مقاصد الإسلام -2-

 

1 – انتهينا في المقال السابق إلى أنَّ الغاية الدينيَّة الأولى، التي يوجِّه الإسلامُ المؤمنَ إليها، هي رفع الإنسان من وهدة الحيوانيَّة إلى سمو الإنسانيَّة. وإذا كان إبليس يوجِّه الإنسان نحو الشهوات والطبائع الأرضيَّة، بما يوسوس به في نفسه، فالإسلام وسائر الأديان تعمل على رفعه، وحمله على أن يخلعَ نفسَه من ذلك، ويبعد إبليس عن نفسه كما أخرج من الجنة القدسيَّة، وقال له ربه: [قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّك رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْك اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ] {الحجر:34-35}. 

وإنَّه لأجل هذا كان الجهاد واجباً على الإنسان، وأعلاه: ما اتجه إلى تربية السموِّ، وهو الاستيلاء على الأهواء والشهوات وقدعها كما ذكرنا، وأوسطه: أن يعمل على رفع الظلم، ومحاربة كل أنواع الأذى، وأقربه: هو التقدُّم في الميدان لمجاهدة المعتدين. 

?- ولنشرْ الآن إلى العدَّة لكل نوع من أنواع هذا الجهاد، فإنَّ هذه العدة مختلفة في نوعها مُتباينة في شكلها. ولكن هناك عدة مُتَّحدة إذا تغير شكلها لا يتغير جوهرها، وإذا تغيرت أعراضُها لا يتغير أصلها. وتلك العدة المشتركة التي تصلح سلاحاً في كل ميدان من ميادين الجهاد – بل لا يمكن أن ?كون جهاد في أيِّ صورة من صوره، إلا إذا تحقَّقت وظهرت فيه آثارها، وبدت معالمها –هي الصبر، فالصبر هو الأساس لكل جهاد، وقد حثَّ عليه الإسلام ودعا إليه في كثير من آيات القرآن، وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. 

ولقد أحصى الآيات بعضُ العلماء التي تدعو إلى الصبر وتحضُّ عليه، فوجد أنَّها تجاوزت سبعين آية قرآنيَّة، ولقد صرَّحت الأحاديث بأنَّ الصبر شعبة من شعب الإيمان. 

3- وإنَّ أول أحوال الصبر وأعلاها: هو ما يتعلَّق بالاستيلاء على النفس، ويسمى ضبط النفس. وإنَّ المؤمن الصادق الإيمان لا تضطرب نفسه، ويستولي عليها الفزع أو الفرح، فلا تفرح فرح الأشر والبطر بالسراء، ولا تجزع وتذهب شعاعاً في الضراء، ولذا قال سبحانه وتعالى في وصف الطبيعة الإنسانيَّة، وعلاج المؤمن لمواطن الضعف النفسي فيه: [وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ] {هود:9-11}. 

فالمؤمن صَبورٌ، يتعرَّف مكامن الداء في نفسه فيعالجها. والصبر في هذه الحال له مراتب: 

أولاها: مُراقبة نفسه مراقبة دقيقة، بحيث يعرف أبواب الهوى فيها فيسدها، ومنازع الشهوات فيقمعها.

 والمرتبة الثانية: أن يَعزِمَ أمرَه على تحمُّل الحرمان، فيما يرى فيه ضعف إرادته، وتوهين عزيمته، بحيث تكون نفسه في قوة مُستمرَّة لمغالبة الهوى.

 والمرتبة الثالثة: أن يملأ نفسه بالاطمئنان إلى الله تعالى، وتذكُّر عظمته وجلاله، فإنَّ ذلك يولِّد في قلبه الرضا بالحرمان. وليس الصبور هو الذي يتململ ويتألَّم، إنَّما الصبور هو الذي يرضى ويعزم، ولذا قَرن الله تعالى الأمرَ بالصلاة بالأمر بالصبر، وجعلهما سبيلي الاستعانة على تحمُّل أعباء التكليف ومحاربة الشيطان، فقال تعالى: [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ] {البقرة:45}.

4- وإنَّ الإسلام بالنسبة للشهوات الإنسانيَّة كان وسطاً عدلاً، فهو لم يَدْعُ إلى الحرمان المطلق الذي يسلكه بعض الناس المنتمين إلى ديانات مختلفة، إذ حاولوا أن يقتلوا معنى الحيوانيَّة في الإنسان بمحاربة الفطرة، فمنهم من حرَّم النساء على نفسه، وتبتَّل وزهد وامتنع عن حلال الحياة ونعمها، زاعماً أنَّ ذلك عبادة! بل حسبوا ذلك ديناً واجب الاتباع! 

ومن الناس من فهم الحياة لذَّة عاجلة تُؤخذ، أو لذَّة ماديَّة ترجى، من غير نظر إلا إلى اللذات، فجاء الإسلام، وسلك طريقاً لا عِوَج فيه ولا شطط، فأوجب أن يأخذ الجسدُ حظَّه من غير اعتداء ولا إسراف، وأمر بالاعتدال والاستقامة والعناية بالروح والنفس، ولذا قال الله تعالى: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ] {الأعراف:32}. وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ] {المائدة:87}. 

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلوا واشربوا والبسوا في غير سرف ولا مخيلة) [أخرجه أحمد والنَّسائي وابن ماجه]. وقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ لبدنك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه) [أخرجه البخاري]. 

ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم من بعد النبي صلى الله عليه وسلم وفي حياته مُثلاً عالية للزهد الإسلامي، ومع ذلك كانوا المجاهدين الذين لا ينالون من حظوظ الدنيا إلا ما يقوِّي أبدانَهم، ولا يُضْعِفُ عزائمَهم ولا ينزلهم من سموِّهم الروحي، واتجاههم إلى الله تعالى! 

ويروى أنَّ عائشة رضي الله عنها رأت رجلاً يتساند على الناس في سيره، فقالت: ما هذا؟ قالوا: هذا عابد، فقالت أم المؤمنين: (كان عمرُ بن الخطاب أعبدَ منه، وكان إذا مشى أسرع، وإذا تكلَّم أسمع، وإذا ضرب أوجع). 

وقد سئل الإمام أحمد عن الزهد، فقال: (الزهد طلب الحلال). 

فمن يقتصر على الحلال من غير إسراف ولا اعتداء، ويعطي المال حقه، ويؤثر على نفسه، [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا] {الإنسان:8} فهو أزهد الزاهدين، وليس الزهد في الإسلام على ذلك أمراً سلبيا يقتصر على الحرمان، وتعذيب الجسم، وتحميله المشقَّات من غير جدوى، إنَّما الزهد في الإسلام عمل إيجابي مُنتج مُثمر، فهو يَتكوَّن من عناصر ثلاثة: أولها: الاقتصار على طلب الحلال مع إعطاء كل ذي حق حقه. وثانيها: أن يَقصد بطلب الحلال إطاعة الله تعالى والاستجابة إليه سبحانه، ليكون سامياً حتى في تناوله لمتع الدنيا. وثالثها: أن يؤثر من هو أشد حاجة منه على نفسه، فهذا هو زهد الصدِّيقين الأبرار، وهو زهد فيه تعاون إيجابي، ونفع للناس، وليس أمراً مَقْصوراً على صاحبه، وليس حرماناً سلبياً لا نفع يعود منه على الناس شيء.

5 – هذا هو الصبر ومداه، وهو السبيل لقمع الشهوات، وهو عدَّةٌ لكل مجاهد في أيِّ ميدان من ميادين الجهاد، و هو عدَّة لاحتمال الأذى، ومن يتقدَّم للخير من غير تقدير للأذى ينزل به، إما في ماله وقوته، وإما في إيذاء المخالفين المستمر، وإما في الفتن فلا يصبر عليها إلا أولو العزم من الرسل وتابعيهم، ولذا قال سبحانه مُشعِراً المؤمنين بوجوب الصبر ما داموا قد تقدَّموا لدعوة الحق: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ] {البقرة:214}.

 ولما أصيب المسلمون في غزوة أحد، كان الصبر هو العُدَّة التي يستطيعون بها أن يُعيدوا الجولة ويكون لهم في بلادهم دولة تستقر وتثبت، ولذا قال سبحانه: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] {آل عمران:142}.

ويقول سبحانه مُبيِّناً ما يجب أن يتوقَّعه المؤمن من شدائد: [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] {آل عمران:186}.

وإنَّه غنيٌّ عن البيان أنَّ الصبر عُدَّة المجاهدين في الميدان، فإذا ذهب الصبر كان الخذلان، والنصر لا يكون إلا بالصبر عند بوادر الانتصار، وبالصبر حتى نهاية القتال، وما كانت جروح المسلمين في أُحد، إلا بسبب عدم صبر الرماة الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالبقاء في أماكنهم، ليحموا ظهورَ إخوانِهم، ولكن لم يصبروا عند ظهور بوادر النصر.

وقد كان المؤمنون الأولون يُنصرون بالصبر والتأييد، ولقد قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {آل عمران:200}.

6 - وإنَّنا إذا انتقلنا من التعميم إلى التخصيص، أي: انتقلنا من العُدَّة العامَّة إلى عُدَّة كل نوع من النوعين الأخيرين من الجهاد، وهما الجهاد لمنع الفساد في الأمَّة ورفع الظلم فيها، والجهاد لرد الاعتداء - نقول إنَّ الكلام في الجهاد لدفع الاعتداء قد تكلَّمنا فيه في عدة مواضع، أوسعها ما بيَّنَّاه في بحث كتبناه، وتُرجم إلى عدَّة لغات، وهو نظريَّة الحرب في الإسلام، ولذلك نترك الكلام فيه، حتى لا يتشعَّب بنا القول، محيلين القارئ الكريم على ما كتبناه هنالك. 

ولنتجه إلى الجهاد في داخل الأمَّة لمنع الفساد فيها ورفع الظلم بين الآحاد وغيرهم، وإن أداته المثلى هي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهذه خصلة الإسلام، ودعامة من دعائمه، ولقد أمر به القرآن الكريم في الآيات قال تعالى: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {آل عمران:104}. 

ولقد قال بعضُ المفسرين: إنَّ (من) هنا بيانيَّة، ومؤدَّى الكلام على هذا: لتكونوا أمَّة تأمرون جميماً بالمعروف وتنهون عن المنكر، فإنَّ أولئك الذين يتواصَون بالحق، ويدعون إليه هم المفلحون الفائزون آحاداً وجماعاتٍ وحُكَّاماً.

ويقول سبحانه وتعالى في آية أخرى: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ] {آل عمران:110}، فكانت خيريَّة هذه الأمَّة في أن تكون مُتعاونة في دفع الفساد ومنع الشر، ولذا وصف الله تعالى المؤمنين في سورة العصر بأنَّهم يتواصون بالحق، فقد قال تعالى: [وَالعَصْرِ(1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3) ]. {العصر}.

7 - ولا يمكن أن تتكوَّن أمَّة فاضلة، أو جماعةٌ فاضلة، إلا إذا كانت مُتعاونة فيما بينها على الخير، وذلك التعاون يَقتضي أن يحمل كلُّ آحادها أمانة الأمر بما هو معروف عند العقول السليمة، والنهي عن كل ما هو منكر فيها. 

وذلك لأنَّ السمو الإنساني الذي مُيَّز به الإنسان من الحيوان، هو أنه لا يعيش مُتبدياً في بيداء، ولا يَعيش مُستوحشا في غابة، ولا يَعْكف في حياته على عزلة قاطعة مانعة له من الناس، إنما هو بمقتضى الأنس النفسي، والتعاون الأدبي، لا يَعيش إلا في جماعة يعطي ويأخذ، ولابد أن يكون بهذا مُتَّصلاً بجماعته، يَهديها ويَهتدي بها، ويُعاونها وتعاونه. ولذا قيل: الإنسان حيوان اجتماعي؛ وقيل: الإنسان مدني بطبعه. 

وإذا كان الإنسان بمقتضى كونه إنساناً فيه طبيعة الاجتماع والأنس بالمجتمع، فلذلك كان لابدَّ من رأي عام مُهذَّب ملائم، يدعو إلى كل ما هو خير، وينهى عن كل ما هو شر، ولا يمكن أن تقوم جماعة فاضلة إلا إذا كان هناك رأي عام فاضل يحمي الفضيلة، ويمحق الرذيلة، وتكون منه رقابة على الأشخاص، تجعل كل شرير ينطوي على نفسه، فلا يظهر، وتجعل الخيِّر يُقدم عل? الخير غير ه?َّاب ولا وجِل. 

ولو فسد الرأي العام لاختلَّت الفضيلة، ولظهرت الرذيلة، وسارت في المجتمع عارية غير مستور?، وداعية للشر غير مهجورة، وفي هذا الوقت يصرخ الناس قائلين قول الله تعالى: [ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ] {الرُّوم:41}، وبذلك يتبين أنَّه لا يصلح الجماعات إلا رأي عام فاضل يُظل الفضيلة وتختفي من نوره الرذيلة. ولا يفسد الجماعات إلا رأي عام فاسد يُشجِّع الرذيلة، ولا يحمي الفضيلة، يُطلق الأهواء والشهوات، ويحمي ما يُثيرها، ويخفت فيه نداء الحق والدعوة إلى الفضيلة، حتى ليتبدَّد صوت الداعي في صخب الشهوات، وتعالي الأهواء، حتى إنَّ الفساد ليجد له مضطربا فسيحاً في كل مكان، والخير في ضيق من الأرض لا يجد مُتنَفَّساً، ولا استجابة لدعاء. 

8 - ولذلك جعل الإسلام من مقاصده، أو أول مقاصده، إيجاد رأي عام فاضل، وذلك بإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيَّن أنَّ الأمم تُهلك بإهمال ذلك، وأنَّ اللعنة تنصبُّ على كل أمَّة تُهمل ذلك الواجب، ولقد قال تعالى: [لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] {المائدة:78-79}. 

وإنَّ السكوت عن هذا الواجب يؤدِّي إلى تَدابر الأمَّة وتقاطعها وتَنابذها، ويقطع ما بين آحادها من روابط الرحم والدين، وذلك لأنَّ الإثمَ مُفرِّق، والخير جامع مُوحِّد، وما تفرَّقت الجماعات إلا بسيادة الرذيلة في جموعها، وعموم الفساد والظلم لربوعها، ولقد قال صلى الله عليه وسلم: (لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن بقلوب بعضكم على بعض) [رواه أبو داود وغيره]، وإنَّه يجب أن يكون في الأمَّة داعٍ إلى الحق، يدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، كما قال تعالى: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] {النحل:125}. 

وإذا لم يكن ذلك الداعي، فإنَّ الأمَّة تَضيع وتذهب، ولقد قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المد?ن في حدود الله مثل قوم استهموا في سفينة، فصار بعضمهم في أسفلها وبعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمر بالماء على الذي في أعلاها، فتأذوا به، فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه، فقالوا: مالك. قال: تأذيتم ولابد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا بأنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم) [أخرجه البخاري] – المدهن في حدود الله: هو الذي لا يقيم الحق ولا يخفض الباطل، مجاملة أو ملقا أو تهاوناً–.

اللهم هيئ لأمتك من يدعو إلى الحق الذي أمرت به، ويهدي للتي أقوم، ويعلي شأن كتابك العزيز، ويعلن رسالة نبيك الكريم، إنك نعم المولي ونعم النصير.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

الحلقة السابقة هــــنا

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد الأول، السنة 16، رمضان 1381 فبراير 1962).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين