من لوازم النجاح للعمل الإسلامي ( 9 ).


وضع المناسب في المكان المناسب




من أيسر قواعد الإنتاج في العمل ونجاحه، أن يقوم بالعمل من يتقنه، ومتخصص فيه، ويجيد فنه، ويفهم قواعد التعامل معه، ومن أكبر المصائب، أن يتصدر امرؤ لعمل لا يفهم فيه، ولا يجيد التعاطي معه، وليس داخلاً في مجال تخصصه الدقيق، أو المساند، لأن العبرة بالمعرفة والإتقان، لذا قال من قال: "إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع".

من ها نؤكد جملة من المعاني:

1- المسؤولية أو الوظيفة أمانة ثقيلة، سيسأل عنها المرء، في هذه الدنيا من جهات الاختصاص، فيحاسب ويعاقب، كمن تطبب وليس بالطب عالماً، فهذا يعاقب بحسب نواتج فعله وآثاره، وسيكون السؤال الأكبر يوم القيامة، يوم لقاء الله تعالى، وهناك لا ينفع الندم، إذا كان هناك خلل في العمل والتصدر له من غير قدرة؛ (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ {24}‏) (الصافات)، (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ {88} إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ {89}) (الشعراء).

2- من علامات الساعة أن يوسد الأمر لغير أهله، وهذه كارثة ومصيبة؛ كما قال نبينا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، كما في صحيح البخاري، وشرحه ابن حجر، حدثنا محمد بن سنان حدثنا فليح بن سليمان حدثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة"، قال كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: "إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة"؛ قوله باب رفع الأمانة هي ضد الخيانة، والمراد برفعها إذهابها بحيث يكون الأمين معدوماً أو شبه المعدوم، وذكر فيه ثلاثة أحاديث الحديث الأول قوله: حدثنا محمد بن سنان بكسر المهملة ونونين وقد تقدم في أول كتاب العلم بهذا الإسناد مقروناً برواية محمد بن فليح عن أبيه وساقه هناك على لفظه وفيه قصة الأعرابي الذي سأل عن قيام الساعة قوله: إذا ضيعت الأمانة هذا جواب الأعرابي الذي سأل عن قيام الساعة وهو القائل كيف إضاعتها؟

قوله: إذا أسند قال الكرماني أجاب عن كيفية الإضاعة بما يدل على الزمان لأنه يتضمن الجواب؛ لأنه يلزم منه بيان أن كيفيتها هي الإسناد المذكور، وقد تقدم هناك بلفظ "وسد" مع شرحه والمراد من "الأمر" جنس الأمور التي تتعلق بالدين كالخلافة والإمارة والقضاء والإفتاء وغير ذلك، وقوله: "إلى غير أهله" قال الكرماني: أتى بكلمة "إلى" بدل اللام ليدل على تضمين معنى الإسناد.

قوله: "فانتظر الساعة"؛ الفاء للتفريع أو جواب شرط محذوف؛ أي إذا كان الأمر كذلك فانتظر قال ابن بطال (ص: 342): معنى "أسند الأمر إلى غير أهله" أن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده وفرض عليهم النصيحة لهم فينبغي لهم تولية أهل الدين فإذا قلدوا غير أهل الدين فقد ضيعوا الأمانة التي قلدهم الله تعالى إياها.

3- ليس عيباً أن يكون المرء، غير مجيد لعمل، وليس مسخراً له، ولكن المصيبة أن يتصدر للعمل، وليس قادراً عليه، أو متخصصاً به، جاء في الحديث الصحيح؛ عن ابن حجيرة الأكبر عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: "يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها".

الاختيار لأي عمل أو منصب أو جهاز، ينبغي أن يكون ضمن معايير الجودة، ومقاييس القدرة، على الإنتاج في العمل، وإلاً فهي خيانة كبيرة، لله ولرسوله ولجماعة المسلمين، كأن يكون تقديم هذا الشخص لقرابة أو قرب سياسي، أو شللي أو محوري، أو غير ذلك من الأمراض الخطيرة، يقول الشيخ ابن تيمية، في كتابه السياسة الشرعية: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وتسلم مفاتيح الكعبة من بني شيبة طلبها منه العباس، ليجمع له بين سقاية الحاج، وسدانة البيت، فأنزل الله هذه الآية، بدفع مفاتيح الكعبة إلى بني شيبة

فيجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين، أصلح من يجده لذلك العمل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من ولي من أمر المسلمين شيئاً، فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله"، وفي رواية : "من قلد رجلاً عملاً على عصابة، وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين" (رواه الحاكم في صحيحه، وروى بعضهم أنه من قول عمر لابن عمر روي ذلك عنه).

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين، وهذا واجب عليه فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات، من نوابه على الأمصار، من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان، والقضاة، ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر والصغار والكبار، وولاة الأموال من الوزراء والكتاب والشادين والسعاة على الخراج والصدقات، وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين.

وعلى كل واحد من هؤلاء، أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده، وينتهي ذلك إلى أئمة الصلاة والمؤذنين، والمقرئين، والمعلمين، وأمير الحاج، والبرد، والعيون الذين هم القصاد، وخزان الأموال، وحراس الحصون، والحدادين الذين هم البوابون على الحصون والمدائن، ونقباء العساكر الكبار والصغار، وعرفاء القبائل والأسواق، ورؤساء القرى الذين هم الدهاقون.

فيجب على كل من ولي شيئاً من أمر المسلمين، من هؤلاء وغيرهم، أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع، أصلح من يقدر عليه، ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية، أو يسبق في الطلب.

بل ذلك سبب المنع، فإن في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن قوماً دخلوا عليه فسألوه الولاية، فقال: "إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه".

وقال لعبد الرحمن بن سمرة: "يا عبدالرحمن، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليه" (أخرجاه في الصحيحين).

وقال صلى الله عليه وسلم: "من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه، أنزل الله إليه ملكاً يسدده" (رواه أهل السنن).

فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما، أو ولاء عتاقة أو صداقة، أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس، كالعربية والفارسية والتركية والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نهي عنه في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ {27}) (الأنفال).

4- ومن القواعد العقلية المتفق على صحتها أن فاقد الشيء لا يعطيه، ورحم الله من عرف قدر نفسه، فالذي لا يملك شيئاً، فهو عاجز عن منحه لغيره.

5- ومن النواتج الخطيرة، في وضع الإنسان، في غير مكانه المناسب، ما يأتي:

- تسرب الكفاءات، لعدم الإفادة منها، نتيجة للإهمال، وتقديم غير المناسب للعمل.

- ضعف الثقة، وتخلخل الصف، واهتزازه.

- نشوب الخلاف، وانتشار الأمراض القاتلة، والأوبئة الفتاكة، مثل سوء الظن، والنجوى، والغيبة والنميمة، وصناعة الجيوب، وربما أدى مثل هذا إلى العثرات الكبرى، والتساقط على الطريق.

- تضييع الوقت.

- هدر المال.

- سوء استغلال الطاقات، وعدم تفعيلها.

- وملاك كل ذلك، خفض الإنتاج، وفشل العمل، أو ضعف الأداء.

وأبناء الحركة الإسلامية، والذين نذروا أنفسهم للعمل الإسلامي، يجب أن يكونوا أولى بهذه الحقيقة، والتزام قواعدها وقوانينها، ذلك أنهم يعملون في مساحات خطرة ودقيقة، والفشل فيها، يؤدي إلى كوارث على الفرد والمجتمع والدولة والأمة، فالأمر جد خطير، وشأنه عظيم، وأمره كبير، وخطبه جسيم، ونتائجه مروعة، وإفرازاته لا تحمد عقباها.

وعلى كل من له مكنة ومكانة، وكلمة ورأي، في هذا الشأن أن يتقي الله عز وجل، ويمضي على قواعد الرشد، وتعاليم النجاة، حتى تصل القافلة بأمان، وترسو سفينة الدعوة إلى بر النجاة بسلام.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين