حدث في السادس والعشرين من صفر

في السادس والعشرين من صفر من عام 288 توفي في بغداد، عن 67 عاماً، أبو الحسن ثابت بن قرة الحرّاني الصابئي، العالم النابغ في الطب والفلك والرياضيات والفلسفة.

 
ولد ثابت بن قرة في سنة 221 في مدينة حرّان - في جنوبي تركيا اليوم – ونشأ بها، وكانت أسرته على دين الصابئة، ويسمى أتباعها المندانيين كذلك، وهو دين قديم يعود إلى ماقبل المسيح كانت قاعدته حران ثم انتقل إلى العراق والأحواز في إيران، وانخرط أتباعه في الثقافة العربية وساهموا فيها مساهمات معتبرة، وأصبحوا جزءاً من النسيج العربي، مع بقائهم على ديانتهم ومحافظتهم على طقوسها إلى يومنا هذا، وتختلف المراجع العربية حديثها وقديمها اختلافاً كبيراً في تعريفه، ومنها من ينسبهم خطأً إلى عبادة النجوم، وخير مرجع عارف في هذا المجال هو الأستاذ الدكتور عبد الكريم زيدان الذي عرفهم في كتابه أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام حيث قال: وهم يعتقدون بالخالق عز وجل، ويؤمنون باليوم الآخر، ويدَّعون أنهم يتبعون تعاليم آدم عليه السلام، وأن نبيهم يحيى جاء ينقي دين آدم مما علق به، وعندهم كتاب يسمونه الكانزابرا أي صُحف آدم، ومن عباداتهم الصلاة، وتقتصر على الوقوف والركوع والجلوس على الأرض دون سجود، ويؤدونها في اليوم ثلاث مرات، قبل طلوع الشمس، وعند زوالها، وقبيل غروبها، ويتوجهون في صلاتهم إلى النجم القطبي.
 
وجرت بين ثابت وبين أهل ديانته من الصابئة أمور في ديانتهم أنكروها عليه ورفعوها إلى رئيسهم، فأنكر عليه مقالته، ومنعه من دخول الهيكل، فتاب ورجع عن ذلك، ثم عاد بعد مدة إلى تلك المقالة، فمنعوه من الدخول إلى المجمع، فخرج من حران ونزل في كفر توثا وهي قرية كبيرة في الجزيرة الفراتية بالقرب من دارا، وأقام فيها مدة.
 
وفي أيام المعتضد علت منزلة بني موسى بن شاكر وهم ثلاثة محمد وأحمد والحسن، وكان المأمون قد رعاهم وأمر بتدريسهم في بيت الحكمة،فتخرجوا وهم نهاية في علومهم من الهندسة والنجوم والآلات الذي يسميه المؤرخون علم الحيل، وصدف أن قدم الفلكي الرياضي محمد بن موسى بن شاكر من بلاد الروم راجعاً إلى بغداد، فاجتمع بثابت في كفر توثا، فرآه فاضلاً فصيحاً فاصطحبه إلى بغداد وأنزله في داره، وجعله في جملة المتعلمين عنده، فنبغ وبرع، ووصله محمد بالخليفة المعتضد فأدخله في جملة المنجمين، فاستوطن بغداد.
 
وكان ثابت بن قرة هو أول صابئي يدخل بلاط الخلفاء، وبلغ ثابت مع المعتضد أجَلَّ المراتب وأعلى المنازل، حتى كان يجلس بحضرته في كل وقت ويحادثه طويلاً ويضاحكه ويقبل عليه دون وزرائه وخاصته، وهو الذي كنَّاه بأبي الحسن تحبباً، فأصبحت له وللصابئة وجاهة بين الناس، ثم جاء أولاده وأقاربه من بعده، فقاربوه فيما كان عليه من حسن النظر والمهارة في العلوم، فثبتت أحوالهم وعلت مراتبهم.
 
وكان سبب قربه من المعتضد ما رواه حفيده ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة أن الخليفة الموفق غضب على ابنه المعتضد بالله وهو أمير فحبسه في دار الوزير إسماعيل بن بلبل الشيباني، فأمر إسماعيل بن بلبل ثابتَ بن قرة بأن يدخل إلى المعتضد ويؤنسه، فأنس المعتضد بثابت أُنساً كثيراً، وكان ثابت يدخل إليه إلى الحبس في كل يوم ثلاث مرات يحادثه ويسليه، ويعرفه أحوال الفلاسفة، وأمر الهندسة والنجوم، وغير ذلك، فشغف به ولطف منه محله، فلما خرج من حبسه قال لبدر غلامه: يا بدر، أي رجل أفدنا بعدك؟ فقال من هو يا سيدي؟ فقال ثابت بن قرة. ولما تقلد المعتضد الخلافة أقطعه ضياعاً جليلة، وكان يُجلِسه بين يديه كثيراً بحضرة الخاص والعام، ويكون بدر غلام الأمير قائماً والوزير، وهو جالس بين يدي الخليفة.
 
قال أبو إسحاق الصابئ الكاتب: كان ثابت يمشي مع المعتضد في الفردوس - وهو بستان في دار الخليفة للرياضة - وكان المعتضد قد اتكأ على يد ثابت وهما يتماشيان، ثم نتر المعتضد يده من يد ثابت بشدة، ففزع ثابت، فإن المعتضد كان مهيباً جداً، فلما نتر يده من يد ثابت قال له: يا أبا الحسن - وكان في الخلوات يكنيه وفي الملأ يسميه - سهوتُ ووضعتُ يدي على يدك واستندتُ عليها، وليس هكذا يجب أن يكون، فإن العلماء يَعلُون ولا يُعلَون.
 
ومن حذاقة ثابت بن قرة في التشخيص والمعالجة أنه اجتاز يوماً ماضياً إلى دار الخليفة فسمع صياحاً وعويلاً، فقال مات القصاب الذي كان في هذا الدكان؟ فقالوا له: أي والله يا سيدنا البارحة فجأة، وعجبوا من ذلك، فقال ثابت: ما مات! خذوا بنا إليه. فعدل الناس معه إلى دار القصاب، فتقدم إلى النساء بالإمساك عن اللطم والصياح؛ وأمرهن بأن يعملن مزوّرة، وأومأ إلى بعض غلمانه بأن يضرب القصاب على كعبه بالعصا، وجعل يجس نبضه بيده، وما زال ذلك يضرب كعبه إلى أن قال حسبك، واستدعى قدحاً وأخرج من كمه دواء فدافه في القدح بقليل ماء، وفتح فم القصاب وسقاه إياه، فأساغه، ووقعت الصيحة والزعقة في الدار والشارع بأن الطبيب قد أحيا الميت، فتقدم ثابت بغلق الباب والاستيثاق منه، وفتح القصاب عينه وأطعمه مزوّرة وأجلسه، وقعد عنده ساعة، وإذا بأصحاب الخليفة قد جاؤوا يدعونه، فخرج معهم والدنيا قد انقلبت، والعامة حوله يتعادون، إلى أن دخل دار الخلافة.
 
ولما مثل بين يدي الخليفة قال له: يا ثابت ما هذه المسيحية التي بلغتنا عنك؟ قال: يا مولاي كنت أجتاز على هذا القصاب وألحظه يشرح الكبد، ويطرح عليها الملح ويأكلها، فكنت أستقذر فعله أولاً، ثم قدرت أن سكتة ستلحقه، فصرت أراعيه وإذ علمت عاقبته انصرفت، وركّبت للسكتة، دواء استصحبته معي في كل يوم، فلما اجتزت اليوم وسمعت الصياح قلت: مات القصاب؟ قالوا نعم، مات فجأة البارحة، فعلمت أن السكتة لحقته، فدخلت إليه ولم أجد له نبضاً، فضربت كعبه إلى أن عادت حركة نبضه، وسقيته الدواء ففتح عينيه، وأطعمته مزوّرة، والليلة يأكل رغيفا بدراج، وفي غد يخرج من بيته.
 
ومن كلام ثابت بن قرة قال: ليس على الشيخ أضر من أن يكون له طباخ حاذق، وجارية حسناء لأنه يستكثر من الطعام فيسقم، ومن الجماع فيهرم.
 
وقال: راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة النفس في قلة الآثام، وراحة القلب في قلة الاهتمام، وراحة اللسان في قلة الكلام.
 
وعالج ثابت مرة الشاعر السَريَّ الرّفاء، السري بن أحمد المتوفى سنة 366، فأصاب العافية، فقال فيه السريُّ أبياتاً، وهي من أحسن ما قيل في طبيب:
 
هل للعليل سوى ابن قرة شافي . . . بعد الإله، وهل له من كافي
 
أحيى لنا رسم الفلاسفة الذي . . . أودى، وأوضح رسم طب عافي
 
مثلت له قارورتي فرأى بها . . . ما اكتن بين جوانحي وشغافي
 
يبدو له الداء الخفي كما بدا . . . للعين رجراج الغدير الصافي
 
فكأنه عيسى ابن مريم ناطقاً . . . يهب الحياة بأيسر الأوصاف
 
وكان ثابت بن قرة وقوراً صبوراً يحتمل هفوات من حوله، قال أبو محمد الحسن بن موسى النُوبختي، الفلكي والفيلسوف المتوفى سنة 310: سألت أبا الحسن ثابت بن قرة عن مسألة بحضرة قوم فكره الإجابة عنها بمشهدهم، وكنتُ حديث السن، فدافعني عن الجواب، فقلت متمثلاً:
 
ألا ما لليل لا تُرى عند مضجعي ... بليل ولا يجري بها ليَّ طائرُ
 
بلى إن عجم الطير تجري إذا جرت ... بليلي ولكن ليس للطير زاجر
 
فلما كان من غد لقيني في الطريق وسرت معه، فأجابني عن المسألة جواباً شافياً، وقال: زجرتَ الطير يا أبا محمد؟ فأخجلني، فاعتذرت إليه، وقلت: واللّه يا سيدي ما أردتك بالبيتين.
 
وكان ثابت بن قرة متعدداّ في نواحي عبقريته، ولذا كثرت تآليفه في مواضيع مختلفة، وذلك يدل على علمه وفضله، ويدل على الرعاية التي تلقاها في بلاط الدولة العباسية التي احتضنته، وإن المرء ليعجب عندما يستعرض عناوين هذه الكتب فقط، وهي ليست بالكتب الإنشائية التي تعتمد على بنات الخيال وتدبيج الكلام، بل هي كتب علمية قوامها الملاحظات والنظريات والاستنتاجات، وفيما يلي أسماء أغلب كتبه جمعتها من عدة مصادر أوردها وفقاً لمواضيعها:
 
الرياضيات والهندسة
 
كتاب تسهيل المجسطي، والمجسطي Almagest كلمة يونانية تطلق على الرياضيات الهندسية، ولم يتمه وهو أجود كتبه في ذلك، كتاب المدخل إلى المجسطي، كتاب في أعمال ومسائل إذا وقع خط مستقيم على خطين، كتاب في قطع الأسطوانة، ومقالة أخرى له في ذلك، كتاب في المثلث القائم الزوايا، كتاب في وصف القرص، كتاب في الأعداد المتحابة، كتاب في الشكل القطاع، كتاب في مقدمات إقليدس Euclid، كتاب في أشكال إقليدس، كتاب في أشكال المجسطي، كتاب في استخراج المسائل الهندسية، كتابه فِي النسبة المؤلفة، رسالته فِي العدد الوفقي، كتابه فِي مساحة قطع الخطوط، مقالة فِي تصحيح مسائل الجبر بالبراهين الهندسية، إصلاحه للمقالة الأولى من كتاب ابلونيوس Eupalinus of Megara فِي قطع النسبة المحدودة وهذا الكتاب مقالتان أصلح ثابت الأولى إصلاحاً جيداً وشرحها وأوضحها وفسرها والثانية لم يصلحها وهي غير مفهومة، وأصلح كتاب أقليدس، ونقله أيضاً إِلَى العربي إصلاحين الثاني خير من الأول، وله عدة مختصرات فِي النجوم والهندسة عملها لأولاد محمد بن موسى بن شاكر، اختصاره لفيثاغورث وباريرمانياس والقياس، كتاب في العمل بالكرة، مقالة في عمل شكل مجس ذي أربع عشرة قاعدة تحيط به كرة معلومة، المدخل إلى كتاب إقليدس وهو في غاية الجودة، كتاب في المربع وقطره، جوابان عن كتابي محمد بن موسى بن شاكر إليه في أمر الزمان، كتاب في مساحة الأشكال المسطحة وسائر البسط والأشكال، كتاب في أن سبيل الأثقال التي تعلق على عمود واحد منفصلة هي سبيلها إذا جعلت ثقلاً واحداً مثبوتاً في جميع العمود على تساو، كتاب في آلات الساعات التي تسمى رخامات، كتاب في صفة استواء الوزن واختلافه وشرائط ذلك، جوامع كتاب نيقوماخس في الأرثماطيقي، أشكال له في الحيل، جوامع المقالة الأولى من الأربع لبطليموس، جوابه عن مسائل سأله عنها أبو سهل النوبختي، كتاب في قطع المخروط المكافي، كتاب في مساحة الأجسام المكافية، كتاب في مراتب قراءة العلوم، كتاب في أشكال الخطوط التي يمر عليها ظل المقياس، مقالة في الهندسة ألفها لإسماعيل ابن بلبل، كتاب في العروض، مقالة في تصحيح مسائل الجبر بالبراهين الهندسية، مختصر في علم الهندسة.
 
الفلك
 
كتابه فِي الأنواء، كتاب فِي العمل بالممتحن. وترجمة مَا استدركه عَلَى حبيش فِي الممتحن. جواب له عن سبب الخلاف بين زيج بطليموس Ptolemy وبين الممتحن، كتاب في حالة الفلك، كتاب في تركيب الأفلاك وخلقتها وعددها وعدد حركات الجهات لها، والكواكب فيها، ومبلغ سيرها، والجهات التي تتحرك إليها، كتاب في جوامع المسكونة، كتاب في قسمة الأرض، كتاب في الهيئة، كتاب رؤية الأهلة بالجنوب، كتاب رؤية الأهلة من الجداول، رسالة في سنة الشمس، رسالة الحجة المنسوبة إلى سقراط كتاب في إبطاء الحركة في فلك البروج وسرعتها وتوسطها بحسب الموضع الذي يكون فيه من الفلك الخارج المركز، كتاب فيما يظهر في القمر من آثار الكسوف وعلاماته، كتاب في علة كسوف الشمس والقمر، عمل أكثره ومات وما تممه، رسالة في كيف ينبغي أن يسلك إلى نيل المطلوب من المعاني الهندسية، فيها ذكر آثار ظهرت في الجو، وأحوال كانت في الهواء مما رصد بنو موسى وأبو الحسن ثابت بن قرة، كتاب في طبائع الكواكب وتأثيراتها، كتاب في إيضاح الوجه الذي ذكر بطليموس أن به استخرج من تقدمه مسيرات القمر الدورية وهي المستوية، كتاب فيما أغفله ثاون في حساب كسوف الشمس والقمر، مقالة في حساب خسوف الشمس والقمر.
 
الفيزياء
 
مقالة فِي تولد النار بَيْنَ حجرين، كتابه فِي آلة الزمر، ، كتاب في السبب الذي من أجله جعلت مياه البحر مالحة، اختصار كتاب ما بعد الطبيعة، مسائلة المشوقة إلى العلوم، كتاب في سبب كون الجبال، كتاب في مراتب العلوم.
 
الطب والأدوية
 
كتاب فِي تشريح بعض الطيور وأظنه مالك الحزين، كتاب في أجناس ما تنقسم إليه الأدوية، صنفه بالسرياني، كتاب في أجناس ما توزن به الأدوية، بالسرياني، كتاب في النبض، كتاب وجع المفاصل والنقرس، جوامع كتاب الأدوية المفردة لجالينوس Galenus، جوامع كتاب المرة السوداء لجالينوس، جوامع كتاب سوء المزاج المختلف لجالينوس، جوامع كتاب الأمراض الحادة لجالينوس، جوامع كتاب الكثرة لجالينوس، جوامع كتاب تشريح الرحم لجالينوس، جوامع كتاب جالينوس في المولودين لسبعة أشهر، جوامع ما قاله جالينوس في كتابه في تشريف صناعة الطب، اختصار كتاب أيام البحران لجالينوس ثلاث مقالات، اختصار الأسطقسات لجالينوس – وهي العناصر الأربعة الهواء والماء والنار والتراب - ، كتاب أصناف الأمراض، كتاب في الحصى المتولد في الكلى والمثانة، كتاب في البياض الذي يظهر في البدن، كتاب في مسائلة الطبيب للمريض، كتاب في سوء المزاج المختلف، كتاب في تدبير الأمراض الحادة، رسالة في الجدري والحصبة، جوامع كتاب القصد لجالينوس، جوامع تفسير جالينوس لكتاب أبقراط في الأهوية والمياه والبلدان، اختصار كتاب النبض الصغير لجالينوس، جوامع كتاب النبض الكبير لجالينوس، مقالة في الصفرة العارضة للبدن وعدد أصنافها وأسبابها وعلاجها، مقالة في وجع المفاصل، مقالة في صفة كون الجنين، كتاب في علم ما في التقويم بالممتحن، كتاب في تدبير الصحة، كتاب في محنة حساب النجوم، كتاب تفسير الأربعة، رسالة في اختيار وقت لسقوط النطفة، كتاب الخاصة في تشريف صناعة الطب وترتيب أهلها وتعزيز المنقوصين منهم بالنفوس والأخبار أن صناعة الطب أجل الصناعات، كتب به إلى الوزير أبي القاسم عبيد اللّه بن سليمان، اختصار كتاب جالينوس في قوى الأغذية، ثلاث مقالات، كتاب البصر والبصيرة في علم العين وعللها ومداواتها، جوامع كتاب جالينوس في الأدوية المنقية، جوامع كتاب الأعضاء الآلمة لجالينوس، كتاب في الوقفات التي في السكون الذي بين حركتي الشريان المتضادتين، مقالتان، صنف هذا الكتاب سريانياً لأنه أومأ فيه إلى الرد على الكندي، ونقله إلى العربي تلميذ له يعرف بعيسى بن أسيد النصراني، وأصلح ثابت العربي، وذكر قوم أن الناقل لهذا الكتاب حبيش بن الحسن الأعسم، وذلك غلط، وقد رد أبو أحمد الحسين بن إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن كرنيب على ثابت في هذا الكتاب بعد وفاة ثابت بما لا فائدة فيه، ولا طائل، وهذا الكتاب أنفذه لما صنفه إلى إسحاق بن حنين فاستحسنه استحساناً عظيماً، وكتب في آخره بخطه يقرظ ثابتاً ويدعوه له ويصفه.
 
النفس
 
كتابه فِي الطريق إِلَى اكتساب الفضيلة، مقالة فِي النظر فِي أمر النفس، كتاب في الرد على من قال أن النفس مزاج.
 
المنطق
 
كتاب في أغاليط السوفسطائيين، اختصار المنطق.
 
وله بالسريانية مَا يتعلق بديانته رسالة فِي الرسوم والفروض والسنن، رسالة فِي تكفين الموتى ودفنهم، رسالة فِي اعتقاد الصابئين، رسالة فِي الطهارة والنجاسة، رسالة فِي السبب الذي لأجله ألغز الناس فِي كلامهم، رسالة فيما يصلح من الحيوان للضحايا وما لا يصلح، رسالة فِي أوقات العبادات، رسالة فِي ترتيب القراءة فِي الصلاة وصلوات الابتهال إِلى الله عزّ وجلّ، وله كتاب سرياني في الموسيقى يشتمل على نحو خمسمئة ورقة.
 
وإذ كانت الفترة التي عاش فيها ثابت امتداداً لعصر الترجمة الذهبي الذي بلغ أشده في خلافة المأمون، فإنه ساهم فيها بالترجمة، وبتصحيح ترجمات من سبقوه مثل حنين بن إسحاق العبادي، المتوفى سنة 260، والذي عرَّب كتاب إقليدس من اليونانية، وكذلك كتاب المجسطي، وكان حنين بن إسحاق يترجم بأن يأتي الجملة فيحصِّلَ معناها في ذهنه ويعبر عنها في اللغة الأخرى بجملة تطابقها، سواء ساوت ألفاظها أم خالفتها، ولم يكن لحنين إلمام بعلوم الرياضيات، بخلاف كتب الطب والمنطق، فاحتاجت ترجماته إلى الإصلاح، فنقحها وهذبها ثابت بن قرة كما سبق ذكره في معرض الكتب.
 
ومن أهم إنجازات ثابت بن قرة أن أبحاثه في الرياضيات مهدت الطريق لمن جاء بعده لإرساء أهم فرع من فروع الرياضيات ألا وهو التفاضل والتكامل، وقدم ثابت قاعدة لتحديد الأعداد المتحابة وهي عددان مجموع عوامل كل منهما يساوي العدد الآخر، وأصغرها هما العددان 220 و284، فعوامل العدد 220 هي 1، 2، 4، 5، 10، 11، 20، 22، 44، 55، 110 ومجموعها 284، وفي المقابل عوامل العدد 284 هي1، 2، 4، 71، 142، ومجموعها 220، وقام ثابت بعمل أرصاد دقيقة للشمس وجمعها في كتاب سنة الشمس، وبين فيه ما أدركه بالرصد في مواضع أوجها ومقدار سنيها وكمية حركاتها وصورة تعديلها، وحَسَب طول السنة الشمسية فتوصل إلى مقدار أكثر بثانيتين من الحقيقة.
 
وكان ثابت بن قرة صحيح اللغة العربية، بليغ الحكاية والكتابة، ويجدر أن نشير أن هذه البلاغة بقيت في أسرته التي أخرجت عدداً من الكُتَّاب يضرب المثل ببلاغتهم الواسعة وبيانهم المعجب، وأورد فيما يلي ما قاله في تميز ثلاثة من الشخصيات الإسلامية، لتعرف بلاغته وتدرك حصافته، قال أبو حيان التوحيدي، علي بن محمد المتوفى نحو سنة 400 عن نيف وثمانين عاماً، نقلاً عن أستاذه أبي سعيد السيرافي، الحسن بن عبد الله المولود سنة 284 والمتوفى سنة 368، أن ثابت بن قرة كان يقول: فُضِّلَت أمة محمد صلى الله عليه وسلم العربي على جميع الأمم الخالية بثلاثة لا يوجد فيمن مضى مثلهم:
 
عمر بن الخطاب في سياسته ويقظته وحذره، وتحفظه ودينه وتقيته، وجزالته وبذالته وصرامته وشهامته، وقيامته في صغير أمره وكبيره بنفسه، مع قريحة صافية، وعقل زافر، ولسان عضب وقلب شديد، وطوية مأمونة، وعزيمة مأمومة، وصدر منشرح، وبال منفسح، وبديهة نضوح وروية لقوح، وسر طاهر، وتوفيق حاضر، ورأي مصيب، وأمر عجيب، وشأن غريب.
 
دعم الدين وشيد بنيانه، وأحكم أساسه ورفع أركانه، وأوضح حجته وأنار برهانه، ملك في زي مسكين، ما جنح في أمر إلى ونى، ولا غض طرفه على خناً، ظهارته كالبطانة، وبطانته كالظهارة، جرح وأسا، ولان وقسا، ومنع وأعطى، واستخذى وسطا، كل ذلك في الله ولله.
 
لقد كان من نوادر الرجال، قلَّم أظفار العجم، ولطف في إيالة العرب، وتأتى لتدبير الحروب، وأشبع بطون العرب، وألبس الدين جلباباً، وفتح له أبواباً، وهيأ له شرائط وأسباباً، ثم لم يرزأ من جميع الغنائم والفتوح شيئاً، وصحب عمره بالقناعة التي لا تجيب إليها نفس، مع القدرة والتمكين والسلطان والسطوة والهيبة والطاعة والإجابة، ومزج الدنيا بالدين، وأعان الدين بالدنيا، ودارى في موضع المداراة، ومارى في موضع المماراة، وأظهر الضعف مع قرة، وأظهر القوة مع رأفة، وأظهر الرأفة مع التقصي، فدانت له القلوب، وذلت له الرقاب، وتناجت القلوب بمحبته، وتناصرت الألسنة بالثناء عليه، نومه لليقظة، وراحته للدأب، وقسوته للرحمة، ومنعه للعطاء، وصمته للعبرة، وقوله للفائدة، ومشيه للإغاثة، ينفض الليل بنفسه، ويعترف في كل أمر بتقصيره، ولا يرضى ببذل مجهوده، نقاب يحدث بالغائب، إن ارتأى لم يقل، وإن قال لم يخل، وإن تواضع لم يذل، أحواله تتناسب، وأموره تتشابه، ليله كنهاره، وسره كإجهاره، وإبطانه كإظهاره، وعلانيته كإسراره، لا يقفوه قاف وإن تقصى السداد، ولا يلحقه لاحق وإن ركض الجواد.
 
والثاني الحسن البصري، فلقد كان من دراري النجوم علماً وتقوى وزهداً وورعاً وعفةً ورقةً وتألهاً وتنزهاً وفقهاً ومعرفةً وفصاحةً ونصاحةً، مواعظه تصل إلى القلوب، وألفاظه تلتبس بالعقول، وما أعرف له ثانياً، ولا قريباً ولا مدانياً، كان منظره وفق مخبره، وعلانيته في وزن سريرته، عاش سبعين سنة لم يقرف بمقالة شنعاء، ولم يزن بريبة ولا فحشاء، سليم الدين، نقي الأديم، محروس الحريم، يجمع مجلسه ضروب الناس وأصناف اللباس لما يوسعهم من بيانه، ويفيض عليهم بافتنانه، هذا يأخذ عنه الحديث، وهذا يلقن منه التأويل، وهذا يسمع الحلال والحرام، وهذا يتبع في كلامه العربية، وهذا يجرد له المقالة، وهذا يحكي الفتيا، وهذا يتعلم الحكم والقضاء، وهذا يسمع الموعظة، وهو جميع هذا، كالبحر العجاج تدفقاً، وكالسراج الوهاج تألقاً، ولا تنس مواقفه ومشاهده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الأمراء وأشباه الأمراء بالكلام الفصل، واللفظ الجزل، والصدر الرحب، والوجه الصلب، واللسان العضب، كالحجاج وفلان وفلان مع شارة الدين، وبهجة العلم ورحمة التقى، لا تثنيه لائمة في الله، ولا تذهله رائحة عن الله، يجلس تحت كرسيه قتادة صاحب التفسير، وعمرو وواصل صاحبا الكلام، وابن أبي إسحاق صاحب النحو، وفرقد السبخي صاحب الدقائق، وأشباه هؤلاء ونظراؤهم، فمن ذا مثله ومن يجري مجراه؟
 
والثالث أبو عثمان الجاحظ، فإنك لا تجد مثله، وإن رأيتَ ما رأيتَ رجلاً أسبق في ميدان البيان منه، ولا أبعد شوطاً، ولا أمد نفساً، ولا أقوى منة، إذا جاء بيانه خجل وجه البليغ المشهور، وكلَّ لسان المُسحنفِر الصبور، وانتفخ سَحْر العارم الجسور؛ ومتى رأيت ديباجة كلامه رأيت حوكاً كثير الوشي، قليل الصنعة، بعيد التكلف، حلو الحلى، مليح العطل، له سلاسة كسلاسة الماء، ورقة كرقة الهواء، كتبه رياض زاهرة، ورسائله أفنان مثمرة، ما نازعه منازع إلا رشاه آنفاً، ولا تعرض له منقوص إلا قدم له التواضع استبقاءً.
 
الخلفاء تعرفه، والأمراء تصافيه وتنادمه، والعلماء تأخذ عنه، والخاصة تسلم له، والعامة تحبه، جمع بين اللسان والقلم، وبين الفطنة والعلم، وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم، وبين الذكاء والفهم، طال عمره، وفشت حكمته، وظهرت خلته، ووطئ الرجال عقبه، وتهادوا أدبه، وافتخروا بالانتساب إليه، ونجحوا بالاقتداء به، لقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب.
 
فسبحان من سخر له البيان وعلَّمه، وسلم في يده قصب الرهان وقدََّمه، مع الاتساع العجيب، والاستعارة الصائبة، والكتابة الثابتة، والتصريح المغني، والتعريض المنبي، والمعنى الجيد، واللفظ المفخم، والطلاوة الظاهرة، والحلاوة الحاضرة، إن جدَّ لم يُسبق، وإن هزل لم يلحق، وإن قال لم يعارض، وإن سكت لم يعرض له.
 
وكان بين ثابت بن قرة وبين أبي أحمد يحيى بن علي بن يحيى المنجم النديم صداقة ومودة أكيدة، فلما مات ثابت رثاه بأبيات منها:
 
ألا كل حي مَا خلا الله مائت ... ومن يغترب يؤمل ومن مات فائت
 
أرى من مضى عنا وخيم عندنا ... كسفر ثووا أرضاً فساروا وبائت
 
نعينا العلوم الفلسفيات كلها ... خبا نورها إذ قيل قد مات ثابت
 
وأصبح أهلوها حيارى لفقده ... وزال بِهِ ركن من العلم ثابت
 
وكانوا إذا ضلوا هداهم لنهجها ... خبير بفصل الحكم للحق ناكت
 
ولما أتاه الموت لم يغن طبه ... ولا ناطق مما حواه وصامت
 
ولا أمتعته بالغنى بغتة الردى ... ألا رب رزق قابل وهو فائت
 
فلو أنه يسطاع للموت مدفع ... لدافعه عنه حماة مصالت
 
ثقاة من الإخوان يَصْفون وده ... وليس لما يقضي به اللّه لافت
 
أبا حسن لا تبعدن وكلنا ... لهلكك مفجوع له الحزن كابت
 
أآمل أن تجلى عن الحق شبهة ... وشخصك مقبور وصوتك خافت
 
وقد كان يسرو حسن تبيينك العمى ... وكل قؤول حين تنطق ساكت
 
كأنك مسؤولاً من البحر غارف ... ومستبدئاً نطقاً من الصخر ناحت
 
عجبت لأرض غيّبتك ولم يكن ... ليثبت فيها مثلك الدهر ثابت
 
تهذبت حتى لم يكن لك مبغض ... ولا لك لمّا اغتالك الموت شامت
 
وبرّزت حتى لم يكن لك دافع ... عن الفضل إلا كاذب القول باهت
 
مضى عَلَم العِلم الذي كان مقنعاً ... فلم يبق إلا مخطئ متهافت
 
وكان لثابت بن قرة ولدٌ هو أبو سعيد سنان بن ثابت بن قرة، درس على والده العلوم ومهر في صناعة الطب والفلك، وكان في خدمة الخلفاء المقتدر بالله، والقاهر بالله والراضي بالله، وصار كبير الأطباء في بغداد، وأراده القاهر بالله على الإسلام فهرب إلى خراسان خوفاً من القاهر ثم رجع فأسلم وتوفي ببغداد بعلة الذرب في مستهل ذي القعدة سنة 331.
 
وكان له ولد أسماه إبراهيم، بلغ رتبة أبيه في الفضل، وكان من حذاق الأطباء، ومقتدى أهل زمانه في صناعة الطب، ولم أعثر له على ترجمة في ما بين يدي من المصادر، وهو أمر مستغرب مما يجعلني أرجح أنه اسم آخر لابنه سنان بن ثابت.
 
وله حفيد اسمه ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة كان فِي أيام المطيع لله، وكان قبل ذلك مختصاً بخدمة الراضي وكان بارعاً فِي الطب عالماً بأصوله، وكان يتولى تدبير المارستان ببغداد فِي وقته، وألف كتاباً في التاريخ ابتدأه من سنة نيف وتسعين ومئتين إلى سنة 363 وتوفي في سنة 365.
 
درس على ثابت عديد من التلاميذ منهم أولاده وأهل بيته من الصابئة، ومنهم من المسلمين أولاد محمد بن شاكر، ومنهم من اليهود يهودا ابن يوسف الرقيّ المعروف بابن أبي الثناء، درس عليه الطب والفلسفة، ومنهم كذلك عيسى بن أسيد النصراني، وكان ثابت يقدمه ويفضله، وكان يعمل مساعداّ له في الترجمة، ولثابت كتاب عنوانه جوابات مسائل عيسى بن أسيد.
 
ترك ثابت بن قرة ومؤلفاته أبحاثه أثراً كبيراً على علوم الفلك وأبحاث الفلكيين الذين جاءوا بعده من مسلمين وأوروبيين، وأطلق اسمه على أحد الأرقام المعروف بالرقم الأولي 321، وتأثر بنظرياته الفلكية العالم الفلكي الألماني بيورباخ الذي جاء بعده بخمسمئة سنة.
 
وقد كتبت حول هذا العالم الكبير مؤلفات كثيرة بلغات عديدة، ومن مؤرخين ورياضيين وفلكيين، ومنها ما أفرده، ومنها ما تناول حياته وإنجازاته في ثنايا أبحاثه، ومن أبرز هذه المؤلفات كتاب باللغة الإنجليزية قام بتحريره الأستاذ رشدي راشد الأستاذ في جامعة باريس، وعنوانه: ثابت بن قرة: العلم والفلسفة في القرن التاسع في بغداد، وتناول الباحثان الأمريكيان روبرت وإيلن كابلان في كتابهما حول تاريخ نظرية فيثاغورث عمل علماء الرياضيات في شروح وبراهين نظرية فيثاغورت، ووصفا عمل العبقري الإيطالي ليوناردو دافنشي في هذا الصدد بأنه غامض، أما براهين ثابت بن قرة فهي أشبه بالسحر لسهولتها وبساطتها

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين