حدث في السابع عشر من جمادى الآخرة

 

تعيين ابن خلدون في منصب قاضي المالكية

 

في السابع عشر من جمادى الآخرة من سنة 786 عيَّن السلطان المملوكي الملك الظاهر برقوق العلامة ابن خلدون في منصب قاضي المالكية في مصر مكان القاضي جمال الدين المالكي، وكان تعيينه بعد سنتين من وصوله إلى مصر ودخوله الإسكندرية في أول شوال سنة 784 قادماً من تونس.

 

ولد ابن خلدون، ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد الحضرمي الإشبيلي، في تونس في أول رمضان من سنة 732، وهو سليل أسرة دخل جدها الأكبر خالد الأندلس مع الفتح الإسلامي، وهو الذي عُرِف بخلدون، واستقرت الأسرة بإشبيلية وصارت من الأسر المتنفذة فيها وحكمتها لفترة من الزمن، وينقل ابن خلدون عن ابن حيان الأندلسي، المتوفى سنة 469، قوله في كتاب المقتبس: وبيت بنى خلدون إلى الآن في إشبيلية نهاية في النباهة، ولم تزل أعلامه بين رياسة سلطانية ورياسة علمية.

 

وتركت الأسرة الأندلس في إبان الصراع بين أبي عبد الله ابن الأحمر، محمد بن يوسف بن محمد ابن الأحمر الخزرجي الأنصاري، وبين محمد ابن هود، فقد تنازع ابن الأحمر وابن هود رياسة الأندلس وتجاذبا الملك بها، قال ابن خلدون: والعدو أثناء ذلك يلتقم بلاد المسلمين وحصونهم. فقررت الأسرة بعد سنة 625 أن تغادر الأندلس إلى سبتة في المغرب الأقصى، ثم التحقوا وزراء في ديوان مؤسس الدولة الحفصية الأمير أبي زكريا الحفصي، يحيى بن عبد الواحد، المولود سنة 598 والمتوفى سنة 647، وكان مقره في بونة، وهي اليوم عُنابة في الجزائر، ثم انتقلوا إلى تونس، وبقي أفراد الأسرة في الوزارة في عهد أبي يحيى اللحياني الذي تغلب على الدولة، وكان جد ابن خلدون أبوبكر وزيراً له ثم استعفى واعتزل.

 

قال ابن خلدون عن والده: ونزع والدى، محمد بن أبى بكر، عن طريق السيف والخدمة إلى طريقة العلم والرباط، لِـما نشأ عليه في حِجر أبي عبد الله الرُندي الشهير بالفقيه، كان كبير تونس لعهده في العلم والفتيا وانتحال طرق الولاية، وكان جدنا رحمه الله قد لازمه من يوم نزوعه عن طريقه، وألزمه ابنه وهو والدى رحمه الله، فقرأ وتفقه وكان مقدما في صناعة العربية وله بصر بالشعر وفنونه، عهدي بأهل البلد يتحاكمون إليه فيه ويعرضون عليه، وهلك في الطاعون الجارف سنة 649.

 

نشأ ابن خلدون في ظل والده في تونس وطلب بها العلم، فحفظ القرآن الكريم بالقراءات السبع على الأستاذ أبي عبد الله محمد بن سعد بن تراك الأنصاري، وعرض عليه كتاب التقصي لأحاديث الموطأ لابن عبد البر، ودرس كتاب التسهيل في النحو لابن مالك، ومختصر ابن الحاجب الفقهي، وأخذ العربية عن أبيه، وأبي عبد الله محمد بن بحر ولازم مجلسه وأشار عليه بحفظ الشعر، فحفظ: المعلقات، وحماسة الأعلم الشنتمري، وديوان أبي تمام حبيب بن أوس الطائي، وقطعة من شعر المتنبي، وكتاب سقْطُ الزَّنْد لأبي العلاء المعري، وسمع صحيح مسلم وموطأ الإمام مالك، وأخذ الفقه بتونس عن أبي عبد الله محمد بن عبد الله الجياني وأبي القاسم محمد بن القصير، وقرأ عليه كتاب التهذيب لأبي سعيد البرادعي، وعليه تفقه، وتردد على مجلس قاضي الجماعة أبي عبد الله محمد بن عبد السلام، وأفاد منه وسمع عليه، إلى جانب علماء عديدين آخرين من أرجاء  المغرب العربي عدَّدهم ابن خلدون وترجم لهم في حديثه عن نشأته في آخر تاريخه، دون مبالغة أو تبجح أو مفاخرة.

 

وفي سنة 748 دخل تونس واستولى عليها سلطان المغرب أبو الحسن المنصور المريني، علي بن عثمان، المولود سنة 697 والمتوفى سنة 752، وجاءت معه ثلة من العلماء، إذ كان حريصاً على اجتذابهم وجمعهم في ديوانه، فأخذ ابن خلدون عنهم أبواب العلم المختلفة، وكان منهم شاب في سنه، هو ابن رضوان قال ابن خلدون: وممن قدم في جملة السلطان أبى الحسن؛ صاحبُنا أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان المالقى، كان يكتب عن السلطان، ويلازم خدمة أبى محمد عبد الله؛ رئيس الكتاب يومئذ وصاحب العلامة التى توضع عن السلطان أسفل المراسم والمخاطبات، وبعضها يضعه السلطان بخطه، وكان ابن رضوان هذا من مفاخر المغرب في براعة خطه، وكثرة علمه، وحسن سمته، وإجادته في فقه الوثائق، والبلاغة في الترسيل عن السلطان، وحَوْكِ الشعر، والخطابة على المنابر، لأنه كان كثيرا ما يصلى بالسلطان، فلما قدم علينا بتونس صحبتُه واغتبطتُ به وان لم أتخذه شيخا لمقاربة السن.

 

ثم يذكر ابن خلدون الطاعون الجارف الذي وقع سنة 748 وتوفي فيه والده مع أغلب العلماء والمشايخ الذين كانوا في صحبة السلطان المريني، ويذكر ابن خلدون كيف لم يُمتَّع المنصور المريني بالحكم في تونس، فقد انتقض عليه البدو وكسروه، ثم صالحوه، ثم انتقضت عليه قبائل زناتة في المغرب، وجاءت ثالثة الأثافي في أن ابنه وخليفته على تلمسان، أبا عنان فارس، خلع طاعة والده ودعا لنفسه، فهاجم الأب الابن، فانتصر الابن، وتوالت المصائب على السلطان المنصور المريني حتى مات سنة 752، وخلص الحكم لابنه أبي عنان، الذي استكتب ابن رضوان صديق ابن خلدون ثم جعله وزيره وصاحب علامته التي يوقع بها على المراسيم.

 

وفي سنة 747 توفي في تونس صاحبها المتوكل على الله الحفصي، أبو بكر بن يحيى، وخلفه ابنه وهو غلام في الثالثة عشرة من عمره، وقام بأمره الحاجب أبو محمد بن تافراجين، وكان زمانه زمن فتن وقتال، ودعا ابن تافراجين ابنَ خلدون في أول سنة 753 ليكون كاتب العلامة للسلطان، وذلك حين طلب منه صاحب العلامة زيادة في العطاء فعزله، وعين محله ابن خلدون، الذي قال: فكتبت العلامة عن السلطان، وهى: الحمد لله والشكر لله. بالقلم الغليظ ما بين البسملة ومِن بعدها من مخاطبة أو مرسوم. وكان هدف ابن خلدون من قبول الوظيفة الذهاب إلى المغرب في حملة كان ابن تافراجين يعدها لقتال خارج عليه في قسنطينة ومتابعة التحصيل على علمائه الذين تركوا تونس بعد زوال ظل الدولة المرينية عنها.

 

وانهزم الجيش الذي كان فيه ابن خلدون، فقضى الشتاء في بسكرة في مناطق شمال الجزائر، حتى انجلت الفوضى عن استتباب الأمر للسلطان أبي عنان، فاتجه إليه ابن خلدون في تلمسان، فالتقى في طريقه بحاجب السلطان محمد ابن أبى عمرو وهو في طريقه لفتح بجاية، فاصطحبه حتى أخذ بجاية ورجع إلى السلطان، قال ابن خلدون: فنالني من كرامته وإحسانه ما لم أحتسبه، إذ كنت شابا لم يطر شاربي. ثم عاد ابن خلدون مع ابن أبى عمرو إلى بجاية فأقام عنده حتى انصرم الشتاء في أواخر سنة 754.

 

وما لبث السلطان أبو عنان أن طلب ابن خلدون إلى مستقره في فاس، قال ابن خلدون: وجرى ذكري عنده وهو ينتقي طلبة العلم للمذاكرة، فأخبره الذين لقيتهم بتونس عنى ووصفوني له، فكتب إلى الحاجب يستقدمني، فقدمت عليه سنة 755، ونظمني في أهل مجلسه العلمي وألزمني شهود الصلوات معه، ثم استعملني في كتابته والتوقيع بين يديه، على كره مني، إذ كنت لم أعهد مثله لسلفي، وعكفت على النظر والقراءة، ولقاء المشيخة من أهل المغرب، ومن أهل الأندلس الوافدين في عرض السفارة، وحصلت من الإفادة منهم على البُغية.

 

ثم ذكر ابن خلدون عدداً من هؤلاء العلماء الصلحاء نجتزئ بذكر واحد لتبيان حال سلاطين ذلك الزمان، قال ابن خلدون: وكبيرُهم شيخ المحدثين الرحالة أبو عبد الله محمد بن رشيد الفهري سيد أهل المغرب، وكان يعارض السلطان القرآن برواياته السبع إلى أن توفى.

 

وبقي ابن خلدون في رحاب السلطان أبي عنان مدة سنة، ثم سجنه بسبب الدسائس، قال ابن خلدون: وقرّبني وأدناني واستعملني في كتابته واختصني بمجلسه للمناظرة والتوقيع عنه، فكثر المنافسون وارتفعت السعايات حتى قويت عنده. وظهرت إشاعات عن بادرة تمرد في بجاية يتآمر في شأنها صديق ابن خلدون الأمير أبو عبد الله الحفصي، وهو مع السلطان، فزج به أبو عنان في السجن، واتهم الحاسدون ابن خلدون أنه داخل مع المتمردين، فكان نصيبه أن زجَّ به السلطان في الحبس في آخر سنة 757، وبقي ابن خلدون في السجن سنتين حتى مات السلطان في 24 ذي الحجة سنة 759، فأطلق الوزير سراح المعتقلين، وأعاد ابن خلدون إلى وظيفته، ولم يسمح له بالعودة إلى بلاده.

 

وبعد وفاة السلطان جرى نزاع بين أخيه أبو سالم إبراهيم وبين بعض الحاشية الذين عينوا ابن السلطان الصغير في كرسي المملكة، وكان أبو سالم في الأندلس فجاء إلى المغرب، وساعده ابن خلدون مساعدة كبيرة في استمالة بني مرين بفضل علاقاته مع مشايخهم وكبارهم، واستطاع أبو سالم السيطرة على المغرب واستتبت له الأمور في منتصف سنة 760، وكافئ أعطى السلطان الجديد ابن خلدون على جهدوه فأعطاه منصب الإنشاء والتوقيع والسر، ويصف ابن خلدون تلك الفترة بأنها فترة تدفقت فيها شاعريته، قال: ثم أخذت نفسي بالشعر وانثال على منه بحور توسطت بين الإجادة والقصور.

 

وكان السلطان أبو سالم المريني قد استوزر ابن مرزوق العجيسي، محمد بن أحمد، المولود سنة 710 والمتوفى سنة 781، فغلب الوزير على السلطان واستبد بأمره ومنع الحاشية من القرب منه، فانقبض ابن خلدون مع بقائه في منصبه، ثم ولاه المظالم، ثم دبر عمر بن عبد الله الفودوي أحد وزراء السلطان ثورة عليه في سنة 762 أطاحت  بحكمه وقتلته، وأتى مكانه بتاشفين الموسوس.

 

وأقر الوزير عمر ابن خلدون على ما كان عليه وزاد من راتبه المسمى الجراية، ولكن ابن خلدون لم يقنع بذلك لأنه والوزير كانا صنوين في السابق، قال ابن خلدون: وكنت أسمو بطغيان الشباب إلى أرفع مما كنت فيه، وأُدِلُّ في ذلك بسابق مودة معه منذ أيام السلطان أبى عنان ... ثم حملني الإدلال عليه... إلى أن هجرته وقعدت عن دار السلطان مغاضبا له، فتنكر لى وأقطعني جانبا من الإعراض، فطلبت الرحلة إلى بلدي.

 

وكان بنو عبد الواد قد استرجعوا مُلكَهم بتلمسان والمغرب الأوسط، فخشي الوزير أن يجتذب أبو حمو صاحب تلمسان ابن خلدون ويستبقيه في ملكه، فمنعه من الرحيل فترة ثم سمح له بعد توسط وزيره، ولكن بشرط ألا يذهب إلى تلمسان، فاختار ابن خلدون الذهاب إلى الأندلس.

 

وفي أول سنة 764 بدأ ابن خلدون رحلة أخرى من رحلات حياته، فأرسل زوجته وأولاده إلى قسنطينة، في شرق الجزائر، عند أخوالهم أولاد القائد محمد بن حكيم، واتجه هو إلى الأندلس وكان سلطانها آنذاك هو الغني بالله، أبو عبد الله محمد بن يوسف أبي الحجاج ابن الأحمر، المولود سنة 739 والمتوفى سنة 793، وكان لابن خلدون دالة على الغني بالله، والذي يلقب كذلك بالمخلوع، فقد خلعه أخوه إسماعيل سنة 761 فهرب إلى المغرب وأقام بفاس عند السلطان أبى سالم المريني، ولحق به وزيره لسان الدين ابن الخطيب، وكان ابن خلدون يقوم بخدمته وقضاء حاجاته في الدولة، ولما عاد الغني بالله ليسترجع ملكه في غرناطة ترك عياله وولده بفاس في رعاية ابن خلدون، ولما فشل في استرجاع غرناطة توسط له ابن خلدون حتى أعطاه ملك المغرب رُندة وأعمالها، فاتخذها قاعدة استطاع منها استرداد ملكه في أواسط سنة 763.

 

وخرج ابن خلدون من فاس إلى سبتة ومنها إلى جبل الفتح ومنه إلى غرناطة، حيث لاقاه قبل وصوله كتاب من ابن الخطيب يرحب به، وأوله هذا البيت:

 

حللتَ حلول الغيث في البلد الـمَحْلِ ... على الطائر الميمون والرحب والسهل

 

ودخل ابن خلدون غرناطة في 8 ربيع الأول سنة 764، وأحسن السلطان ووزيره وفادته وأكرماه وجعلاه في علية مجلسهما ومن خاصتهما وأهل الخلوة بهما، وفي سنة 765 أرسله السلطان إلى إشبيلية ليقابل ملك قشتالة بيدرو الأول، ويسميه ابن خلدون: الطاغية بطرة بن الهنشة بن ادفونش، وكانت مهمة ابن خلدون إتمام اتفاق الصلح بينه وبين ملوك الأندلس.

 

قال ابن خلدون: فلقيت الطاغية بإشبيلية، وعاينت آثار سلفي بها، وعاملني من الكرامة بما لا مزيد عليه، وأظهر الاغتباط بمكاني، وعَلِمَ أوليةَ سلفنا بإشبيلية وأثنى عليَّ عنده طبيبُه ابراهيم ابن زرور اليهودي ... وكان لقيني بمجلس السلطان أبى عنان وقد استدعاه يستطبه... فطلب الطاغية أن أقيم عنده وأن يرد عليَّ تراث سلفي بإشبيلية، وكان بيد زعماء دولته، فتفاديتُ من ذلك بما قَبِلَهُ، ولم يزل على اغتباطه إلى أن انصرفت عنه.

 

ثم أرسل ابن خلدون فأحضر أهله من قسنطينة، ولكنه لم يمتع كثيراً فقد بدأ الأعداء وأهل السعايات يوغرون صدر الوزير ابن الخطيب عليه، ويخوفونه أن يحل محله لدى السلطان، وشعر ابن خلدون بجفوة من الوزير من جراء ذلك، فبقي ولكن على مضض.

 

وفي هذه الأثناء حصلت تطورات في الجزائر أتاحت الفرصة لابن خلدون ليترك الأندلس ويذهب إليها، فقد خرج على ملك المغرب أبي سالم إبراهيم المريني متمرد من بني عبد الود في تلمسان، اسمه موسى بن يوسف، ويلقب أبا حمو، واستولى على تلمسان سنة 760، وكان الملك أبو سالم قد اصطحب عدداً من الأمراء الحفصيين خوفاً منهم، فلما استفحل تمرد أبي حمو، نصح ابنُ خلدون وغيرُه من رجال الحاشية الملك أبا سالم أن يعيد هؤلاء الأمراء إلى بلادهم ليكونوا عقبة في وجه المتمرد، فأخذ بذلك وأطلق هؤلاء إلى بلدانهم.

 

وكان ممن أطلق سراحه أمير بجاية أبو عبد الله الحفصي، والذي ذكرنا أنه وابن خلدون سُجِنا من قبل للشك في تواطئهما على العصيان، فعاد أبو عبد الله الحفصي وانتزع بجاية من عمه، وكان قد وعد ابن خلدون أن يوليه الحجابة إن هو عاد إلى بلده، وكتب له ذلك بخطه، فلما ملك بجاية أرسل يدعو ابن خلدون ليكتب له، فاستأذن في ذلك الملك الغنيَّ بالله دون أن يذكر له جفاء ابن الخطيب إبقاء للمودة، فتردد ثم وافق.

 

ودخل ابن خلدون بجاية في منتصف سنة 766 في احتفال كبير، وسلمه السلطان شؤون الحكم وخطابة جامع القصبة، ولكن ذلك لم يدم فقد كان هناك نزاع بين السلطان وبين ابن عمه في قسنطينة شبّت بسببه نار الحرب بينهما، وكانت الدائرة في آخرها على السلطان أبي عبد الله الذي قُتل، فقام ابن خلدون بتسليم بجاية لأبي العباس وارتحل عنها خوفاً من طائلة أميرها الجديد، الذي ما لبث أن اعتقل أخاه الأصغر يحيى وأمر باعتقاله، ولكنه كان قد لجأ إلى بعد شيوخ بسكرة فأمن على نفسه.

 

ولم تعجب هذه التطورات أبو حمو الذي كان سلطانه قد توطد على تلمسان، وكان قد تزوج ابنة أمير بجاية، فلما بلغه مقتل أبيها واستيلاء السلطان أبى العباس على بجاية أظهر الامتعاض لذلك، وهاجم بجاية هجوماً لم ينجح فانكفأ عنها، وراسل أبو حمو ابن خلدون في منتصف سنة 769 لينضم إلى ديوانه، ويستعين به على استئلاف قبائل المنطقة لقرب عهده بهم وخبرته بالتعامل معهم، واستدعاه لحجابته وعلامته، وهذا نص كتابه له:

 

الحمد الله على ما أنعم، والشكر لله على ما وهب، ليعلم الفقيه المكرم أبو زيد عبد الرحمن ابن خلدون حفظه الله، أنك تصل إلى مقامنا الكريم بما خصصناكم به من الرتبة المنيعة والمنزلة المنيفة، وهو قلم خلافتنا، والانتظام في سلك أوليائنا، وقد أعلمناكم بذلك. وكتب بخط يده: عبد الله المتوكل على الله؛ موسى بن يوسف، لطف الله به وخار له.

 

وجرت في هذه الفترة مراسلات بين ابن خلدون وبين الوزير في الأندلس لسان الدين ابن الخطيب عبرت عن شوق واحترام، وهي في البلاغة والأدب بمكان، أوردها بحذافيرها ابن خلدون، ثم قال: وإنما طولت بذكر هذه المخاطبات، وإن كانت فيما يظهر خارجة عن غرض الكتاب، لأن فيها كثيرا من أخباري وشرح حالي فيستوفي ذلك منها ما يتشوف إليه من المطالعين للكتاب.

 

وعاد السلطان أبو حمو للاستيلاء على بجاية فشن حملة حصار عليها، وجاءه ابن خلدون ومعه وجهاء عرب المنطقة في آخر سنة 771 ليقدموا الطاعة، ولكن أبا حمو تخلى عن حصار بجاية حين بلغه أن ملك فاس أبا فارس المريني، عبد العزيز بن علي، المولود سنة 750، قد أعد حملة من فاس ليستولي على قاعدته تلمسان.

 

واستأذن ابن خلدون أبا حمو في الانصراف إلى الأندلس، فأذن له، فسار في طريقه إليها، ولكن ظروف الفتنة لم تسمح له بعبور البحر، فأقام في المرسى، وأرسلت عيون السلطان عبد العزيز المريني تخبره بمكان ابن خلدون، وتقول إن معه وديعة أرسله بها أبو حمو إلى صاحب الأندلس، فأرسل السلطان المريني سرية إلى ابن خلدون اعتقلته وجاءت به إليه قريبا من تلمسان، فعنفه السلطان على تركه خدمة المرينيين، وسجنه ليلة ثم أطلقه، فقرر ابن خلدون إزاء كل هذه التقلبات والفتن المظلمة التخلي عن الخدمة والانقطاع للعلم، وذهب للخلوة في رباط الشيخ أبي مدين.

 

ولكن السلطان عبد العزيز المريني ما لبث أن استدعاه في أول سنة 772 وأمره أن يذهب إلى وزيره الذي كان يقود حملة في بلاد رياح استهدفت متمرداً آخر من أمراء بين عبد الود من آل زيان هو محمد بن عثمان، ويلقب بأبي زيان، وأمر الملك ابن خلدون أن يعمل على أن يوطئ له الأمر ويجذب بني رياح إلى مناصرته، ففعل ذلك ابن خلدون واستمال عدداً كبيراً من العرب والبربر إلى صف المريني، وتضعضعت أحوال أبي زيان وهرب، فعاد ابن خلدون إلى السلطان في تلمسان في وفد عظيم من أعيان الزواودة فأكرمهم السلطان، ثم أمر ابن خلدون أن يعود إلى المنطقة فيعمل على إخراج أبي زيان منها، فعاد إلى بسكرة ليعمل على ذلك.

 

واضطربت الفتن في المغرب الأوسط وتعددت أنواعها، ثم كتب السلطان أبو فارس المريني إلى خلدون وهو في بسكرة أن يسير مع بني رباح لمحاصرة بني عبد الود، ففعل ذلك وسار بهم في أول سنة 774، ونجحت مساعي ابن خلدون وانفض الناس من حول أبي زيان، وخمدت ثورته، واستدعاه السلطان أبو فارس إلى فاس، فسار إليها من بسكرة بأهله، وبلغه في الطريق وفاة السلطان عبد العزيز وتنصيب ابن له طفل على أن يدير أموره الوزير أبو بكر بن غازي، فلم يتابع ابن خلدون المسير إلى فاس.

 

وانتهز أبو حمو ذلك فعاد واستولى على تلمسان وسائر بلادها، وأوعز إلى بنى يغمور أن يعترضوا ابن خلدون ومن معه بحدود بلادهم، فاعترضوهم وهاجمهوهم وشتتوهم، فمرت عليهم شدائد حتى وصلوا إلى العمران، والتحق ابن خلدون بالديوان في فاس ولقي من الوزير أبي بكر كل تكريم وتنويه.

 

ثم ساءت العلاقات بين دولة بني الأحمر في الأندلس وبين دولة بني مرين في المغرب، وصارت كل دولة تكيد للأخرى وتثير المتمردين عليها وتدعمهم، وانجلت الفتن عن عزل السلطان الصغير وتعيين ابن عمه الشاب أبي العباس أحمد، واصطدم الملك الجديد مع الوزير المتنفذ ثم آلت الأمور إلى أن زال نفوذ الوزير أبي بكر في آخر سنة 775، وعاد السلطان أبو العباس إلى فاس.

 

وكان ابن خلدون في فاس بعيداً عن أمور الحكم عاكفا على قراءة العلم وتدريسه، فلما جاء السلطان الجديد بدأ يتردد إلى ديوانه، وأثار ذلك غيرة وزير السلطان فعمل حتى استوحش السلطان من ابن خلدون، وكانت نتيجة الأمر أن قرر ابن خلدون الذهاب إلى الأندلس، فاستأذن السلطان في ذلك فأذن له، وعبر ابن خلدون إلى الأندلس في ربيع الأول سنة 776.

 

ولم تطل إقامة ابن خلدون هناك، فقد أراد إحضار أهله إليه فأبى سلطان المغرب أن يسرحهم، وأوغر صدر ابن الأحمر على ابن خلدون وأخبره بعلاقته الوثيقة بوزيره ابن الخطيب الذي كان قد انشق عنه وذهب إلى المغرب حيث لقي حتفه، فأمر ابن الأحمر بإعادة ابن خلدون إلى المغرب بعد أن أخذ له أماناً من ملكها، فعاد واستقر في تلمسان ضاماً إليه أهله وعاكفاً على العلم.

 

ثم عاد السلطان أبو حمو فكلف ابن خلدون في أن يستألف بني رياح، وأرسله إليهم، فوافقه ظاهرا وخرج من تلمسان والتحق بأحياء أولاد عريف معززاً مكرماً، وأرسلوا فأحضروا أهله وولده، والتمسوا له العذر من السلطان أبي حمو بما لهم من نفوذ عنده، وأنزلوا ابن خلدون وأهله في قلعة أولاد سلامة من بلاد بنى توجين، قال ابن خلدون في تاريخه: فأقمت بها أربعة أعوام متخليا عن الشواغل، وشرعت في تأليف هذا الكتاب وأنا مقيم بها، وأكملت المقدمة على ذلك النحو الغريب الذى اهتديت إليه في تلك الخلوة، فسالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفِكَر حتى امتخضت زبدتها وتألفت نتائجها، وكانت مِن بعد ذلك الفيئة إلى تونس.

 

قال ابن خلدون: ثم طال مقامي هنالك،  وأنا... عاكف على تأليف هذا الكتاب وقد فرغت من مقدمته إلى أخبار العرب والبربر وزناتة، وتشوفت إلى مطالعة الكتب والدواوين التى لا توجد إلا بالأمصار بعد أن أمليت الكثير من حفظى، وأردت التنقيح والتصحيح، ثم طرقني مرض أربى على البُنية لولا ما تدارك من لطف الله، فحدث عندي ميل إلى مراجعة السلطان أبى العباس، والرحلة إلى تونس حيث قرار آبائى ومساكنهم وآثارهم وقبورهم، فبادرت إلى خطاب السلطان بالفيئة إلى طاعته والمراجعة، فما كان غير بعيد وإذا بخطابه وعهوده بالإذن والاستحثاث للقدوم.

 

والتقي ابن خلدون بالسلطان أبي العباس المريني في سوسة وهو يقود حملة لتطويع بعض البلاد، ودخل ابن خلدون تونس في شعبان سنة 880، وقد سبقه أمر السلطان بإكرامه وإنزاله منزلاً يليق به، وعاد السلطان من حملته مظفراً، ولكن ابن خلدون واجه من جديد غيرة البطانة السلطانية، والتي شارك فيها إمام جامع تونس وشيخ فتياها محمد بن عرفة، قال ابن خلدون: فاتفقوا على... التأنيب والسعاية بى، والسلطان خلال ذلك مُعرِضٌ عنهم... وقد كلفني بالإكباب على تأليف هذا الكتاب لتشوقه إلى المعارف والاخبار واقتناء الفضائل فأكملت منه أخبار البربر وزناتة وكتبت من أخبار الدولتين وما قبل الإسلام ما وصل إليَّ منها، وأكملت منها نسخة رفعتها إلى خزانته.

 

وكثرت سعاية البطانة حول ابن خلدون بكل نوع من أنواع السعايات، وبعد قرابة 4 سنوات من الإقامة في تونس، ألهم الله ابن خلدون أن يطلب من السلطان أن يسمح له بأداء حج الفريضة، فأذن له، وفي 20 شعبان سنة 784، ودع ابن خلدون عياله في تونس وغادرها إلى الإسكندرية على متن مركب تجاري، وخرج لوداعه أعيان الدولة ووجهاؤها.

 

ودخل ابن خلدون الإسكندرية يوم الفطر من سنة 784، وأراد التوجه للحج فلم يُقدَّر له، فانتقل إلى القاهرة، وقال عن دخوله القاهرة: فرأيت حاضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذَّر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي المُلك، تلوح القصور والأواوين في جوه، وتزهر الخوانق والمدارس والكواكب بآفاقه، وتضئ البدور والكواكب من علمائه.

 

ويتابع ابن خلدون القول: ولما دخلتها أقمت أياما، وانثال عليَّ طلبة العلم بها يلتمسون الإفادة مع قلة البضاعة، ولم يوسعوني عذرا، فجلست للتدريس بالجامع الأزهر منها، ثم كان الاتصال بالسلطان، فأبرَّ مقامي، وآنس الغربة، ووفر الجراية من صدقاته، شأنه مع أهل العلم، وانتظرت لحاق أهلي وولدي من تونس، وقد صدهم السلطان هنالك عن السفر اغتباطا بعودى إليه، فطلبت من السلطان صاحب مصر الشفاعة إليه لتخلية سبيلهم، فخاطبه في ذلك، ثم هلك بعض المدرسين بمدرسة القمحة بمصر، من وقف صلاح الدين بن أيوب، فولانى تدريسها مكانه، وبينما أنا في ذلك إذ سخط السلطان قاضيَ المالكية في دولته لبعض النزغات فعزله، وهو رابع أربعة بعدد المذاهب يُدعى كل منهم قاضي القضاة، تمييزا عن الحكام بالنيابة عنهم، لاتساع خطة هذا المعمور، وما يرتفع من الخصومات في جوانبه... فلما عزل هذا القاضي المالكي سنة 788 اختصني السلطان بهذه الولاية تأهيلا لمكاني، وتنويها بذكرى، وشافهته بالتفادي من ذلك فأبى إلا إمضاءه وخلع عليّ بإيوانه، وبعث من كبار الخاصة من أقعدني بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية بين القصرين.

 

تولى ابن خلدون القضاء فوجد أحواله ضعيفة وقد أصبح كثير من العاملين فيه والمنتسبين إلى محاكمه مرتزقة مرتشين فاسدين، وعدد لا يستهان به من قضاته الكبار والصغار يدارون أهل الحكم والسلطان، فسلك في قضائه مسلكاً ابتغى به وجه الله تعالى لتطهير القضاء من هذه الأرجاس، قال ابن خلدون عن عمله في ذلك: فقمتُ بما دُفع إليَّ من ذلك المقام المحمود... لا تأخذني في الله لومة، ولا يرَّغبني عنه جاه ولا سطوة، مسويا بين الخصمين، آخذ الحق للضعيف من الحكمين، معرضا عن الشفاعات والوسائل من الجانبين، جانحا إلى التثبت في سماع البينات، والنظر في عدالة المنتصبين لتحمل الشهادات، فقد كان البَر منهم مختلطا بالفاجر، والطيب ملتبسا بالخبيث، والحكام... متجاوزون عما يظهر عليهم من هناتهم، لما يموهون به من الاعتصام بأهل الشوكة، فإن غالبهم مختلطون بالأمراء، معلمين للقرآن، وأئمة في الصلوات، يُلبِّسون عليهم بالعدالة، فيظنون بهم الخير، ويقسمون الحظ من الجاه في تزكيتهم عند القضاة، والتوسل لهم، فأعضل داؤهم، وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس منهم، ووقفت على بعضها، فعاقبت فيه بموجع العقاب ومؤلم النكال، وتأدى لعلمي الجرح في طائفة منهم، فمنعتهم من تحمل الشهادة، وكان منهم كتاب الدواوين للقضاة والتوقيع في مجالسهم، وتدربوا على إملاء الدعاوى، وتسجيل الحكومات، واستخدموا للأمراء فيما يعرض لهم من العقود بإحكام كتابتها وتوثيق شروطها، فصار لهم بذلك شفوف على أهل طبقتهم، وتمويه على القضاة بجاههم، يدَّرعون به مما يتوقعونه من مغبتهم لتعرضهم لذلك بفعلاتهم، وقد يسلط بعض منهم قلمه على العقود المحْكَمة، فيوجد السبيل إلى حلها بوجه فقهي أو كتابي، ويبادر إلى ذلك متى ما دعا إليه داعي جاه أو منحة... فمن اختار فيها بيعا أو تمليكا شارطوه وأجابوه، مفتئتين فيه على الحكام الذين ضربوا فيه سد الحظر والمنع، حماية عن التلاعب، وفشا من ذلك الضرر في الأوقاف، وطرقُ الغرر في العقود والاملاك، فعاملت الله في حسم ذلك بما آسفهم على وأحقدهم.

 

ثم التفتُّ إلى أهل الفتيا بالمذهب، وكان الحكام منهم على جانب الحيرة، لكثرة معارضتهم، وتلقينهم الخصوم، وفتياهم بعد نفوذ الحكم، وإذا فيهم أصاغر، فبينما هم يتشبثون بأذيال الطلب والعدالة، ولا يكادون، إذا بهم ظهروا إلى مراتب الفتيا والتدريس، فاقتعدوها وتناولوها بالجزاف، وأجازوها من غير مرتب، ولا مستند للأهلية ولا مرشح... فتتعارض الفتاوي وتتناقض، ويعظم الشغب إن وقعت بعد نفوذ الحكم، والخلاف في المذاهب كثير، والإنصاف متعذر... فصدعت في ذلك بالحق، وكفحت أعنة أهل الهوى والجهل، ورددتهم على أعقابهم.

 

وكان فيهم ملتقطون سقطوا من المغرب يشعوذون بمفترق من العلوم هنا وهناك، ولا ينتمون إلى شيخ معروف مشهود، ولا يعرف لهم كتاب في فن، اتخذوا الناس هزوا، وعقدوا المجالس مثلبة للأعراض ومثابة للحُرم... لا يزَعُهم الدينُ عن التعرض لأحكام الله بالجهل، فقَطعتُ الحبلَ في أيديهم، وأمضيتُ حكم الله فيمن أجازوه، فلم يغنوا عن الله شيئا... وانطلقوا يواطؤن السفهاء من النَيل في عرضي، وسوء الأحدوثة عني، بمختلق الإفك وقول الزور... وأنا في ذلك محتسب على الله ما مُنيت به في هذا الأمر، ومعرض فيه عن الجاهلين... ولم يكن ذلك شأن من رافقته من القضاة فنكروه مني، ودعوني إلى متابعتهم فيما يصطلحون عليه من مرضاة الأكابر ومراعاة الأعيان، والقضاء للجاه بالصور الظاهرة... وليت شعري ما عذرهم في الصور الظاهرة إذا علموا خلافها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: من قضيت له من حق أخيه شيئا، فإنما أقضي له من النار.

 

فأبيت من ذلك كله إلا إعطاء العهدة حقها، والوفاء لها ولمن قلدنيها... وانطلقت الألسن وارتفع الصخب... مموهين بأن الحامل على ذلك جهلُ المصطلح، وينفقون هذا الباطل بعظائم ينسبونها إليَّ... فكثر الشغب على من كل جانب، وأظلم الجو بينى وبين أهل الدولة، ووافق ذلك مُصابي بالأهل والولد؛ وصلوا من المغرب في السَفين فأصابها قاصف من الريح فغرقت، وذهب الموجود والسكن والمولود، فعظم المصاب والجزع، ورجح الزهد، واعتزمت على الخروج عن المنصب، فلم يوافقني عليه النصيح ممن استشرته، خشية من نكير السلطان وسخطه، فتوقفت بين الورد والصدر على صراط الرجاء واليأس.

 

وعن قريب تداركني اللطف الرباني، وشملتني نعمة السلطان، أيده الله، في النظر بعين الرحمة وتخلية سبيلي من هذه العهدة التى لم أطق حملها، ولا عرفت كما زعموا مصطلحها، فردَّها إلى صاحبها الأول، وأنشطني من عقالها، فانطلقت حميد الأثر مشيعا من الكافة بالأسف والدعاء وحميد الثناء، تلحظني العيون بالرحمة، وتتناجى الآمال فيَّ بالعودة، ورتعت فيما كنت راتعا فيه قبل من مراعي نعمته، وظل رضاه وعنايته، بالعافية التى سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه، عاكفا على تدريس علم، أو قراءة كتاب، أو إعمال قلم في تدوين أو تأليف، مؤملا من الله قطع صبابة العمر في العبادة، ومحو عائق السعادة، بفضل الله ونعمته.

 

بقي ابن خلدون في العلم والتأليف حتى رمضان سنة 801 حين أعاده إلى القضاء الملك الظاهر برقوق، وتوفي برقوق في شوال سنة 801، فلم يدم ابن خلدون في القضاء، وصرفه الملك الناصر فرج بن برقوق في المحرم سنة 803، وخرج ابن خلدون مع السلطان الملك الناصر فرج إلى الشام لقتال تيمور لنك، ولما حاصر تيمور لنك دمشق نزل ابن خلدون من سور دمشق بحبل، والتقى بتيمور الذي أعجبه حسن هيئته المغربية، وجمال صورته، وخلبه بعذوبة منطقه، ودهاه بكثرة مقالاته، فأجلسه واستدناه، وشكر له سعيه، وحظي عنده، إلى أن أطلقه وزوده، وعاد إلى القاهرة بعد عود تيمور إلى بلاده.

 

وفي رمضان سنة 803 تولى ابن خلدون قضاء المالكية في القاهرة للمرة الثالثة، ثم عزل بعد 10 شهور في رجب سنة 804، ثم أعيد في آخر أيام السنة، ثم صرف عنه بعد سنة وشهرين في ربيع الأول سنة 806، ثم أعيد في شعبان سنة 807، ثم صرف بعد قرابة شهرين في ذي القعدة  807، ثم أعيد بعد 8 أشهر في شعبان سنة 808، ومات وهو بأتم صحة في 24 رمضان سنة 808 في القاهرة، ودفن بمقابر الصوفية خارج باب النصر.

 

هذه بعض من سيرة علم مسلم وطود شامخ في والتاريخ وعلم الاجتماع، والأدب والفقه والقضاء، اقتصرنا لضيق المجال على صدر حياته حتى توليه القضاء، ولعلنا ننتناول ما فاتنا في مناسبة أخرى، ولكن لا بد أن نذكر أنه شاعر وناثر من الطراز الأول، ونختم ببضعة أبيات من شعره، رحمه الله تعالى:

 

صحا الشوق لولا عبرة ونحيب ... وذكرى تـجُدُّ الوجدَ حين تثوبُ

وقلبٌ أبى إلا الوفاء بعهده ... وإن نزحت دارٌ  وبان حبيب

ولله مني بعد حادثة النوى ... فؤادٌ لتذكير العهود طروب

يؤرقه طيف الخيال إذا سرى ... وتُذكي حشاه نفحةٌ وهبوب

خليليَّ لا تستعديا، قد دعا الأسى ... فإني لما يدعو الأسى لمجيب

ألِـمَّا على الأطلال يقضِِ حقوقها ... من الدمع فياضُ الشؤون سكوب

ولا تعذلاني في البكاء فإنها ... حُشاشة نفسي في الدموع تذوب

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين