رمضان شهر الحرية

 

إذا كانت الحرية تعني: الخلاص من الرق والعبودية، ومن القيود المفروضة على الفرد، أو الجماعة، وتعني إمكانية الاختيار بين الأمور الممكنة الحصول، وفق شروط معينة، فهي لا تعني بحال من الأحوال: حق الإنسان بالتصرف كما يشاء، دون ضابط خلقي، أو اجتماعي، أو إنساني وهي لا تعني أيضاً: الانطلاق وراء الأهواء والنزعات والشهوات.  

فالإنسان المنطلق وراء غرائزه المنحطة، وشهواته الجامحة، ليس حراً بالمعنى الصحيح للحرية، بل هو عبد لأهوائه، أسير لذاته، محكوم لغرائزه أما الذي ملك هواه، وتحكم في ميوله وغرائزه، عن طريق مراقبة الله سبحانه والانضباط بمنهجه الحكيم، وشرعه القويم، من خلال قيامه بعبادة الصيام، بما فيها من الصبر على الغرائز والشهوات فهو الحر الحقيقي. 

إن الانطلاق وراء الغرائز والشهوات، يعبر عن الفوضى المدمرة والعبودية الذليلة، أما أنه تعبير عن الفوضى، فلأنك لا تجد في هذا العالم حرية مطلقة غير مقيدة بنظام، أو منهج يحكمها، فحرية الفرد لا تصان إلا إذا قيّدت بهذا النظام، لتسلم حرية المجتمع من حوله، لأن الإنسان مخلوق اجتماعي، لا يعيش وحده، بل ضمن مجتمع متماسك، يناله الأذى كله، إذا وقع الأذى على بعض أفراده، وقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً رائعاً، يوضح معنى الحرية، وأن الحرية الفردية المنطلقة وراء الرغبات والغرائز فوضى، يجب على المجتمع مقاومتها، والتصدي لها، والقضاء عليها، فهو يقول: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها، إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فلو أنهم تركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً" [رواه البخاري والترمذي. ].

فالحرية المطلقة: فوضى وفساد، يجب مقاومته والتصدي له، والأخذ على يد العاملين بمقتضاه، وهذه الفوضى التي يعبر عنها بعض الناس بالحرية ما هي إلا عبودية ذليلة للأهواء والرغبات والشهوات، فالإنسان الذي تحكمه عاداته، وتستولي عليه، ولا يستطيع الخلاص منها، يصبح عبداً لها، ينساق إليها بذل العبيد، متخلياً عن شيم الأحرار، الذين يعملون في حرية واختيار والإنسان المنطلق وراء رغباته ولذائذه، المتفلّت من كلِّ قيد أو نظام أو منهج تستعبده هذه الشهوات والرغبات، فيصبح أسيراً لها، مكبلاً بقيود عبوديتها، لا يتحرك إلا بهدى منها، ولا يسير في هذه الحياة إلا من أجلها، وكذلك الإنسان المتهالك على المال والجاه، حتى يستولي على قلبه ولبه ونفسه، يصبح عبداً ذليلاً لما أحب من السلطان والمال، فإذا تعلق قلب الإنسان بهذه العادات وتلك الأهواء والرغبات والشهوات، فلم يستطيع الفكاك من أسرها، وأضحى لا يملك زمام نفسه، ولا حريته فكره وقلبه، وفقد السيطرة على أفعاله وأعماله أصبح رقيقاً ذليلاً مستعبداً لغير الله، وهذه العبودية الذليلة، والأسر الخالص، فليست الحرية، انفلاتاً من النظام والمنهج، الذي يضبط علاقة الإنسان بالآخرين وليست العبودية قيداً أو سجناً فحسب، بل هذه أيسر أنواع العبودية وأسرعها زوالاً. 

العبودية الذليلة حقاً هي: عادة سيئة مستحكمة، ولذة محرمه مطاعة والحرية الحقيقية هي: أن تستطيع السيطرة على أهوائك، ورغباتك وعاداتك وأنواع الشرّ في نفسك، الحرية الحقيقية: أن لا تستذلك شهوة، أو تستعبدك عادة، أو يمتلكك حبّ للمال أو الجاه أو السلطان، فالمتمسكون بهذا المنهج من المؤمنين الصائمين، هم الأحرار حقاً، وهم أصحاب الحرية الإيجابية الفاعلة، لأن عبوديتهم لله تعالى، وامتثالهم لأوامره وبعدهم عمّا نهى عنه وسيرهم على هذا المنهج القويم، حررهم من كلّ أنواع العبودية، وإخلاصهم لله سبحانه، صرف عنهم الذلة والتبعية فالآخذون بهذا المنهج، الصائمون الخاضعون لأوامر الله، هم أكمل الناس، وأعقل الناس، وأسعد الناس، وهم أكثر الناس حرية، لأن خضوعهم لله، حررهم حتى من أنفسهم. 

ورمضان منهج فريد في حرية الفرد والأمة، فرض الله فيه الصيام ليحرر الإنسان من كلّ أنواع العبودية التي استذلته طيلة العام. 

في رمضان جوع وعطش، وفيه قيد وحرمان من الرغبات والشهوات لكن فيه الحرية من قيد العادات والرغبات، في رمضان امتناع عن اللذات والشهوات اختياراً، وهذه هي حرية الإرادة في أسمى مظاهرها، لأن حرية الإرادة أن تعمل وفق ما يمليه عليك المنهج الذي ارتضيته لنفسك، المنهج الذي فيه نجاتك ونجاة المجتمع من حولك -شركاؤك في السفينة- حرية الإرادة: أن تعمل وفق ما يمليه عليك دينك وعقلك، لا تمليه عليك عواطفك ورغباتك وشهواتك. 

فالمتحقق بمنهج رمضان هذا، الصائم صوم المؤمنين الأبرار التارك بمحض إرادته كلّ المفطّرات الحسية والمعنوية، من كذب وغيبة ونميمة وقول للزور وإيذاء للناس، والاعتداء عليهم وغيرها، هو حر قوي الإرادة، تنضبط ميوله بإحكام عقله، هو حر، لأنه اختار منهج الله تعالى، وترك كل المناهج الوضيعة، التي تستعبد الإنسان، وتستذله، هو حر، لأنه قام بواجبه، فصام امتثالاً لأمر الله، هو حر لأنه أعلن وبكل وضوح عبوديته التامة الكاملة المطلقة لله وحده، وهذه الحرية الكاملة، فأكثر الناس حرية أشدهم عبودية لله وحده.  

هذا هو شهر رمضان، منهج كامل للحرية بأجمل معانيها، وأرقى تجلياتها، وأبهى حللها، حرية تحرر المسلم من عبودية لجسد وترابيه وترفعه إلى حرية الروح ونورانيتها. 

من كتاب (رمضان منهج متكامل في تربية الفرد وبناء المجتمع)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين