البحث العلمي والخطوط الحمراء

 

يقف الإسلام اليوم أمام العالم موقف المتهم بعد الحملة الشرسة التي بدأ الإعلام الغربي يشنها على الإسلام وأهله، هذه الحملة الظالمة التي تركزت بصورة محمومة في أعقاب تفجير برجي التجارة العالمية في الولايات المتحدة في شهر أيلول / سبتمبر من العام ( 2001 ) ذلك الإعلام الذي عمل بكل طاقاته لتشويه صورة الإسلام واتهامه بالتطرف والتعصب ومحاربة الحرية ... وغير ذلك من أوصاف التخلف وضيق الأفق ورفض التعايش مع الآخر ! 

وهي بلا ريب حملة ظالمة تتجاهل بشكل مزرٍ الإشكاليات التي أدت إلى تلك الأحداث وما تلاها من إلصاق تلك التهم الجائرة بالإسلام وأهله ، فما كان الإسلام في يوم من الأيام متطرفاً ، ولا كان في يوم من الأيام متعصباً ، ولا كان في يوم من الأيام ضد الحرية ، ولم يدعُ في يوم من الأيام للقضاء على الآخر !

• وكيف يكون الإسلام متطرفاً أو متعصباً وهو الذي يقول قرآنه : (( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم )) ؟!

• وكيف يكون الإسلام ضد الحرية وهو الذي ترك للإنسان الحرية الكاملة باعتناق الدين الذي يريد (( لا إكراه في الدين )) وترك للبشر الحرية التامة في عمل ما يشاءون ((اعملوا ما شئتم )) !

• الإسلام الذي قال فيه الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قولته المشهورة التي تعبر أصدق تعبير عن الحرية الحقيقة : (( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟! ))

• وكيف يكون الإسلام ظالماً للآخر أو يدعو للقضاء عليه وهو الذي يقول قرآنه : (( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى )) ويقول أيضاً : (( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ))

ألا إن الإسلام أرحبُ صدراً ، وأوسعُ أفقاً مما يظن أعداؤه ، وإن من عرف الإسلام حق المعرفة ليدرك بحق أن هامش الحرية التي يعطيها الإسلام لأتباعه ، بل ولأعدائه أيضاً ، هي أرحب بكثير من ذلك الهامش المزعوم الذي يتبجح به أعداء الإسلام ممن يرفعون اليوم شعارات الحرية والمساواة وحقوق الإنسان ، ولكن الفرق بين الإسلام وبين هؤلاء أن الإسلام يمزج بين الحرية والأخلاق ، ولا يسمح بالحرية المطلقة المنفلتة من الضوابط الأخلاقية ، لما يؤدي إليه هذا الانفلات من انحرافات ومضاعفات بات كثير من المجتمعات البشرية اليوم تدفع ضريبتها غالياً ، حتى أصبح الكثير من مدن العالم ( المتحضر !! ) مرتعاً للجريمة حتى لم يعد البشر يأمنون فيها على أنفسهم في وضح النهار !

والحديث عن الحرية في الإسلام يأخذ أبعاداً كثيرة لن نستطيع في هذه العجالة أن نحيط بها جميعا، لكن حسبنا أن نتحدث عن جانب واحد منها مما جعلناه عنوانا لمقالتنا هذه، ألا وهو ( حرية البحث العلمي ) وما يعترض سبيله من خطوط حمراء !!

فنقول : إن تطوير برامج البحث العلمي يتطلب مقومات كثيرة جداً ، في مقدمتها توفير الكوادر البشرية المؤهلة تأهيلاً علمياً عالياً ، إلى جانب الكثير من المقومات الأخرى المادية والاقتصادية والسياسية .. إلا أن هناك جانباً مهماً مازال يقف حجر عثرة في طريق البحث العلمي ، ألا وهو الحدود التي يجب أن يقف عندها ، فإن نسبة غير قليلة من علماء الإسلام، يضعون في طريق البحث العلمي جملة من الخطوط الحمراء، ويحذرون العلماء من مجرد الاقتراب منها بحجة أنها تخالف تعاليم الرسالات السماوية ، أو بحجة أنها امتثال لما توعد به الشيطان من إغواء بني آدم لتغيير خلق الله ومخالفة الفطرة التي فطر الناس عليها ! والحقيقة أن هذا الموقف المتحفظ ضد البحث العلمي لا ينفرد به علماء الإسلام وحدهم، بل يشاركهم هذا الموقف عدد كبير من رجال الدين المسيحي والدين اليهودي، كم لمسته شخصيا خلال مشاركتي لكثير من المؤتمرات العلمية هنا وهناك ، وليس بعيدا عن الذاكرة موقف رجال الكنيسة في أوروبا في القرون الوسطى ضد العلماء والباحثين !!

والواقع أن هذا الموقف المتحفظ ضد البحث العلمي لا يقتصر على رجال الدين فقط، إذ نجد على الجانب الآخر الكثيرين من رجال القانون الذين يلتمسون في النصوص القانونية بعض المواد التي يحتجون بها على البحث العلمي، ويطالبون بوقف بعض التجارب والبحوث بحجة أن فيها انتهاكاً لحقوق الإنسان !

وعلى جانب آخر نجد لفيفا من رجال الأخلاق والاجتماع وهم يرفعون كذلك شعارات أخلاقية واجتماعية محذرين الباحثين من مخالفتها بحجة أنها قد تجر على العالم كوارث اجتماعية !

وهكذا نجد أن قضية الحرية في البحث العلمي لا تخص المسلمين وحدهم ، ولا تخص اهل الأديان وحدهم ، ففي أنحاء متفرقة من العالم يدور اليوم جدل واسع حاد حول العديد من القضايا العلمية المستجدة التي تلقى معارضة شديدة من الجهات التي ذكرناها ، وهذا ما يجعل مستقبل البحث العلمي اليوم في موقف صعب لا يُحسد عليه أبداً !

وما نريد أن نجليه في هذه الوقفة أن رسالة الإسلام بنصوصها المعجزة ، ومقاصدها الشرعية ذات البعد الإنساني ، وقواعدها الأصولية التي تراعي الفطرة البشرية، توفر مساحة واسعة لحرية البحث العلمي ، إلا أن الاستفادة من هذه المساحة تتطلب نظرة عميقة لنصوص هذه الرسالة السماوية وقواعدها ، لكي نتجنب توريط نصوصها في معارك غير منصفة ضد حرية البحث العلمي ، لاسيما ونحن نقف اليوم على مشارف مرحلة جديدة تسارعت فيها وتيرة البحوث العلمية في شتى حقول المعرفة ، بصورة جعلت الآخرين يزدادون تمكيناً في الأرض ، وجعلتنا نزداد نحن المسلمين تخلفاً وتبعية !

 

مكانة العلم والبحث العلمي في الإسلام

وقد حفل القرآن الكريم بالآيات التي تحض على البحث والنظر والتفكر بآيات الله المبثوثة في أرجاء الكون ، وذلك من أجل هدفين أساسيين :

أولهما : استشعار قدرة الله عزَّ وجل وتمكين الإيمان في القلوب .

وثانيهما : البحث في الظواهر الكونية ودراستها واكتشاف السنن الإلهية التي تتحكم بها من أجل أن نحسن القيام بأمانة الاستخلاف ، وفي هذا يقول الله عزَّ وجلَّ : (( قل سيروا في الأرضِ فانْظُروا كيفَ بَدَأَ الخلق )) العنكبوت 20 ، ويقول تعالى : (( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض )) يونس 101 ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( طلبُ العلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ ومسلمة )) أخرجه ابن ماجة ، وقد فقه المسلمون في عصرهم الزاهر هذه الدعوة إلى العلم ، فانطلقوا في الأرض ينظرون ويتفكرون ويبحثون ويدرسون فاكتشفوا الكثير من الحقائق الكونية واهدوا العلم ( منهج البحث العلمي التجريبي ) ووضعوا له قواعد راسخة أسفرت في زمن قصير عن اكتشافات كثيرة جداً في شتى حقول المعرفة ، ما دفع عجلة العلم مراحل واسعة إلى الأمام ، وبه سبق المسلمون أوروبا بعدة قرون !

 

من ضوابط البحث العلمي

ولكن .. هل تعني هذه الدعوة الملحة للعلم والبحث والتفكر أن الباب مفتوح على مداه ليبحث من شاء ، فيما شاء وكيفما شاء ؟ أم هناك ضوابط وحدود للبحث العلمي ؟ وإذا كانت هناك ضوابط وحدود للبحث العلمي ، فهل تنحصر هذه الضوابط والحدود بالقواعد الفنية فقط ؟ أم هناك ضوابط أخرى شرعية وأخلاقية لابد من مراعاتها في سياق البحث العلمي ؟

وأحسب أن الجواب المتفق عليه قطعاً هو ضرورة وجود ضوابط أخلاقية وشرعية وأخرى فنية للبحث العلمي وذلك لضمان ضبطه ضبطاً شرعياً وضبطا علمياً صحيحاً ، ومنع الإساءة في إجرائه أو في تطبيق نتائجه لاسيما في حقول ( الطب ) نظراً لما للبحوث الطبية من مساسٍ مباشر بحياة الإنسان ، بل بمختلف أشكال الحياة على سطح الأرض .

ملاحظات

وقد وضع علماء الشريعة وعلماء الكونيات حتى الآن الكثير من الضوابط التي تستهدف تقنين البحث العلمي ، وبيان حدود الحرية فيه ، ولن نخوض هنا في تفاصيل هذه الضوابط ، لكننا سنتوقف عند بعض الملاحظات المهمة قبل الخوض في قضية الحرية وعلاقتها بالبحث العلمي والخطوط الحمراء التي يجب أن يقف عندها البحث العلمي :

الملاحظة الأولى : أن معظم الباحثين على مرِّ العصور وحتى عصرنا الراهن لم يحفلوا كثيراً بالحدود المتعارف عليها دينياً ولا قانونياً ولا أخلاقياً ، بل كانوا يمضون في بحوثهم غير عابئين بتلك الحدود ، فكانوا مثلاً يسرقون جثث الموتى من المقابر بقصد تشريحها ودراسة تركيب الجسم البشري ، حيث لم تكن القوانين ولا الأعراف ولا الأديان تبيح التشريح ، ومازال هذا السلوك حتى يومنا الحاضر هو ديدن الباحثين في كثير من بقاع الأرض ! ولابد من الإقرار هنا بأن هذا الموقف من الباحثين ـ على ما فيه من جنوح وتجاوز للأعراف والأخلاق والأديان ـ قد أتاح للكثير من الكشوف والإنجازات العلمية أن ترى النور ، وأن تقدم للبشرية خدمات جليلة كانت ستحرم منها لو أن الباحثين التزموا بتلك الحدود وتوقفوا عن البحث والتجريب !

الملاحظة الثانية : أن تلك الحدود التي كان يُطلب من العلماء أن يتوقفوا عندها فلا يتجاوزوها أثبتت الأيام أنها في الغالب حدود واهية أو موهومة لا تقوم على أسس علمية قوية ، أو أنها تستند إلى تأويلات غير دقيقة للنصوص الدينية ، والأمثلة على ذلك كثيرة قديماً وحديثاً ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : موقف الكنيسة في أوروبا في العصور الوسطى من علماء الطبيعة والفلك ، ونذكر كذلك تحريم فقهائنا الأوائل لتشريح جثث الموتى من البشر ، وتحريم بعضهم في العصر الحديث لعمليات نقل الدم وزراعة الأعضاء وطفل الأنابيب ، وأخيراً وليس آخراً تحريم الاستنساخ والتجارب على الأجنة والبيوض الملقحة !

الملاحظة الثالثة : أن موقف المجتمع وموقف الفقهاء ورجال الدين كان يتغير بمرور الوقت لصالح الباحثين ، وعلى سبيل المثال فإن الذين سارعوا لتحريم بعض الإجراءات الطبية في السابق عادوا هم أنفسهم فأباحوها لاحقاً لما وجدوا فيها من فوائد لا تنكر ، وأمام هذه الحقيقة لم يكن من العسير إيجاد النصوص الشرعية والقواعد الفقهية المؤيدة للإجراءات الجديدة ، وهذا يعني بوضوح أن ساحة الاجتهاد في الإسلام أوسع بكثير مما نظن للوهلة الأولى !

الملاحظة الرابعة : أن هذا التبدل في المواقف الفقهية لا يرجع إلى علة في نصوص الكتاب أو السنة بل يرجع إلى قدرة الفقهاء في كل عصر على الاستبصار الصحيح بمقاصد تلك النصوص، وهذه نقطة مهمة جداً يجب الانتباه إليها جيداً لما لها من علاقة قوية بحرية البحث العلمي !

مفهوم الحرية في الإسلام وعلاقتها بالبحث العلمي

ولكن ما هي حدود الحرية في الإسلام ؟ وما علاقة هذه الحدود بحرية البحث العلمي ؟

تذهب النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة للتأكيد على حرية البشر في هذه الحياة ، ويجمع الفقهاء على أن الحرية أصل في التكليف الشرعي ، وأن التكليف يسقط عن الإنسان إذا ما فقد حريته أو كان مكرهاً على فعل من الأفعال ، إلا أن حرية الإنسان في هذه الدنيا ليست مطلقة ، بل مقيدة بإرادتين إلهيتين :

الأولى ( إرادة كونية قدرية ) تتمثل بالسنن الإلهية التي قدَّرها الخالق عزَّ وجلَّ لتحكم جميع المخلوقات .

والثانية ( إرادة شرعية ) تتمثل بالتشريعات التي أنزلها الله عزَّ وجلَّ على البشر ، ودعاهم للالتزام بها .

فالبحث العلمي للكشف عن السنن الإلهية التي تتعلق بالإرادة الكونية مباح ، بل مندوب إليه لكثرة النصوص الداعية للبحث والعلم والكشف ، والباب مفتوح للإنسان على مداه ليكتشف هذه السنن ، ولا شيء يوقف سعيه هذا إلا توفير الشروط والإمكانيات المادية والعقلية اللازمة لهذا الاكتشاف .

وأما الإرادة الشرعية وعلاقتها بالبحث العلمي فهي التي تحتاج منا إلى شيء من التفصيل ، وهي تثير أمامنا الكثير من التساؤلات ، فهل يجوز مثلاً من أجل البحث العلمي أن نخالف الإرادة الشرعية ؟ أو بصيغة أخرى ، هل يجوز ارتكاب محظور من المحظورات الشرعية في سبيل البحث العلمي واكتشاف سنن الله في خلقه ؟

قواعـد أصوليــة

وللإجابة على هذا السؤال نرجع إلى بعض القواعد الفقهية لنرى أن الشرع الحنيف يوفر للبحث العلمي مساحة واسعة جداً ، وبخاصة منها تلك القواعد التي تضبط أحكام : الترخص ، والاستثناء ، والضرورة ، ورفع الحرج ، والتيسير ونفي المشاق ، والترجيح ما بين المصالح والمفاسد مع التذكير بالقاعدة العامة التي تتربع في القمة من هذه القواعد وهي القاعدة التي تقرر أن : ( الأمور بمقاصدها ) التي تعطينا أفقاً رحباً للتحرك في البحث مادام الهدف الأخير منه نفع البلاد والعباد ، إلى غير ذلك من القواعد التي يمكن استثمارها لكسب هامش أكبر من الحرية في البحث العلمي ، لاسيما ونحن نعيش اليوم مرحلة انتقالية حاسمة من مراحل البحث العلمي ، حيث وصلنا في الطب مثلاً إلى تخوم المناطق المحرمة ، وأعني بها أعمق أعماق المادة الحية ، ومعنى هذا أننا أمسينا بين خيارين صعبين : فإما أن نقتحم تلك المناطق لنتابع البحث والكشف عن سنن الله في الخلق ونتابع تطورنا العلمي ونحل المشكلات المعقدة التي مازالت تعترضنا ، وإما أن نكف عن البحث تاركين تلك المشكلات معلقة بلا حلٍّ !

ونحن نرى من خلال ما قدمناه أن مسيرة البحث والكشف والتجريب لن تتوقف مادام هناك علماء مدفوعون بشغفٍ لكشف المجهول ، ويبدو أن هذه سنة من سنن الله في خلقه ، وإن من يستقرئ تاريخ العلوم ليدرك هذه الحقيقة بوضوح ، ويدرك أيضاً أن هناك برنامجاً إلهياً موقوتاً تمضي البحوث العلمية على منواله قدماً إلى الأمام للكشف عن سنن الله في خلقه مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالى : (( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق )) فصلت 53 ، وذلك من أجل بيان قدرة الله تعالى ، واستكمال عمارة هذا الوجود .

ولكن .. هل معنى هذا أن نترك الباب مفتوحا على مصراعيه ليبحث من شاء فيما شاء وكيفما شاء دون ضوابط ؟!!

بالطبع لا ، فهناك كما ذكرنا ضوابط فنية لابد من مراعاتها ، وضوابط أخلاقية ودينية لا يصح تجاوزها ، إلا أننا اليوم مضطرون أكثر من أي يوم مضى إلى نظرة أوسع لمسيرة البحث العلمي، آخذين بعين الاعتبار المرحلة الحساسة التي وصل إليها ، والتحديات الكبيرة التي بات يواجهها ، ولأجل هذا نرى أن تقتصر ضوابط البحث العلمي على الشروط التالية :

1- أن يكون للبحث جدوى وفائدة مرجوة ، وهذا ما يقرره أهل العلم في الفرع العلمي ذي الصلة.

2- أن يراعي البحث القواعد الفنية المقررة علمياً ، وهذا أيضاً يقرره أهل العلم في الفرع العلمي نفسه .

3- أن يتوسل الباحث بالوسائل المباحة شرعاً ، وهذا ما يقرره الفقهاء .

4- إذا استنفد الباحث كافة الوسائل المباحة شرعاً ، واضطر لارتكاب محظور من المحظورات الشرعية لإكمال بحثه ، جاز له ذلك ، ولكن بشرطين آخرين ، هما :

       - أن يكون البحث المقترح بمنزلة الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة .

       - أن تكون الفوائد المرجوة من البحث أرجح من المفاسد المترتبة على ارتكاب المحظور.

ونلاحظ أن الشروط الثلاثة الأولى متفق عليها من قبل الفقهاء والباحثين ، وأما الشرط الرابع الذي أضفناه من عندنا فنعرضه للمناقشة والتأمل ، غير متجاهلين تلك المخاوف التي يبديها بعض الفقهاء ممن يميلون إلى سد الذرائع أو درء المفاسد ، إلا أننا مع احترامنا الشديد لآرائهم ، ومع إيماننا العميق بدوافعهم النبيلة ، نرى أن لا نجعل هذه القواعد عائقاً في سبيل البحث العلمي الذي يختلف عن غيره من النوازل التي قد تصدق فيها مثل هذه القواعد ، فالبحث العلمي يتسم بسمات خاصة يتفرد بها ، فهو بحث في المجهول ، وهو إلى حد بعيد ضرب من التجريب في ساحة معتمة لا ندري عمَّ تتمخض ، وفوق هذا فإن البحث العلمي حتى حين يفشل في تحقيق أهدافه المرجوة فإنه لا يخلو من فوائد كبيرة ، فهو على سبيل المثال يفيدنا في تطوير طرائق البحث ، ويجعلنا أقدر على تحقيق أهدافنا مرة بعد مرة !

ومن المؤسف ما نسمعه من بعضهم بين الحين والآخر حين الحديث عن التجارب والبحوث المعاصرة بأنها ( عبث بالحياة ) أو أنها تجسيد لما توعدنا به الشيطان حين قال : (( ولآمرنهم فليغيرن خلق الله )) النساء 119 ، لأن مثل هذه الأوصاف تثبطنا نحن المسلمين قبل غيرنا عن مواصلة البحث العلمي ، وتزيدنا تخلفاً على تخلفنا ، ولا ريب عندي أن الباحثين في عامتهم جادون في بحوثهم التي باتت اليوم تكلف مراكز البحث العلمي مبالغ طائلة وجهوداً جبارة لا يمكن أن تكون مجرد عبث كما يتصور المتخوفون من البحث العلمي ، وأما قضية استخدام الإنجازات العلمية ضد البشرية ، أو توظيفها توظيفاً شريراً فتلك مسألة أخرى ، لأن مثل هذا السلوك المنحرف يمكن أن يرتكبه الإنسان باستخدام الوسائل المختلفة ، المشروعة منها وغير المشروعة ، فليس البحث العلمي هو المسؤول ابتداء عن هذا الانحراف، وإنما قد يحصل الانحراف لاحقا عند تطبيق نتائج البحث، وهذه مسألة مختلفة يمكن وضع الضوابط لها . دون أن يؤثر ذلك على مسيرة البحث العلمي .

وإننا في خضم المخاوف التي تثار اليوم حول بعض البحوث العلمية المعاصرة ينبغي أن لا ننسى تلك الفوائد الجليلة التي يمكن أن تسفر عنها هذه البحوث ، والتي ينتظر أن تحدث ثورة حقيقية في حقول حيوية عديدة ، منها حقل الطب الذي نأمل أن تسفر البحوث العلمية فيه عن أساليب علاجية جديدة لا يمكن تحقيقها بالطرق التقليدية المعروفة ، وأن تحل لنا الكثير من المعضلات الطبية التي لا نملك حتى اليوم حلاً حقيقياً لها !

ومقاربة لهذا الهدف أقول إذا كان الفقهاء قد أجازوا إسقاط الجنين لإنقاذ الحامل من خطر يتهددها (أي إزهاق روح مقابل إنقاذ روح ) فلماذا لا نجيز مثلا تلك التجارب على البيوض البشرية الملقحة ، أو الخلايا الجذعية ( Stem Cells ) أو حتى بعض الأجنة مادامت هذه التجارب تعدنا بإنقاذ ملايين الأرواح ؟ وتعدنا كذلك بتخليص ملايين المرضى من المعاناة والآلام التي لا نملك حتى اليوم علاجاً لها ؟! ولعل مما يدعم رأينا هذا أن الفقهاء قد أجازوا في الحرب إذا تترس العدو ببعض الرهائن المسلمين أن يرمى العدو ولو آذى الرمي الرهائن مادام الوصول إلى العدو وكسر شوكته لا يتم بغير هذا ، فإذا كان التوصل لكشف بعض سنن الله في المرض لا يتحقق إلا ببضعة تجارب على الأجنة أو البيوض الملقحة مثلاً ، فما المانع من قياس هذا على ذاك ، مادامت الفائدة المرجوة ستعود بالنفع على الملايين من بني البشر ؟ هذا مع مراعاة الشروط التي ذكرناها آنفاً ولاسيما منها الشرط الرابع .

إننا بمثل هذه المقاربات يمكن أن نكسب هامشاً فقهياً أوسع ، يثري برامج البحث العلمي ، ويفتح لنا آفاقاً أرحب لحرية البحث والدراسة والتجريب ، ويقلل من الخطوط الحمراء التي طالما وقفت عائقاً أمام حرية البحث العلمي .

والله الهادي إلى سواء السبيل

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين