ابن رشد الفقيه والفيلسوف المفترى عليه

دأب العلمانيون والحداثيون في كتبهم وطروحاتهم على تشويه فكر العالم الجليل والفقيه المتبحر والفيلسوف المنضبط : ابن رشد الحفيد رحمه الله ، وإظهاره كأنه علماني عقلاني لا يؤمن بالنقل ويتجاوز آيات القرآن الكريم والسنة النبوية ، بل صاروا يطلقون عليه أنه "رائد التنوير الغربي" ، وأنه كذلك "رائد لثقافة التنوير في الوطن العربي " .

وسبب هذا التشويه تقليد العلمانيين والحداثيين لما قاله بعض المفكرين الغربيين الذين ينتسبون لمدرسة عرفت بـ ( الرشدية اللاتينية ) فلقد قدمت هذه المدرسة اللاتينية فكر ابن رشد على أنه قائم على الفصل التام بين الفلسفة والدين، وأخذوا من فكره الجانب العقلي وتركوا الجانب الديني؛ وصوروا فلسفة ابن رشد أنها على نقيض مع الدين ، وهذا ما لم يقل به ابن رشد على الإطلاق ، وقام بعض مفكري العرب ومثقفيهم بترجمة حرفية لما قالته هذه المدرسة اللاتينية فأساؤوا لابن رشد إساءة بالغة ، وقدموا ذلك عبر الأفلام والمسلسلات بهذا الصورة المشوهة.

وهذه الأوصاف التي يطلقها عليه الحداثيون التنويريون لا تمت لواقع فكر ابن رشد بصلة لما يأتي :

1- لأننا نجد ابن رشد مع تبحره في الفلسفة ورده على حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله في أمور خاصة في الفلسفة واختلاف نظرتهما في فلسفة أرسطو : ولكننا بالمقابل نجد ابن رشد : الفقيه الموسوعي المنضبط في كتابه ( بداية المجتهد ونهاية المقتصد) وهو كتاب في الفقه المقارن على المذاهب الأربعة ولازال مرجعاً لكبار فقهاء الأمة ، وكذلك الحال في كتابه ( التحصيل في اختلاف مذاهب العلماء) ، وتظهر شخصية العالم الأصولي في كتابه ( منهاج الأدلة في الأصول) .

بل قال عنه ابن الأبار: "كان يفزع إلى فتواه في الطب كما يفزع إلى فتواه في الفقه".

2- ونجده كذلك المفسر الذي لا يخرج عن دلالات القرآن الكريم بحجة معارضتها للعقل ، ولم يصدر عنه ما يخالف نصوص القرآن الكريم أو ما يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية .

3- أثبت بأدلة قاطعة أنه لا تعارض بين النقل والعقل ، وله رسالة صغيرة عنوانها "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" يثبت فيها أنه لا تعارض بين الشريعة والحكمة أو بين العقل والعقيدة.

وإذا كان الفاربي وابن سينا مالا إلى كفة العقل وكان ذلك بسبب تأثرهم الكبير بالفلسفة اليونانية بصورة عامة وفلسفة أرسطو بصورة خاصة ، فإن ابن رشد انتهى به الأمر إلى أن العقل والنقل أختان توأمان ، لأن كلايهما يصلان إلى حقيقة واحدة .

4- تقوم فلسفة ابن رشد على دعامتين أساسيتين هما العقل والدين وليس على دعامة واحدة، كما يحلو للبعض الترويج لذلك. وكما أن الطائر لا يستطيع أن يطير بجناح واحد فكذلك ما أنجزه فكر ابن رشد في مؤامته بين الفلسفة والعقيدة والشريعة ، فلا توجد معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول.

وهذا بعكس التنويريين والحداثيين في عصرنا الحاضر الذين يخرجون عن تعاليم الشريعة ولا يتقيدون بالقرآن والسنة ويتجازون دلالتها بحجة التطور ومسايرة العصر .

5- ولا شك في أن ابن رشد قد أكد على دور العقل وضرورة التمسك به، ولكنه في الوقت نفسه لم يقف موقفًا معاديًا للدين، ولم يكن ذلك أمرًا متصورًا من ابن رشد، فقد كان قاضيًا في قرطبة وإشبيلية، وقاضي القضاة في قرطبة فيما بعد .

6- رغم الاختلاف الزماني والمكاني بين الغزالي في المشرق وابن رشد في المغرب ، إلا أنهما متفقان في أغلب الأحوال في الأصول المعرفية ، إن أبا حامد الغزالي هاجم الفلاسفة خوفا من أن تلج آراؤهم داخل الشريعة فتفسدها، وحماية العقيدة من التشويش ، خاصة في الوقت الذي تفشت فيه الآراء الكلامية المغالية، وانتشرت الفلسفات المادية الإلحادية ومواقفها الخطيرة في الإلهيات آن ذاك .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين