حدث في رمضان

٢ رمضان عام ١١٤ هجري / ٧٣٢ م : حدثت معركة بلاط الشهداء، وتسمى معركة تور، ومعركة بواتييه، بين المسلمين بقيادة عبد الرحمن الغافقي، والفرنجة بقيادة شارل مارتل، وقد وقعت في منطقة بواتييه الفرنسية، في جبال البيرينيه، في سهل هناك معروف، وأسفرت عن هزيمة المسلمين بعد استشهاد قائدهم عبد الرحمن الغافقي.

أهمية المعركة

تختلف نظرة المؤرخين المسلمين إلى المعركة كثيرا عن نظرة زملائهم الغربيين.

فالمؤرخون المسلمون لا يرونها أكثر من كونها من جملة المناوشات التي وقعت بين المسلمين والفرنجة، ولم نجد عندهم تلك الأخبار المضخمة التي ساقها المؤرخون الغربيون.

فابن عذارى، مثلا، يذكر المعركة في كتابه (البيان المغرب ١ / ٥١) عرضا في رجمة الغافقي، فيقول: «وليَ الأندلس عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، فغزا الروم، واستشهد مع جماعة من عسكره سنة ١١٥ هـ، بموضع يعرف ببلاط الشهداء، وفيها أصاب الناس مجاعة عظيمة«.

ثم وفي موضع آخر (٢ / ٢٨) يشير إلى استشهاده في المعركة دون ذكر اسمها حتى فيقول: «واستشهد في أرض العدو في رمضان سنة ١١٤«.

إذن فالموضع الذي وقعت فيه المعركة يعرف ببلاط الشهداء، وليس أن المعركة أطلق عليها هذا الإسم لكثرة ما سقط فيها من الشهداء !!!

ويلاحظ اختلاف التاريخ بين الخبرين، إلا أن الواقعة نفسها لم تأخذ سوى هذه الإشارات البسيطة التي تدل على أنها لم تكن بالأهمية التي صورها فيها بعض المؤرخين الغربيين.

بل إنه يندر أن نجد اسم (بلاط الشهداء) في كتاب لمؤرخ مسلم يعتبر كتابه أصل.

فأبو جعفر الضبي (ت: ٥٩٩ه‍) صاحب كتاب (بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الاندلس) ، لم يزد في ترجمته للغافقي عبد الرحمن على قوله إنه «استشهد في قتال الروم بالأندلس سنة خمس عشرة ومائة»، ولو كانت المعركة كما صورها بعض المؤرخين الأوروبيين لوجدنا لها ذكرا هنا.

حتى إن مؤرخا كبيرا مثل الذهبي لم يأت على ذكر المعركة في حوادث عام ١١٤ ، ولا ١١٥ ، وجل ما فعله أنه ترجم للغافقي في وفيات الطبقة الثانية عشرة (١١١ - ١٢٠) ترجمة مقتضبة، وقال: «استشهد سنة خمس عشرة ومئة في حرب بينه وبين النصارى«.

وهكذا غالب الذين ذكروا المعركة من المؤرخين المسلمين لم يزيدوا على هذا القدر..

المعركة في كتب المؤرخين الأوروبيين

أما المؤرخون الغربيون فقد تعددت وجهات نظرهم حول المعركة:

ففريق منهم ينظر إلى المعركة على أنها كانت حاسمة في تاريخ العالم، وأن شارل مارتل أنقذ المسيحية من الغزو الإسلامي، منهم (جيبون) و(جيله)، من المؤرخين الذين اعتمدوا على تأريخ عام ٧٥٤ وتأريخ فريدغر.

إلا أن هذا الفريق سلك في تصوير المعركة مسلكين: الأول دراماتيكي، مثلما فعل جيبون في كتابه (اضمحلال الإمبراطورية الرومانية) حيث صور شارل مارتل بأنه منقذ المسيحية في أوروبا من الغزو الإسلامي.

والثاني اتخذ نهجًا أكثر اعتدالاً ودقة في وصف أهمية المعركة، بدلاً من الوصف الدراماتيكي الذي اتخذه جيبون. ومن أبرز هؤلاء المؤرخ (ويليام واتسون)، الذي آمن بأهمية المعركة تاريخيًا، لكنه حللها عسكريًا وثقافيًا وسياسيًا، بدلاً من أن ينظر إليها من منظور الصراع الكلاسيكي بين المسلمين والمسيحيين.

أما الآن، فقد انقسم المؤرخون الغربيون المعاصرون بشكل واضح حول أهمية المعركة وحجمها، وأين ينبغي أن تُصنّف في التاريخ العسكري. حتى إن هناك رأي يقول بأن المعركة بُولغ فيها بشدة وتم تصويرها وكأنها نهاية عصر الفتح الإسلامي. بينما وجدنا أن الفتوحات الإسلامية لم تتوقف بعد المعركة.

والدراسات التاريخية المعاصرة توافق المؤرخين المسلمين على وصفهم للمعركة التي لا يتجاوز حجمها حجم الغارة العادية. من هؤلاء المؤرخين: (الفيلسوف برنار لويس) ، و(غوستاف جرونبوم)، والإيطالي (أليساندرو باربيرو)، و(توماز ماستناك)، الذي قال بشكل واضح لا لبس فيه: «لقد نسج المؤرخون المعاصرون أسطورة حول هذا الانتصار، بأنه الذي أنقذ أوروبا المسيحية من المسلمين. فإدوارد جيبون، على سبيل المثال، دعا شارل مارتل بمنقذ المسيحية وأن المعركة التي دارت قرب بواتييه غيرت تاريخ العالم

...

 

وقد ظلت تلك الأسطورة حية بشكل جيد في عصرنا ... رغم أن المعاصرين للمعركة، لم يبالغوا في أهميتها.

فتأريخ فريدغر، الذي كتب على الأرجح في منتصف القرن الثامن، صوّر المعركة كواحدة من العديد من المعارك بين المسيحيين والعرب المسلمين - بل باعتبارها واحدة من سلسلة حروب خاضها أمراء الفرنجة من أجل الغنائم والأراضي ...

وصف تاريخ فريدغر معركة بواتييه كما هي بالفعل: حلقة في الصراع بين الأمراء المسيحيين مثل (الكارولينجيون) الذين سعوا لضم أقطانيا تحت حكمهم».

ووافقه على ذلك المؤرخَان (روبرت كاولي) و(جيفري باركر) واضعا كتاب (رفيق القارئ إلى التاريخ العسكري)، حيث لخّصا وجهة النظر الحديثة عن المعركة، فقالا: «إن دراسة التاريخ العسكري شهدت تغيرات جذرية في السنوات الأخيرة. فلم يعد نهج الطبول والأبواق القديم فعّالا، حيث حظيت عوامل كالاقتصاد والخدمات اللوجستية والاستخبارات والتكنولوجيا بالاهتمام لتقييم المعارك والحملات والخسائر. واكتسبت كلمات مثل "استراتيجية" و"عمليات" معانٍ ربما لم تكن معروفة منذ جيل مضى.

وقد غيرت الأبحاث الجديدة وجهات نظرنا ... على سبيل المثال، العديد من المعارك التي أدرجها إدوارد شيبرد كريزي عام ١٨٥١ في كتابه المشهور (أكثر خمس عشْرَة معركة حسمًا في العالم) نذكر منها هنا، المواجهة بين المسلمين والمسيحيين في بواتييه-تور عام ٧٣٢، التي كان ينظر إليها أنها حدثًا فاصلاً، خُفّضت إلى مجرد غارة».

نعم خُفضت إلى مجرد غارة، ومع ذلك وجدنا من كتاب التاريخ المعاصرين من المسلمين من يكتب عن هذه الغارة كتبا حشاها بالأخبار (الدراماتيكية) المستقاة من كتب المؤرخين الأوروبيين، ورتبوا عليها دروسا وعبرا الله أعلم بها، فأضفوا عليها ذلك البعد الدراماتيكي الذي رفضه أصحاب النقد التاريخي.

ورحم الله تعالى مؤرخينا كانوا ما أنصفهم وما أدق مناهجهم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين