تحيا القوى الخلاقة ويبقى حصار غزة - ـ

تحيا القوى الخلاقة ويبقى حصار غزة

أ.د. محمد إسحق الريفي

عندما بدأت الجماهير العربية والإسلامية تستجيب لنداء العقل والضمير والدين، وتهب لأداء واجبها لإنقاذ الشعب الفلسطيني من ويلات الحصار الظالم، طلت علينا الفوضى الخلاقة لتحبط هذه الهبة وتفشل الجهود الشعبية لكسر الحصار، فإن كان لدينا قابلية للفوضى الخلاقة، أفلا نسعى لتجاوز نتائجها المدمرة ونقف إلى جانب الشعب الفلسطيني!!

  والحقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية، ومعها الاحتلال الصهيوني، لا تحتاج أكثر من تحريك طابورها الخامس وأدواتها في بلادنا لإجهاض الهبات الشعبية وإحباط محاولات الإصلاح والتحرير، وذلك بتأجيج الفوضى الخلاقة، التي تقتل الرأي العام وتمحق الجهود.  ويبدو أن هذه الفوضى الخلاقة قد تغلبت – في الجولة الأولى – على الجهود الشعبية لكسر حصار غزة.

  فقد تحولت قضية سجن نحو مليون ونصف المليون فلسطيني في غزة، وتجويعهم ومعاقبتهم جماعياً بكل الوسائل الهمجية والوحشية والدموية، من قضية إنسانية لا تتجاوز منح الشعب الفلسطيني حقه الطبيعي إلى قضية أمن قومي مصري، وسيادة مصرية على الأرض والحدود، وتهديد للنظام الرسمي العربي، ونزاع على الحدود بين البلاد العربية والإسلامية، وخلاف – لا تخفى حقيقته على أحد – على الشرعية الفلسطينية...!!

  والفوضى الخلاقة، التي لدى شعوبنا قابلية عجيبة لها، هي السلاح الفتَّاك الذي يستخدمه العدو الصهيوني والأمريكي لإفشال الجهود الشعبية العربية والإسلامية، فيحرق هذا السلاح تلك الجهود كما تحرق النار الهشيم، وذلك بتحويل القضية، التي هي محل الاهتمام، إلى خلافات وخصومات ونزاعات ومطاحنات، وربما إلى حروب في كثير من الحالات.

  وللولايات المتحدة طابور خامس في بلادنا، من الليبراليين ومروجي الديمقراطية الأمريكية والمرتزقة والانتهازيين والمفسدين وغيرهم، ولها كثير من الأدوات الإعلامية والسياسية العربية، التي تجيد فن إشعال الخلافات وتعميقها وتشتيت الرأي العام العربي والإسلامي وتغذية عناصر الفوضى الخلاقة، تارة باسم حرية التعبير، وتارة أخرى تحت شعار "الرأي والرأي الآخر"...

  ويعد الانقسام الداخلي من أهم عناصر الفوضى الخلاقة في الحالة الفلسطينية، الذي يتخذه الكثيرون من العرب والمسلمين مبرراً لمواقفهم السلبية إزاء حصار غزة تحديداً والقضية الفلسطينية عامة، وذريعة للتقاعس والتخاذل والتخلي عن المسؤولية.  فكثير من العرب والمسلمين يُعلِّقون تأييدهم ودعمهم السياسي والمعنوي للشعب الفلسطيني على نجاحه في إنهاء حالة الانقسام، متجاهلين دور الولايات المتحدة الأمريكية والاحتلال الصهيوني في العبث بالشأن الداخلي الفلسطيني وتغذية الانقسام وتعميقه.

  وهؤلاء، الذين يضعون العربة أمام الحصان باشتراطهم على الشعب الفلسطيني إنهاء حالة الانقسام، قد وقعوا في فخ العدو الأمريكي والصهيوني، الذي يسعى لإقناعهم بأن المشكلة هي في الشعب الفلسطيني وليست في الاحتلال والمؤامرات الأمريكية، وبذلك يكون هذا العدو قد تمكن من حرف هؤلاء العرب والمسلمين عن المشكلة الحقيقية ونجح في صرفهم عن نصرة الشعب الفلسطيني، وهذه هي الفوضى الخلاقة بعينها، علماً بأن المعاناة الفلسطينية لست وليدة الساعة، بل هي ملازمة للاحتلال الصهيوني الغاشم منذ نشأته.

  ولذلك عندما بدأت الشعوب العربية والإسلامية تتحرك مطالبة بكسر حصار غزة، حركت الولايات المتحدة الأمريكية أدواتها في المنطقة، وأمرت طابورها الخامس بتحويل المشكلة الإنسانية الفلسطينية في غزة إلى مشكلة انقسام داخلي فلسطيني ومشكلة مع الحكومة المصرية، فأطلق هؤلاء العملاء العنان لألسنتهم السيئة وأقلامهم الصفراء لإثارة الفوضى الخلاقة وإحباط جهود كسر الحصار الظالم على غزة.

  فاتهم هؤلاء العملاء الشعب الفلسطيني بأنه اجتاح الأراضي المصرية وغزا مدينة العريش لشراء الكماليات والرفاهيات، واتهموه بالاعتداء على الشرطة المصرية، وغير ذلك من التهم التي تشكك في قسوة المعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، والتقليل من خطر الحصار ونتائجه المدمرة على الإنسان الفلسطيني ونسيج المجتمع الفلسطيني.

  ولسان حال هؤلاء العملاء الذين يكرسون حالة الانقسام في المجتمع الفلسطيني يقول: دعوا الشعب الفلسطيني وحده، لتنكسر إرادته ويموت جوعاً ومرضاً، واتركوه يعاني من الاحتلال الصهيوني والتآمر الأمريكي، طالما أنه منقسم على نفسه !!

  إن حالة الانقسام التي يعاني منها المجتمع الفلسطيني موجودة في معظم الدول العربية والإسلامية، التي يوجد فيها فئة متسلطة مدعومة أمريكياً تحتكر الحكم والسلطة، وتخضع رقاب الشعوب لها وتقودهم إلى الجحيم.  وهذه الفئة شديدة الولاء للولايات المتحدة الأمريكية، ولها مهام يحددها البيت الأبيض الأمريكي، الذي يتوعد كل القوى التي تسعى لنزع السلطة والحكم من تلك الفئة العملية بالويل والثبور.

  وفي الناحية السياسية، ينظر عملاء الولايات المتحدة وشركاء الاحتلال الصهيوني إلى نجاح الجهود الشعبية في كسر حصار غزة على أنه نصر لحركة حماس وفناء لحركة فتح، ولذلك فهم يعملون على استمرار الحصار وإحكامه، ويبررون ذلك بالخوف من حركة حماس ومن صعود تيار الإسلام السياسي في المنطقة، الذي يمثل هاجساً كبيراً لأنظمة الحكم المستبدة والفاسدة.

  والحقيقة أن هؤلاء العملاء وأسيادهم الصهاينة والأمريكيين يعاقبون الشعب الفلسطيني على تمسكه بحركة حماس وتأييده لها ضد التيار المتصهين وجماعة المال السياسي في فلسطين، وهنا تتجسد وحشية كل هؤلاء وعدم إنسانيتهم، فهم يمارسون الإرهاب ضد الشعب الفلسطيني، لتحقيق أهداف سياسية ومصالح شخصية ومكاسب فئوية رخيصة.

  على الشعوب العربية والإسلامية أن تتحلى بالوعي في تعاطيها مع القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا العربية والإسلامية، وعليها أن لا تعطي أي فرصة للفوضى الخلاقة بأن تفسد الجهود من أجل نصرة الشعب الفلسطيني والعرب والمسلمين، فإلى متى ستظل شعوبنا صرعى لمرض الشلل السياسي، الذي يسببه فيروس الفوضى الخلاقة المعد في المختبرات الأمريكية والصهيونية؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين