معركة الأنفاس الأخيرة

"لا نقيلُ ولا نستقيل"

عظيمةٌ هي الكلماتُ التي قالها ذلك الشَّيخ الكبير لرسول الله - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - وقد أخبره بحادثة الوحي الأولى فقال: 

(هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -: "أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ"؟ قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ). متَّفقٌ عليه.

إنَّها خلاصةُ الهمَّة العالية والعزيمة المتَّقدة، وقد تأمَّلتُ طويلاً في قوله: "ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ". 

لقد تفوَّه ورقةُ بهذه الكلمات التي دوَّنها التَّاريخ وتناقلها الجيل تلو الجيل ثمَّ رحل مودِّعاً هذه الدُّنيا الفانية، ومن يدري لعلَّه الآن يقطفُ ثمارها ويستنشقُ عبيرها.

تعلَّمنا من تاريخ الرِّسالات أنَّ نجاحها وتألُّقها يعتمد على قوَّة صبر أبنائها وتحمُّلهم، وطول نفس أتباعها وجلدهم.

وكم من دعوةٍ أجهضها نزقُ النِّهايات وفتورُ الأنفاس الأخيرة، وكم من زرعٍ خانته لحظات القطاف.

أراقب أحياناً بعض مسابقات الجري الطَّويل فأرى أنَّهم يتمايزون فيما بينهم في الأمتار الأخيرة، وأشعر أنَّ الفائز من امتلك الإرادة وأسعفه التَّصميم حتَّى نهاية السِّباق.

والعجيبُ أنَّ هذه المهارة التي أتقنها أهل الدُّنيا ضيَّعها كثيرٌ من خُطَّاب الآخرة.

إنَّ الإسلام دينٌ عظيمٌ أوصلته إلينا نفوسٌ عظيمةٌ، وحملته أيدٍ طاهرةٌ، وقُدِّمَت لأجله أموالٌ سخيَّةٌ ودماءٌ زكيَّةٌ، وكان عنوانُ هذا العطاء المستمر: "بيعٌ رابحٌ لا نقيل ولا نستقيل".

وإذا كنَّا على يقينٍ بأنَّ فلاح العبد بخواتيم حياته فينبغي أن نكون على يقينٍ أيضاً بأنَّ نجاح الأعمال العظيمة والأفكار الرَّائعة بخواتيمها أيضاً. 

تأمَّلوا معي هذه الآية: (وذا النُّونِ إذ ذهبَ مغاضباً فظنَّ أن لن نقدرَ عليه فنادى في الظُّلماتِ أن لا إله إلَّا أنتَ سبحانكَ إنِّي كنتُ من الظَّالمين) (الأنبياء: 87).

سبحان الله ... إنَّها عقوبةٌ تأديبيَّةٌ تنزلُ بنبيٍّ كريمٍ، وتقضي بالإقامة الجبريَّة في بطن حوتٍ عظيمٍ، فنتساءل ما سببها يا تُرى؟!

إنَّه الانسحابُ من ميدان الدَّعوة، واستبطاءُ النَّصر، والتَّلكُّؤ عن السَّير قبل بلوغ خطِّ التَّمكين، ويونسُ عليه الصَّلاة والسَّلام في الحقيقة لم يألُ جهداً ولم يدَّخر وسيلةً مع قومه، وغايةُ ما في الأمر أنَّه ظنَّ أن ليس بالإمكان أفضل ممَّا كان.

ولكنَّ الدَّرس المستفاد يقول: أمانةٌ حَمَلتموها باختياركم فلن تضعوها إلَّا بإذنِ الله.

وقد فهم نبيُّنا - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - الدَّرس جيَّداً، فكانت بداية الطَّريق: (اقْرَأ ... قُم ... فَاصْدَعْ)، ثمَّ مروراً بوصيَّة الله تعالى: (واعبُدْ ربَّكَ حتَّى يأتيَكَ اليقين) (الحجر: 99). حتَّى الوصول إلى منزلة: (أمَّتي أمَّتي) حياةٌ جادَّةٌ لا تعرف الملل ولا الكلل، وبوسعنا أن نُبصر حبيبَنا وهو في هذا الطَّريق لا تأخذه في الله لومةُ لائمٍ ولا عداوةُ عدوٍّ ولا مكيدةُ كائدٍ حتَّى أتاه اليقين.

قال الحسنُ البصريُّ - رحمه الله تعالى -: "لم يجعل اللهُ للعبد أجلاً في العمل الصَّالح دون الموت".

من المؤسف حقَّاً أن نسمع بعض المسلمين يتلفَّظون في تعليل تقاعسهم عن واجب علميٍّ أو دعويٍّ أو حركيٍّ بعباراتٍ تفوح منها رائحةُ السَّلبيَّةِ كقولهم: "كَبُر سنُّنا ورقَّ عظمنا وآن لنا أن نرتاح"، "فاتنا قطار الإنجاز وسنعوِّض الخسران بأولادنا" ولستُ أدري من أعطى هؤلاء ضماناً أنَّ أولادهم سيُعمَّرون بعدهم، أو أنَّهم لن يقولوا للأحفاد مثلَ ما قال الأجداد، فينتقل الخَوَر من جيلٍ إلى جيلٍ، وتتوارثُ الأمَّة ضعفَ الهمَّة خلفاً عن سلف.

لقد أضاع المسلمون نصراً كان بأيديهم، وقدَّموا سبعين شهيداً جميلاً بسبب فتور اللحظات الأخيرة: (ولقد صدقكمُ اللهُ وعدهُ إذ تحسُّونهم بإذنه حتَّى إذا فشلتمْ وتنازعتمْ في الأمرِ وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبُّون) (آل عمران: 152). 

من سير الصَّحابة الكرام أنَّ أبا طلحة الأنصاري رضي الله تعالى عنه قرأ سورة براءة، أي التَّوبة، فلمَّا وصل إلى هذه الآية: (انفِروا خفافاً وثقالاً) (التَّوبة: 41). قال: أرى ربَّنا عزَّ وجلَّ يستنفرنا شيوخاً وشباباً، جهِّزوني أَيْ بَنَيَّ، فقال بنوه: يا أبانا، يرحمك الله، لقد غزوتَ مع رسول الله - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - حتَّى مات، وغزوتَ مع أبي بكرٍ حتَّى مات، وغزوتَ مع عمر حتَّى مات، فنحن نغزو عنك الآن، فأبى، فجهَّزوه، فركب البحر، فمات في البحر، فلم يجد أصحابُه له جزيرةً يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيَّام، ولم يتغيَّر، فدفنوه فيها.

يقول الإمامُ الشَّافعيُّ: "طلبُ الرَّاحة في الدُّنيا لا يصلحُ لأهل المروءات، فإنَّ أحدهم لم يزلْ تعباً في كلِّ زمان". 

وقيل للإمام أحمد: "متى يجدُ العبدُ طعم الرَّاحة؟ فقال: عند أوَّل قدمٍ يضعها في الجنَّة".

- نداءٌ إلى كلِّ طالب علمٍ: (لا تتقاعس) وليكنْ شعارُك: "طلبُ العلم من المهد إلى اللحد، ومع المحبرة إلى المقبرة".

- نداءٌ إلى كلِّ مجاهـدٍ: (لا تستسلم) وليكنْ شعارُك: (إنَّ اللهَ اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهُمُ الجنَّة) (التَّوبة: 111). 

- نداءٌ إلى كلِّ فاعل خيرٍ: (لا تتوانى) وليكنْ شعارُك: "إنْ قامَتِ السَّاعَةُ وفي يَدِ أحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فإن اسْتَطَاعَ أنْ لا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَها فلَيَغْرِسْها" أحمد.

- نداءٌ إلى كلِّ شعبٍ ثار في وجه جلَّاده: (لا تتراجع) وليكنْ شعارُك: (يا أيُّها الذين آمنوا اصبِرُوا وصابِرُوا ورابطوا واتَّقوا اللهَ لعلَّكم تُفلحون) (آل عمران: 200).

- نداءٌ إلى أهل سوريَّا: ثورتُكم ليست مجرَّد ثورةٍ بل مشروعَ نهضةٍ متكاملةٍ، فلا تستغربوا إذا وقف العالمُ ضدَّكم. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين