مقاصد الإسلام -3-

 

1- انتهينا في المقال السابق إلى أنَّ الإسلام رفع الإنسان في بدء الخليقة، ثم كان من كمال رفعته من بعد أن دعاه إلى الجهاد في سبيل الحق، وأن يجاهد نفسه فيمنعها من أن تندفع في شهواتها، وأن يحوطَ مجتمعه بسياج الفضيلة فلا ينحرف.

وإذا كان قد أمره بأن يكبح جماح الأهواء، وأن يُسيطر عليها، ويجعلها تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، أو في الحق لما يتفق مع مُقتضى العقل، وسنَّة الخُلُق القويم، فإنَّه قد دعا الناس أيضاً لأن يطلقوا عقولهم، ويفكروا في السماوات والأرض، بأن تنطلق العقول حُرَّة، لا يحكمها تقليد ولا تتحكَّم فيها شهوة.

ففي الإنسان قوتان بارزتان في مواهبه وغرائزه، قوَّة الشهوات، وهذه دعا الإسلام إلى التحكم في قيادتها تحكماً قوياً وثيقاً، وقوَّة الإدراك والتكفير، وهذه دعا القرآن إلى إطلاقها، لأنَّها إن أطلقت غير مكبَّلة بشهوة أو تقليد استقامة على الطريق، فما ينتهي إليه العقل المجرد محمود، وما ينتهي إليه العقل المحكوم بهوى أو باتباع من غير تفكير مذموم، وبيء العاقبة.

2 – وإنَّك بحد الدعوة إلى التفكير غير المقيد أو غير المحكوم بالغرائز الحيوانيَّة في كثير من آيات القرآن، حتى إنك لا تجد سورة من الذكر الحكيم تخلو من الدعوة إليه.

دعا القرآن إلى التفكير في الكون، وذكر أنَّه سبيل العبادة الصحيحة، أو هو من العبادة ذاتها؛ لأنَّ التفكر في الخلق إدراك لقدرة الخالق، وإدراك هذه القوة في ذاتها من العبادة، فاقرأ قوله تعالى: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ(190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ(192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ(193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ المِيعَادَ(194)]. {آل عمران}.

وما ذكر سبحانه التقوى إلا قَرَنَها بما يدعو إلى التفكير في عظمة الخالق، والإبداع في المخلوق، اقرأ قوله تعالى: [وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ(34) اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(35 ) ]. {النور}.

انظر كيف اقترن ذكر المتقين بذكر عظمة الله سبحانه، ونوره في هذا الوجود الإنساني، مما يبعث العقل على السمو في التفكير والاعتبار، فقد وصف الله سبحانه ذاته بأنَّها نور، بل عرَّفها بأنها النور الذي ليس فوقه نور أو ضياء، في الأرض ولا في السماء، ثم في أثناء بيان هذا النور لفت العقول إلى شجرة هي من نِعَم الله تعالى على الإنسان في هذه الأرض! 

وهكذا أخذ النص القرآني السامي يَأخذ بالعقل المدرك المتفكِّر، ويعلو به من درج إلى درج في مِعْراج الفكر، ويَتَسامى به نحو غاية واحدة هي السمو في الإدراك، والتعالي عن مَنَازع الحيوان، إلى مَرَاقي الإنسانيَّة والفكر السليم.

3 – وإنَّ الدعوة إلى التفكير تكثر في القرآن لتظهر الميزة التي اختصَّ الله تعالى بها الإنسان، ولأنَّ ذلك التفكير هو السبيل المستقيم لمعرفة الله سبحانه وتعالى كما أشرنا من قبل، اقرأ قوله تعالى: [أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ(8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا]. {الرُّوم}..

واقرأ قوله تعالى: [فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ(96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ(98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(99)]. {الأنعام}..

ولقد دعا القرآن الكريم إلى تحرير العقل من التقليد، والاتباع من غير تفكير، فهو ينهى عن الاتباع المطلق للآباء والأعراف، ويُندِّد بالذين يتبعون الآباء من غير أن يفكروا بعقولهم في الأمر الذي يتبعونهم فيه، ولقد كان المشركون عندما يُدْعَون إلى الحق الذي أنزله الله يقولون: إنَّنا نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، فندَّد الله بهم في قوله سبحانه: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ] {البقرة:170}.

ونهاه القرآن عن أن يتبع الأعراف الباطلة مهما كثرت، ولذا قال سبحانه: [وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ] {الأنعام:116}.

4 – وإنَّ القرآن الكريم قد حَرَّر الفكر البشري، ونهاه عن السير في الأوهام ودعا الإنسان أن يتأمَّل في نفسه، فكانت معرفة النفس طريق علاجها؛ لأنَّه يَعرف بها طريقه في السير، ومكانه في الوجود، واقرأ قوله تعالى: [وَفِي الأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ(20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ(22)] {الذاريات}.

ولقد وجَّه الله نظرَ الإنسان إلى التفكر في خلقه، وكيف خُلِق ضعيفاً، ثم قوي، ثم ضعف، فقال سبحانه: [اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ] {الرُّوم:54}.

5 – وإننا ننتهي من هذه النصوص التي قبسناها من نور القرآن – ولم نرد إحصاء، فإنَّ أمثالها كثير في الذكر الحكيم – إلى أنَّ الإسلام دعا إلى التفكير المطلق الذي ابتعد عن الأهواء والشهوات ولم تتحكَّم فيه، وذلك لتتَّفق حياة الإنسان والتكليفات الشرعيَّة مع بدء خلق الله تعالى لآدم.

لقد ميَّز الله الإنسان على الملائكة بالعلم بالأشياء، كما بيَّنا في المقال الأول من بحثنا، فكان لابدَّ أن تكون حياته في الأرض مُتَّفقة مع فطرته التي فطره الله تعالى عليها، وهي العلم بالأشياء، وتسخيرها له، ولا يمكن أن يكون العلم بالأشياء إلا بالتفكير الحرِّ، المتحرِّر من كل القيود التي تعوقه عن الانطلاق في الطريق المستقيم الذي يوصل إلى الغاية في الدنيا، وهي العلم بالأشياء التي سخَّرها الله تعالى للإنسان، ومَكَّنه من السيطرة عليها والانتفاع بها، وتوجيهها نحو الخير إن أراد، ونحو الشر إن سار الفكر بنتائج ما وصل إليه إلى حكم الشهوة والهوى، وعندئذ يكون العبث والفساد، ويكون العقل مَطِيَّة ذَلولاً للشر المستحكم!

وإنَّ العقل كلما عمل مجرداً مُتَّجهاً نحو دراسة الكون، علم أسراره، وكشف عن قواته، وذلك من أسباب دعوة القرآن إلى التفكير في الكون ومظاهره، وتعرف أسراره ونواميسه وقوانينه المحكمة التي أبدعها الله سبحانه وتعالى فيه.

وإنَّ المتصفح للسُّنَّة يجدها تدعو إلى التفكير، وتحثُّ على التأمل، انظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق لكل داء دواء إلا السام) [أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو داود وغيرهم]؛ أي: إلا الموت، فإنَّ هذا الحديث يدعو أهل الخبرة والذكر في العلوم إلى أن يتعرَّفوا خواصَّ النبات وأجزاء الإنسان والحيوان، ليعرفوا مَكَامِنَ الأدواء، وليستخرجوا العقاقير لكل دواء، فهو يَدعو أهل العلم لأن يعملوا على البحث والفحص والدراسة، لكيلا يَقِفُوا عاجزين أمام أي مرض يَعْتري الجسم الإنساني، مع ملاحظة أنَّ الدواء لا يُؤجِّل نفساً عن ميقات أجلها، وعن إبان موتها، فإنَّ العلاج لا يمنع الموت، ولا يدفعه، ولكنه يُريح الجسم من أوضار الأمراض التي تمضُّ الحسَّ والنفس بالآلام.

ولا شك في أنَّ الحديث يفيد أنَّ الدواء لا يَكون بالتعاويذ والرقى، ولكن بما يَكْشفه العقل الإنساني الدارس الفاحص الباحث، ولا شكَّ أيضاً في أنَّ الدواء لا يمنع التوكل على الله تعالى وتفويض الأمور إليه، لأنَّ الدواء سبب من الأسباب العاديَّة التي طالب بها النبي صلى الله عليه وسلم، وطالب بها الإسلام، وهذه الأسباب خاضعة لقدرة الله تعالى، ولا تخرج عن إرادته، وللقضاء والقدر سلطانهما، في إنتاج الأسباب لمسبباتها، والأعمال لثمراتها، وإذا قَدَّر اللهُ تعالى الموت، لا يغالب، ولا يرد ما أراد: [ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ] {هود:107}.

6 – إنَّ الإنسان جزء من هذا الكون الذي أبدع الله سبحانه وتعالى تكوينه: [صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ] {النمل:88}، ولابد أن يكون الإنسان الذي هو العقل المتفكر المريد المختار في أجزاء هذا العالم، على اتصال مُستمر، وليس ذلك الاتصال بأن يكون جزءاً من كتلة فيه، أو داخلاً في ثنايا جبل من جباله، أو كوكب من كواكبه، إنما الاتصال به يكون بالتفكير الدائم فيه، والتفكير في المخلوق تفكير في الخالق، وإدراك عظمة المخلوق عبادة لله تعالى خالق كل شيء، ولذلك ورد في بعض الآثار: (تفكُّر ساعة خير من عبادة أربعين عاماً) ذلك أنَّ التفكر بقلب سليم وعقل مُستقيم وإدراك مُتحرِّر من الأهواء والشهوات، يَهدي إلى الحق، و يجعل النفس تطمئن إلى أنَّها في كلاءة الرحمن وحماية الله تعالى الذي برأ الكون، وسيَّره في نظام محكم، وقوانين لا تتخلف، إلا أن يريد الله الذي لا سلطان لأحد ولا شيء على إرادته: [لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] {الأنبياء:23}.

ليس العابد هو الذي يجلس في صومعة يُردِّد ذكر الله تعالى بالألفاظ ينطق بها، وبالكلام يردده، ويعتزل الناس كأنَّه صائم عن الاتصال بهم! وإنما العابد حقاً وصدقاً هو الذي يقوم بالتكليفات الشرعية، ويستحضرُ عظمةَ الله تعالى، ويذكر الله تعالى دائماً بقلبه وعقله وحِسِّه ونفسه، وذلك بالتفكُّر والتدبُّر فيما أنشأ، فإنَّ ذلك هو التذكر الذي يَفْنىَ به المؤمن في ذات الله، فيعبد الله كأنَّه يراه، ويكون في ذكر دائم لرب العالمين، فيطمئن كامل الاطمئنان: [الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ] {الرعد:28}.

7 – وقد يقول قائل: إنَّك أكثرت من ذكر تحرير العقل وانطلاقه، والعقل إذا تحرَّر قد يضلُّ ولا يَهتدي! فعقل الإنسان مهما يكن، قاصر عن أن يُدرك الحقائق على وجهها، وقد أجمع علماء المسلمين على أنَّ العقل وحدَه لا يمكن أن يكون هادياً مرشداً، وكم من كبار الفلاسفة ضلوا وأضلوا كثيراً، والعقل البشري ناقص ولا يمكن أن يصل إلى الكمال وحدَه، وإلا ما كانت الرسالات السماوية وما كان الرسل الذين جاءوا مُبشِّرين ومُنذرين!

ونحن نقول: إننا لا نريد التحرُّر من قيود الشرع السماوي وتكليفاته، ولكن نريد التحرُّر من أغلال الشهوات والأهواء، وكل انطلاق جاء على قلمنا في هذا المقال، إنما نريد به الانطلاق من الأهواء والشهوات، ومن أغلال الحسِّ الكاذب الذي تتحكَّم فيه الشهوة البدنيَّة، فإنَّ الانخلاع من العبادات والتكليفات الشرعية لا يسمى تحرراً، بل إنَّه الخضوع الزّريُّ، لأنَّه ما خرج من قيود التكليف إلا ليقع في قيود الشهوات، وهي أشد شراً، وأقوى تقييداً!

على أنَّنا لا نجعل العقل مُنطلقاً في تفكيره في مَتَاهات العقول، وضلال الأفهام، وهو التفكير في سرِّ الوجود وأصل الكون، وغير ذلك من الغيبيات التي تَتِيه فيها العقول، من غير هادٍ يرشد، ولا رسالة من السماء تبين! 

وإنما ضلَّ الذين كانوا من قبل من الفلاسفة وغيرهم، لأنَّهم فَكَّروا بعقولهم في أصل الإنشاء، وما غُيِّبَ عنا، فما وصلوا إلى نتائج، وإنما وصلوا إلى أوهام!

ولكنا نريد العقل مُنطلقاً في فهم حقائق الكون الظاهرة، وتلمُّس قوانينها من تتبعها واستقرائها وتَفْتيت أجزائها، ليعرف مادَّة تكوينها، والقوى الكامنة فيها، واستغلالها فيما يصلح ولا يفسد، وفيما يبني ولا يخرِّب، وليطلع ويكشف لا لِيَتيه ويضل، حتى إذا عرف الكون المحسوس، وتعرَّف قوانينه التي يَسير عليها، أدرك أنَّ هناك مُسيِّراً يسيرها، وخالقاً أنشأها، ثم يكون دور الأديان في التعريف بهذا الخالق وبيان حَقِّه على عباده، وما يطلب من تكليفات لخير الإنسان ولإصلاح الأرض، ولكي يَستطيع الإنسان مُقاومة شهواته، وحملها على السير تحت سلطان العقل والشرع.

وإنَّ العقل الذي يَنطلق مُتخلِّصاً من الأهواء المُرْدِية التي يصدأ بها الإدراك، ويسير في حدود ما يستطيع من نزر، لا يضل، إنَّما الذي يضل هو العقل الذي يخضع للهوى، أو الذي يعمل فيه لا طاقة له به، وليس عنده الأسباب لمعرفة الحق فيه، كالبحث عما وراء الحسِّ من أمور مُغَيَّبة عنا.

8 – هذا محض ما يدعو إليه الإسلام، وهو لبابه في هذا الموضوع، فهل استجاب المسلمون لدعاء القرآن وهداية الرحمن؟! كلا لم يستجيبوا، وعَكَفوا على الصوامع، أو المعابد، أو الكتب يتذاكرونها ويُرَدِّدون ألفاظها دون أن يحاولوا دراسة الكون!

ولقد أتى عليهم حين من الدهر درسوا فسادوا في الأرض، وأصلحوا فيها من بعد الفساد، ولكنه زمن كان كومضة البرق، لم يلبث أن اختفى! ثم كانت دراسة الكون من بعد ذلك في أوروبا وأمريكا وغيرهما، فدرسوا ما فيه وعَلِموا قوانينَه، والقوى الكامنة به، ولكنه علم من غير هداية سماوية، ولذلك عَتَوا في الأرض وأكثروا فيها الفساد، واستخدموا العلمَ لإفناء بني الإنسان، بدل أن يَستخدموه للإصلاح وإقامة العمران! وكان الفكر من غير إيمان، والعمل في الكون من غير شكر لمنشئه وذكر لمبدعه! 

اللهم أنزل علينا نوراً ندرك به شَرعَك، ونطيع به أمرَك، فإنَّك النور، ومنك النور، يا رب العالمين.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

الحلقة السابقة هـــــنا

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد الثاني، من السنة 16 1381-1962).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين