تابعيهم، ولا ممن يَلونهم؛ وكل الأئمة المجتهدين هم من أهل الذكر والعلم بالأحكام الشرعيَّة، ومن قلَّد واحداً منهم فهو متَّبِعٌ أهلَ الذكر الذين أمرَ الله تعالى المسلمين أن يَسألوهم عما لا يَعْلمون، ومَن سأل واحداً من أهل الذكر عن حكم شرعي لواقعة حدثت له فلا بأس عليه إذا سأل واحداً آخر منهم عن واقعة أخرى حدثت له.

بناءً على هذا، يجوز لمن التزم تقليدَ الشافعي في أحكامه أن يقلِّد مالكاً، أو أبا حنيفة في بعض الأحكام؛ لأنَّه في كل حال يَتَّبِعُ أهلَ الذكر، ومُتعرِّفٌ حكم شريعته من طريق مُتابعة من يعرفه. 

ومن الخطأ وسوء الظن بالأئمَّة المجتهدين رضوان الله عليهم، أن يتوهَّم المسلم أنَّ مذهب بعض الأئمة هو الصواب ومذهب غيره خطأ؛ لأنَّ كل قول بعـد قول المعصوم صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون صواباً وأن يكون خطأً، وكل مجتهد من الصحابة ومن التابعين ومن الأئمَّة المجتهدين صرَّح بأنَّه في اجتهاده إنْ أصاب فمن الله، وإن أخطأ فمن نفسه. وما من مجتهد إلا رجع عن اجتهاده في بعض الأحكام لما تبيَّن له خطؤه. 

والإمام مالك كان يَقول في درسه بالمسجد النبوي: ما منا إلا من يخطئ ويصيب إلا صاحب ? هذا القبر - ويشير إلى قَبْر الرسـول صلى الله عليه وسلم.

والشافعي قال: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي عرض الحائط؛ وقد رجع في مصر عن أحكام أدَّاه إليها اجتهاده في بغداد. 

وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن كلُّ واحد منهم رجع عن رأيه في بعض الأحكام، ولهذا يَقولون في كتب الفقه بعد حكاية الرأي لواحد منهم: وكان يقول أولاً بخلافه. 

فالحقُّ أنَّ كلَّ مجتهد إذا أدَّاه اجتهادُه إلى الحكم الشرعي في واقعة، لا يجزم ولا يقطع بأن هذا هو حكم الشارع في الواقعة، وإنما يَغلب على ظَنِّه ويترجَّح في رأيه أنَّه هو الشارع في الواقعة؛ وبناءً على غلبة ظنه ورجحان رأيه يعمل بما أدَّاه إليه اجتهاده ويُتابعه غير المجتهد فيه. 

وكلُّ أحكام المجتهدين بالنسبة إلى المقلِّدين سواء في أنَّها أحكام غلب على ظنِّ أهل الذكر أنَّها الأحكام الشرعيَّة. 

فمن قلَّد إماماً في أحكام الوضوء، وآخر في أحكام الصلاة، وثالثاً في أحكام الزكاة، فهو عامل بأحكام ترجَّح في رأي أئمة من المجتهدين أنَّها أحكام الدين. 

ومن قَلَّد إماماً منهم في حكم واقعة عرضت له، جاز له أن يقلِّد آخر منهم في حكمها إذا عَرضت له مرَّة أخرى، وكل من توضَّأ مُتَّبِعاً أحكام إمام مجتهد فوضوؤه صحيح شرعاً على ما ترجَّح في مذهب إمامه، وليس لمن خالفه أن يحكم بأنَّ وضوءه باطل شرعاً؛ لأنَّ كلَّ مجتهد مهما غلب على ظنِّه أنَّ رأيه هو الصواب لا يستطيع أن يجزم بأنَّه هو الصواب، ولا أن يحكم بأنَّ مخالفه خطأ؛ لأنَّ الحكم ببطلان الرأي المخالف نتيجة التحقُّق من صواب ما يخالفه. فصلاة كلِّ مسلم وصيامه، وكل عباداته ومُعاملاته، صحيحة شرعاً حسب مذهب إمامه، ولا يسوغ الحكم عليها بأنَّها باطلة شرعاً ممن يخالفها في بعض الأحكام. 

وعلى هذا فليس لحنفيٍّ أو مالكي أو شافعيٍّ أن يَمتنع من الاقتداء بالإمام المخالف لمذهبه؛ وليس له أن يَزعم أنه لما قلَّد الشافعي أو أبا حنيفة التزم مذهبه فقط، والتزم أنَّ مذهبه هو الصواب وما خالفه خطأ؛ لأنَّه إنما قَلَّد إمامه لضرورة معرفة الحكم الشرعي عن طريقه، وليست فيه أهليَّة الموازنة بين المذاهب، والحكم بأنَّ مذهبه صواب ومخالفه خطأ؛ لأنَّ هذا للمجتهدين لا للمقلِّدين؛ وما حَكَم أي مجتهد بأنَّ الحكم المخالف له خطأ، وكل واحد منهم صرَّح بأنَّ قوله صواب يحتمل الخطأ. 

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يَقْتدي بعضهم ببعض، وكذا التابعون وتابعوهم، وفيهم المجتهدون المختلفون، ولم يُنقلْ عن أحدٍ من السلف أنَّه كان لا يَرى الاقتداء بمن يخالفه ولو في خصوص الطهارة والصلاة، بل كان بعضُهم يَقتدي ببعض، وكان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه يُصلون خلفَ أئمَّةِ أهل المدينة من المالكيَّة، وكذلك الحال بمكة ومصر ودمشق وسائر الأمصار الإسلاميَّة. 

وقد كان أحمدُ بن حنبل يَرى أنَّ الرُّعَاف والفَصْدَ والحجامة وكلَّ دَمٍ يخرج من بدن المتوضئ، يُبطل وضوءه، فقيل له: إذا فصد الإمام أو احتجم أو رعف أو سال من بدنه دم ولم يتوضأ فهل تصلي خلفه؟ فقال: وكيف لا أصلي خلفَ مالك بن أنس، وسعيد بن المسيب؟

وكلمتي في الختام: 

أنَّ للمسلم أن يُتابع في أحكامه الشرعيَّة إماماً واحداً من المجتهدين، أو عِدَّة أئمَّة منهم، لأنَّهم جميعاً من أهل الذكر والعلم، ومُتابعتهم متابعة لحكم الشريعة بحسب غَلبة الظنِّ التي كلَّفنا الشارع أن نَبني عليها أعمالنا وأحكامنا، وما كَلَّفنا الشارع أن نلتزم مَذْهباً خاصاً ولا نخالفه، ومَن أوجب على المسلم أن يَلتزم مذهباً معيناً لا يخالفه في بعض أحكامه أخذاً بمذهب إمام آخر فهو متعصب تعصباً مبنيَّاً على الميل والهوى، لا على الحجَّة والبرهان، وكذلك من منع مُسلماً من أن يَأتَمَّ بإمام يخالف مذهبَه، أو منع حكومة إسلاميَّة من أن تأخذ قانوناً من مختلف المذاهب مُراعيةً في الأخذ ما هو أنسب بالبيئة، وأقرب إلى تحقيق مصالح الناس؛ فالمذاهب الإسلاميَّة المتداولة بين المسلمين والمرويَّة عن أئمتها بطرق مَوثوق بها، ليست أدياناً مختلفة، وإنَّما هي فروعُ شجرةٍ طيبة واحدة، وجداول يجري فيها الماء العَذْب من مَنْبع واحد، فمن أي فَرْعٍ نال المسلم ثمرة جنى ثمرة طيبة، ومن أي جدول شرع روي بماء عذب، والتعصُّب الأعمى لمذهب دون مذهب من الجهل لا من التمسُّك بالدين، وتصويب مذهب دون غيره على سبيل القطع والجَزْم جُرأة وافتيات، وتفريق لكلمة المسلمين وتمزيق لوحدتهم، وأكرِّر في هذا المقال ما قلته في مقالي السابق أنَّ اختلاف الأئمَّة يُسْر ورحمة، لا خُلف وفرقة.

مقال في اختلاف الأئمَّة رحمة هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد العاشر السنة الثانية، جمادى الآخر 1368 مارس 1949 ).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين