فضل العلم على العبادة

 

الإسلام – فيما نعلم – أول دين يفضِّل الاشتغال بالعلم وطلبه، والتبحر فيه على التطوع بالشعائر المعروفة، من صلاة وصيام وحج ونحوها مع أن القرآن يعلن في صراحة وجلاء أنَّ الله تعالى لم يخلق الثقلين إلا ليعبدوه: [وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون] [الذاريات: ??].

 

ولكن العبادة إذا أدِّيت على غير علم، فهي كبنيان على غير أساس، فالعلم هو الذي يوضِّح أركان العبادة، وشروطَها، وآدابَها الظاهرة، وأسرارها الباطنة، كما يبين ما يصحِّحها وما يبطلها وما يكملها أو ينقصها.

 

والعلم يُعرِّف صاحبَه بمنازل الأشياء، ومراتب الأعمال، حتى يميِّز بين النفل والفرض، ويبيِّن المهم وغير المهم، ويبيِّن الأصول والفروع، فلا يقدِّم نافلة على فريضة، ولا يقدِّم غير المهم على المهم، ولا يضيع أصلاً من أجل فرع.

 

وفي مثل هذا قال السلف: إنَّ الله لا يقبل النافلة حتى تؤدَّى الفريضة[1].

 

وقالوا: من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور([2]).

 

ومن فضل العلم على العبادة: أنَّ معظم العبادات قاصرة النفع لا تتجاوز صاحبها، فالمُصلِّي والصائم، والحاجّ والمعتمر، والذاكر والمُسبِّح، يزيد عملهم من حسناتهم، ويرفع من درجاتهم ... ولكن المجتمع من ورائهم لا ينال من جراء عبادتهم شيئاً مباشراً، يحقق لهم منفعة، أو يدفع عنهم مضرّة.

 

أما العلم فنفعه مُتَعَدٍّ .... لا يقتصر على صاحبه، بل يتجاوزه إلى غيره من الناس من كل من يسمعه، أو يقرؤه، وقد يكون بينه وبينهم جبال ووهاد، أو بحار وقفار.

 

فالعلم لا يعرف القيود، ولا يعترف بالحواجز والسُّدود، وخاصَّة في عصرنا الذي ينشر فيه العلم المسموع بالإذاعة، والمرئي بالتلفاز، في ثوان معدودة، بل في نفس اللحظة، إلى المستمعين والمشاهدين في مساحات شاسعة. وينشر العلم المكتوب بوساطة الطباعة الحديثة إلى آفاق المعمورة في أيام بل ساعات معدودة.

 

ولا عجب أن روى أبو أمامة t قال: ذكر للنبيِّ صلى الله عليه وسلم  رجلاً، أحدهما عالم، والآخر عابد، فقال عليه الصلاة والسلام: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم»([3]).

 

وروى عنه حذيفة بن اليمان: «فضل العلم خير من فضل العبادة»([4]).

 

وقد تقدَّم حديث أبي الدرداء: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»[5] .

 

ومن فضل العلم على العبادة: أنه لا ينقطع بانقطاع الحياة، ولا يموت بموت أصحابه.

 

فمن صلى، أو صام، أو زكّى، أو حجّ، أو اعتمر، أو سبَّح وهلَّل وكبَّر، فإن هذه الأعمال لها مثوبتها الجزيلة عند الله تعالى، ولكنها تنتهي بانتهاء أدائها والفراغ منها.

 

أما العلم فإنَّ أثره يظلُّ باقياً ممتداً، ما دام في الناس من ينتفع به، مهما تطاولت السنون، وتعاقبت القرون.

 

فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»([6]).

 

وقال أيضاً: «إنَّ مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً علّمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورَّثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحّته وحياته، تلحقه من بعد موته»([7]).

 

وبهذا يعيش العالِم عمراً طويلاً بعد عمره المحدود، وبخاصَّة من كتب وصنَّف، فإن عمر المكتوب أطول، وأثره أبقى.

 

ألا ترى أننا اليوم ننتفع بتراث علمائنا السابقين، وندعو لهم، ونترحَّم عليهم، وبيننا وبينهم أزمان وقرون تندقُّ فيها أعناق المُطى.

 

قال يحيى بن أكثم: قال الرشيد يوماً: ما أنبل المراتب؟

 

قلت: يا أمير المؤمنين ما أنت فيه. قال: فتعرف من هو خير مني؟ قلت: لا، قال: لكني أعرفه. رجل يقول: حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 

قال: قلت يا أمير المؤمنين: أهذا خير منك وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم  ووليُّ عهد المؤمنين ؟

 

قال: نعم، ويلك! هذا خير مني؛ لأن اسمه مقترن باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم  لا يموت أبداً. ونحن نموت ونفنى، والعلماء باقون ما بقي الدهر([8]).

 

 وما أبلغ ما قال الإمام علي t لكميل بن زياد: «العلم خير من المال: العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والعلم يزكو على الإنفاق، والمال تنقصه النفقة، والعلم حاكم والمال محكوم عليه»[9].

 

«العلم يُكسب العالم الطمأنينة في حياته، وجميلَ الأحدوثة بعد وفاته، وصنيعة المال تزول بزواله، مات خُزّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة»([10]).

 

الاشتغال بالعلم أفضل ما يُتطوَّع به:

 

وهذه الأحاديث وما جاء في معناها، وما جاء في فضل العلم عامة – هي التي جعلت كثيراً من السلف يعدُّون العلم أفضل ما يتطوعون به متقرِّبين لله تعالى.

 

فعن ابن مسعود قال: الدراسة صلاة[11].

 

وعن أبي الدرداء قال: مذاكرة العلم ساعة خير من قيام ليل[12].

 

وعن ابن عباس: تذاكر العلم بعض ليلة أحل إلي من إحيائها[13].

 

وعن أبي هريرة: لأن أجلس ساعة فأفقه في ديني أحب إليَّ من أن أحيي ليلة إلى الصباح[14].

 

وقال قتادة: باب من العلم يحفظه الرجل لعلاج نفسه، وصلاح من بعده، أفضل من عبادة حوْل[15].

 

وقال الثوري: ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم[16].

 

وعنه أيضاً: ما أعلم اليوم شيئاً أفصل من طلب العلم، قيل له: ليس لهم نيّة! قال: طلبهم له نيّة[17].

 

وقال ابن وهب: كنت عند مالك قاعداً أسأله، فجمعت كتبي لأقوم. قال مالك: أين تريد؟ قال: قلت: أبادر إلى الصلاة. قال: ليس هذا الذي أنت فيه دون ما تذهب إليه، إذا صحَّ فيه النيَّة[18].

 

وقال الزهري: ما عُبِد اللهُ بمثل الفقه[19].

 

وقال مُطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير: حظٌّ من علمٍ أحبُّ إليَّ من حظٍّ من عبادة[20].

 

وقال الشافعي: طلبُ العلم أفضل من صلاة النافلة([21]).

 

وقد نُقل عن أبي حنيفة مثل ما نُقل عن الشافعي ومالك وسفيان من تفضيل العلم على سائر النوافل([22]).

 

هؤلاء هم أئمة الفقه وأصحاب المذاهب المتبوعة.

 

وبهذا يتَّضح أنَّ المفاضلة بين العلم والعبادة لا تعني المفاضلة بين العلم المفروض والعبادة المفروضة، ولا بين نفل العلم وفرض العبادة، ولا العكس، فإنه لا مفاضلة بين فريضتين لازمتين.

 

فلا يجوز أن يشغل شيءٌ عن العبادة المفروضة كالصلاة، والمحافظة عليها وأدائها في وقتها، ولو كان هو طلب العلم.

 

ولا يُتصوَّر من ذي علم أن يُجيز لنفسه أو غيره الاشتغال بالعلم عن أداء الفرائض المكتوبة.

 

ولهذا لما نقل المُحقِّق ابن القيم حديث عائشة: «فضل العلم خير من نفل العمل»[23]، قال: وهذا الكلام هو فصل الخطاب في المسألة، فإنه إذا كان كل من العلم والعمل فرضاً فلا بد منهما كالصوم والصلاة، فإذا كانا فضلين – وهما النفلان المتطوَّع بهما – ففضل العلم ونفله خيرٌ من فضل العبادة ونفلها، لأن العلم يعم نفعه صاحبه والناس معه، والعبادة يختص نفسها لصاحبها، ولأن العلم تبقى فائدته، ولما مرَّ من الوجوه السابقة([24]). 

 

من كتاب : " الرسول والعلم" .

 

 

[1] - رواه ابن أبي شيبة في زهد الصحابة (35574)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (114)، عن أبي بكر رضي الله عنه.

 

([2]) رأينا من الناس من يصوم الاثنين والخميس تطوعاً، ثم يفرط في واجبه نحو عمله اليومي الذي يتقاضى عليه أجراً، بحجة تعبه من الصيام، أو يقصر في واجبه نحو أسرته أو المجتمع من حوله.

 

ورأينا من يحج أو يعتمر كل عام، ومع هذا يماطل في قضاء ديونه، أو يجور على عمّاله وموظفيه، أو يتعامل مع المصارف بالربا ... الخ، وهذا كله في الأغلب نتيجة لقلة الفقه في الدين.

 

([3]) رواه الترمذي في العلم (2685) وقال: حسن صحيح غريب، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4213)، عن أبي أمامة رضي الله عنه.

 

([4]) رواه البزار (2969)، والطبراني في الأوسط (3960)، وقال الترمذي في علله الكبير (633): سألت محمدا عن هذا الحديث فلم يعد هذا الحديث محفوظا، ولم يعرف هذا عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (103)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (68). 

 

[5] - سبق تخريجه صـ .

 

([6]) رواه مسلم في الوصية (1631)، وأحمد (8844)، والترمذي في الأحكام (1376)، والنسائي في الوصايا (3651)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

 

([7]) رواه ابن ماجه في المقدمة (242)، وابن خزيمة في الزكاة (2490)، وحسن إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (123)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (198)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

 

([8]) رواه الخطيب شرف أصحاب الحديث صـ 99- 100.

 

[9] - رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (284).

 

([10]) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (1/79).

 

[11] - رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (94).

 

[12] - مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/118).

 

[13] - رواه البيهقي في المدخل إلى السنن (458)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (107).

 

[14] - رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (109).

 

[15] - رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (2/341).

 

[16] - المصدر السابق (6/363).

 

[17] - رواه ابن الجعد (1914).

 

[18] - شرح السنة للبغوي (1/279).

 

[19] - رواه معمر في جامعه (20479).

 

[20] - المصدر السابق (20468).

 

([21])  انظر: مسند الشافعي (1/18) بترتيب السندي.

 

([22]) أنظر: «مفتاح دار السعادة» لابن القيم، (1/119) .

 

[23] - رواه ابن عدي في الكامل (14892) في ترجمة : مُحمد بن عَبد الملك الأنصاري، مع عدة أحاديث وقال: وهذه الأحاديث عن الزُّهْري، عن عروة، عن عائشة، بهذا الإسناد مناكير، كلها.

 

قلت : روى عن عدد من الصحابة منهم: حذيفة ابن اليمان، رواه البزار (2969)، والطبراني في الأوسط (3960)، وحسن إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (103)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (478) : رواه الطبراني في الأوسط والبزار، وفيه عبد الله بن عبد القدوس، وثقه البخاري وابن حبان، وضعفه ابن معين وجماعة، وقال الألباني في الترغيب والترهيب (68) : صحيح لغيره.

 

([24]) مفتاح دار السعادة (1/120).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين