توقير المعلم وإكرامه

 

ومن أدب المتعلم الذي جاءت به السنة النبويَّة: توقير المعلم، وإعطاؤه ما يستحق من التكريم والإكبار. فإنَّ المعلم لتلميذه بمنزلة الأب لولده. بل قال يحيى بن معاذ رحمه الله: العلماء أرحم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم من آبائهم وأمهاتهم. قيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأنَّ آباءهم وأمَّهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا، والعلماء يحفظونهم من نار الآخرة.

 

وبهذا صار حق المعلم – كما يقول الغزالي – أعظم من حقِّ الوالديْن، فإنَّ الوالد سببُ الوجود الحاضر، والحياة الفانية، والمعلم سبب الحياة الباقية. ولولا المعلم لانساق ما حصل من جهة الأب إلى الهلاك الدائم. وإنما المعلم هو المفيد للحياة الأخرويَّة. أعني معلم علوم الآخرة، أو علوم الدنيا على قصد الآخرة([1]). 

 

وفي المفاضلة بين المعلم والأب يقول الشاعر:

 

فهذا مُربِّي الروح والروحُ جوهر             وذاك مربِّي الجسم والجسمُ كالصَّدف!

 

وقال الحسن: لولا العلماء- أي المعلمون – لصار الناس مثل البهائم! أي: أنهم بالتعليم يخرجونهم من حضيض البهيميَّة إلى أفق الإنسانيَّة.

 

ومن أجل هذا جاءت الأحاديث بتوقير العلماء، وإكرامهم حتى بعد موتهم.

 

 وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد (يعني في القبر) ثم يقول: أيُّهما أكثر أخذًا للقرآن؟ فإذا أشير إلى أحدهما قدَّمه في اللحد([2]). وفي هذا التقديم رمز لتكريمه لفضل ما معه من قرآن أكثر.

 

وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: "إنَّ من إجلال الله: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط" ([3]). 

 

وعن عباده بن الصامت رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ليس من أمَّتي من لم يُجلَّ كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا"([4]) أي: يعرف له حقَّه.

 

وحسبنا أن نذكُر ونذكِّر هنا بقصة نبيِّ الله وكليمه موسى بن عمران الذي اصْطفاه الله برسالاته وبكلامه، وآتاه التوراة فيها موعظةٌ وتفصيلٌ لكلِّ شيء في زمنه. فلما أعلمه الله بما عند الخضر من علم ليس عنده، رحل موسى إليه كما أشرنا إلى ذلك من قبل، واستعْذب العذاب في سبيل ملاقاته والاستفادة منه، فلما وجده، قال له موسى في أدب التلميذ وتواضع المتعلم: [قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا] {الكهف:66}  بهذه الصيغة الحاسمة: "هل أتَّبعك" فهو اتباع وليس رفقة أو مصاحبة، وهو يستأذنه في هذا، لأن المعلم المتطوِّع هو صاحب الحق في انتقاء طلبته: يقبل منْ يشاء، ويرفض من يريد، ولا معقِّب عليه. هذا على الرُّغم من فضل موسى عليه بيقين. فهو قد اختُلف في نبوَّته. على حين موسى من أولي العزم من الرسل، ويكفي قوله تعالى :[قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي] {الأعراف:144} .

 

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: والله إن كنت لآتي الرجل منهم، (أي: الأنصار) فيقال: هو نائم فلو شئت أن يوقظ لي، فأدعه حتى يخرج، لأستطيب بذلك حديثه([5]). 

 

وعن الشَّعبي قال: صلى زيد بن ثابت على جنازة، ثم قُرِّبت له بغلة ليركبها، فجاء ابن عباس، فأخذ بركابه توقيراً وتعظيماً لعلمه وفضله، فقال له زيد: خَلِّ عنك يا ابن عمِّ رسول الله. فقال ابن عباس: هكذا نفعل بالعلماء والكبراء([6]).

 

وعن الزُّهري قال: كنت آتي باب عروة فأجلس بالباب، ولو شئت أن أدخل لدخلت، ولكن إجلالاً له([7]).

 

وعن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إنَّ من حقِّ العالم ألا تُكثر عليه بالسؤال ولا تُعنِّته في الجواب، وألا تُلحَّ عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، (أي: تريد أن تستوقفه)، ولا تُفشينَّ له سراً، ولا تغتابنَّ عنده أحداً، ولا تطلبنَّ عثرته، وإن زلَّ قبلت معذرته، وعليك أن تُوقِّره وتُعظِّمه لله، ما دام يحفظ أمر الله، ولا تجلس أمامه، (أي: تدير له ظهرك)، وإن كانت له حاجة سبقتَ القوم إلى خدمته([8]).

 

ومن توقير المتعلم لمعلِّمه: أن يُحْسن الصمتَ في موضعِه، كما يُحسن الكلام أو السؤال في موضعه.

 

قال الحسن بن علي لابنه: يا بني، إذا جالستَ العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلَّم حُسْنَ الاستماع، كما تتعلم حُسْنَ الصمت، ولا تقطع على أحد حديثاً وإن طال حتى يمسك([9]).

 

وقال شعبة: كل من سمعت منه حديثاً، فإنا له عبد([10])!

 

وهذه الكلمة قد شاع معناها عند المسلمين حتى جَرَت مجرى المثل، وهي قولُهم: ( من علَّمني حرفا صرت له عبداً)، وهذه غاية في التكريم للعلماء والمعلمين، لم ترقَ إليها أمَّةٌ من الأمم.

 

ولم يشع بيت من الشعر في عصرنا كما شاع بيت شوقي في مطلع قصيدته الشهيرة في تكريم المعلم:

 

قـم للمعلم وفِّـــــــــــه التبجيـــلا                كاد المعلم أن يكون رسولا!!

أرأيت أعظم أو أجلَّ من الذي             يبني وينشئ أنفسا وعقولا؟!

من كتاب : " الرسول والعلم"

 

([1]) الإحياء جـ1/55.

([2]) رواه البخاري في الجنائز (1343)، وأحمد (23660)، وأبو داود في الجنائز (3138).

([3]) راوه أبو داود في الأدب (4843)، والبخاري في الأدب المفرد (357)، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد (274). والمقسط " العادل.

([4]) رواه أحمد (22755)، وقال مخرجوه: صحيح لغيره دون قوله: "ويعرف لعالمنا". والطحاوي في مشكل الآثار (3/ 365)، والحاكم في العلم (1/ 123)، وقال: ومالك بن خير الزيادي مصري ثقة، وأبوقبيل تابعي كبير، وقال الذهبي: مالك ثقة مصري، وحسن إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 64)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5443).

([5]) رواه الدارمي في المقدمة (586).

([6]) رواه الحاكم في معرفة الصحابة (3/423) وصححه على شرط مسلم، وسكت عنه الذهبي، والبيهقي في المدخل إلى السنن (93).

([7]) رواه الدارمي في المقدمة (588).

([8]) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (841)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (2/197).

([9]) جامع بيان العلم (846).

([10]) المصدر السابق (828). 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين