وثيقة المدينة المنورة - وثيقة السلام في مجتمع متعدد الثقافات والأديان

أ. علي بولاج | كاتب وباحث تركي.

هذا كتاب من محمد النبي [رسول الله]، بين المؤمنين والمسلمين من قريش و[أهل] يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، 2.أنهم أمّة واحدة مِن دون الناس. 3.المهاجرون من قريش على رَبعتهم يتعاقلون بينهم وهم يَفدُون عانِيَهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 4.وبنو عَوف على رَبعتهم يتعاقلون معاقلَهم الأولى، وكل طائفة تَفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 5.وبنو الحارث [بن الخزرَج] على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 6.وبنو ساعِدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تَفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 7.وبنو جُشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 8.وبنو النّجّار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 9.وبنو عَمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 10.وبنو النَّبِيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 11.وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 12.وأنّ المؤمنين لا يتركون مُفرَحا (أي مثقلا بالدَّين وكثرة العيال) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. 12/ب.وأنْ لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه. 13.وأن المؤمنين المتقين [أيديهم] على [كل] مَن بغى منهم، أو ابتغى دَسيعةَ (كبيرة) ظلمٍ، أو إثمًا، أو عدوانًا، أو فسادًا بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولدَ أحدهم. 14.ولا يَقْتُل مؤمنٌ مؤمنًا في كافر ولا ينصر كافرًا على مؤمن. 15.وأنّ ذمّة الله واحدة يجبر عليهم أدناهم، وأنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس. 16.وأنّه مَن تبعنا من يهود فإنّ له النصرَ والأسوةَ غير مظلومين ولا مُتناصرين عليهم. 17.وأنّ سِلم المؤمنين واحدةٌ، لا يُسالِم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم. 18.وأنّ كل غازية غَزَت معنا يعقب بعضها بعضًا. 19.وأن المؤمنين يُبِيء بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله. 20.وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدًى وأقومه، 20/ب.وأنّه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن. 21.وأنّه مَن اعتَبط مؤمنًا قتلا عن بيّنة فإنه قَوَدٌ به إلا أن يرضى ولي المقتول [بالعقل]، وأن المؤمنين عليه كافّةً ولا يحلُّ لهم إلا قيام عليه. 22.وأنّه لا يحل لمؤمن أقرَّ بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن يَنصر مُحدِثًا (مجرما) ولا يُؤوِيه، وأن من نصره أو آواه فإنّ عليه لعنةَ الله وغضبَه يوم القيامة، ولا يُؤخذ منه صرف ولا عدل. 23.وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإنّ مردَّه إلى الله [عز و جل]وإلى محمد [ صلى الله عليه وسلم ]. 24.وأنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا مُحاربين. 25.وأنّ يهود بني عوف أُمّة مع المؤمنين، لليهود دِينهم وللمسلمين دِينهم، مَواليهم وأنفسهم إلا من ظلَم وأثم، فإنه لا يُوتِغ (أي لا يهلك) إلا نفسه وأهل بيتِه. 26.وأنّ ليهود بني النّجّار مثل ما ليهود بني عوف. 27.وأنّ ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. 28.وأنّ ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. 29.وأنّ ليهود بني جُشَم مثل ما ليهود بني عوف. 30.وأنّ ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. 31.وأنّ ليهود بني ثَعلَبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا مَن ظلم وأَثم فإنّه لا يُوتِغ إلا نفسَه وأهلَ بيته. 32.وأنّ جَفْنَةَ بطنٌ مِن ثعلبة كأنفسهم. 33.وأنّ لبني الشُّطَيبَة مثل ما ليهود بني عوف، وأنّ البرَّ دون الإثم. 34.وأنّ موالي ثعلبة كأنفسهم. 35.وأن بطانة يهود كأنفسهم. 36.وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد [ صلى الله عليه وسلم ]. 36/ب.وأنّه لا يَنحَجِز على ثأرِ جُرحٍ، وأنه مَن فَتَك فبنفسه فتك وأهل بيته إلا من ظَلم، وأنّ الله على أبَرِّ هذا. 37.وأنّ على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأنّ بينهم النصر على مَن حاربَ أهل هذه الصحيفة، وأنّ بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم. 37/ب.وأنه لم يأثم امرؤٌ بحليفه، وأنّ النصر للمظلوم. 38.وأنّ اليهود يُنفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. 39.وأنّ يَثرب حرامٌ جوفُها لأهل هذه الصحيفة. 40.وأنّ الجار كالنفس غير مضارٍّ ولا آثِم. 41.وأنّه لا تُجار حرمةٌ إلا بإذن أهلها. 42.وأنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة مِن حَدث أو اشتجار يُخاف فسادُه، فإنّ مَرَدَّه إلى الله [عز و جل] وإلى محمد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبَرِّه. 43.وأنّه لا تُجار قريش ولا مَن نَصَرها. 44.وأنّ بينهم النصر على مَن دهم يثرب. 45.وإذا دُعوا إلى صلح يُصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دَعوا إلى مثل ذلك، فإنه لهم على المؤمنين إلا مَن حاربَ في الدِّين. 45/ب.على كل أناس حِصَّتهم مِن جانبهم الذي قِبَلهم. 46.وأنّ يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البِرّ المحض مِن أهل هذه الصحيفة، وأنّ البِرّ دون الإثم لا يَكسِب كاسب إلا على نفسه، وأنّ الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبَرِّه. 47.وأنه لا يحول هذا الكتابُ دون ظالمٍ أو آثم، وأنه مَن خرجَ آمِنٌ ومن قعد آمِنٌ بالمدينة، إلا مَن ظلم وأثم، وأنّ الله جارٌ لمن بَرَّ واتّقى ومحمد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ].
(المصدر: السيرة النبوية لابن هشام، 2/150-151.)
لا نبالغ إن قلنا إن «الحوار» أصبح سمة عهدنا الحالي. الحوار يعني قيام المجموعات المختلفة للجماعات الإنسانية التي تعيش معاً بحوار فيما بينها محاولين بذلك فهْم أحدهم للآخر والاعتراف به واستخراج الأسس المشتركة الموجودة بينهم على قدر الإمكان والتي تشكّل أرضية قانونية تساعدهم على العيش معاً بأمن وسلام.
ومن زاوية النظرة القرآنية فإن البشر خُلقوا بخصائص غنية ومختلفة، وإن من الخطأ اتخاذ هذا الاختلاف سبباً للصراع وللخصام؛ فمثل هذا الخطأ سيؤدِّي إلى الإخلال بالأمن وبالسلام، ويُلحق ضرراً كبيراً بالإنسانية، وينسف جميع جسور التفاهم. بينما الصواب هو عدّ كل هذه الاختلافات كزهور فوّاحة تملك كل زهرة منها جمالاً وعطراً خاصّاً بها تشكل حديقة إنسانية مباركة.
هناك طريقان لتعايش الناس معاً؛ أحدهما استعمال القوة والبطش، والثاني قيام الأناس الأحرار بالوصول إلى التفاهم فيما بينهم وإرساء هذا التفاهم بعقد قانوني معيَّن، وتعيين أسلوب التصرف والتعامل وحقوق كل إنسان ومسؤولياته. ولم توضع الدساتير والقوانين والعهود والمواثيق الإنسانية إلاّ لتأمين هذا الأمر. ولا شك أنه لولا وجود متونِ ونصوص المعاهدات والمواثيق لَما تحقق أي سلام اجتماعي ولا أي وحدة سياسية. ولكن المهم هنا أن هذه المعاهدات يجب أن تسجل بإرادة إنسانية حُرة وبرِضَا الأطراف ودون أي إكراه.
والمواضيع المطروحة حاليّاً أمام الديمقراطية مهما تباينت وِجْهات نظرنا مدحًا أو ذمًّا، وكذلك المقاييس التي يتخذها ويتّبعها أيُّ نظام سياسي هي لتأمين قيام كل مجموعة من المجموعات الاجتماعية المختلفة باستعمال إرادتها بكل حرية لتؤثّر على مراكز اتخاذ القرارات ومعرفة مدى استعمال المؤسسات المدنيّة لحقوقها في التعبير.
ويمكن القول بأن الإسلام يملك في هذا الموضوع تراثاً غنيّاً. فقد قام التاريخ الإسلامي والتجربة التاريخية للإسلام بشكل عام على قبول الخصوصيات المتنوعة لكافة المجموعات المختلفة دينية كانت أم قومية أم ثقافية أم لغوية. وقد وَجدت أديان ومذاهب وثقافات عديدة وأقوام عديدون إمكانيةَ العيش بأمان في ظل الإسلام.
وإن وثيقة المدينة مثال واضح وجيد طبّق في الواقع العملي فعلاً وأنموذج للعيش معاً بسلام. فلنطالع وثيقة المدينة ونتفحصها من هذه الزاوية.
القيمة التاريخية للوثيقة
كان المستشرق الألماني «ولهاوسن- Wellhausen» أول من عرّف هذه الوثيقة وقدمها للأوساط العلمية في العصر الحديث. وندين إلى الأستاذ محمد حمِيد الله رحمه الله وإلى بحوثه الواسعة في اشتهار هذه الوثيقة في العالم الإسلامي، وفي معرفتنا معرفة شاملة بالظروف التاريخية وبالبيئة الاجتماعية عند صدور هذه الوثيقة.
كان أول من سجل هذه الوثيقة هو محمد بن إسحاق (توفي 151 هـ)؛ ويقال بأن ابن سيد الناس وابن كثير قاما بتسجيل هذه الوثيقة ودَرْجها في كتبهما؛ كما قام البيهقي بإدراج الفقرات «1-23» الخاصة بتنظيم العلاقة بين المهاجرين والأنصار وبيان سنَدها. وذكر ابن هشام (توفي 213 هـ) هذه الوثيقة في كتابه «السيرة النبوية» بصورة أكثر تفصيلاً من ابن إسحاق. وترِد الوثيقة أيضاً بكاملها في كتاب «الأموال» لأبي عبَيد، وفي كتاب «الأموال» لحميد بن زنجويه (توفي 247 هـ).
وتشير كتب الحديث إلى أن الفقرات «1-23» التي تتناول العلاقات فيما بين المسلمين كتبت في بيت أنس بن مالك رضي الله عنه ؛ أما الفقرات «24-47» التي تنظم علاقات المسلمين مع المشركين واليهود فكتبت في بيت بنت الحارث. علماً بأننا -إن أهملنا أسماء القبائل والأماكن- نجد أن جميع الأسس القانونية لهذه الوثيقة وجميع الأحكام والمبادئ الواردة فيها موجودة في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
والأرجح أن هذه الوثيقة كتبت ووقع عليها في العام الأول للهجرة (622 م)، وقد قام «ولهاوسن» بتجزئة المتن الأصلي الذي أورده ابن هشام وأبو عبَيد إلى 47 فقرة، ثم قام حمِيد الله بتجزئة بعض هذه الفقرات فيما بينها فبلغ هذا الرقم إلى 52 فقرة.
البيئة الاجتماعية
إن الدعوة الإسلامية التي بدأ بها نبيّنا صلى الله عليه وسلم في مكة عام 610م لم تجلب إلى الإسلام إلا نفَراً معدودين. وعندما زاد عددهم بمضي الوقت جُوبهوا بعراقيل ومضايقات عديدة. وبعد مضيّ 13 سنة في مكة بقي عدد المؤمنين محدوداً، فلم يبق أمام الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلا الخروج من مكة إلى مكان آخر يجدون فيه الحرية والأمن، لذا اضطروا إلى الهجرة إلى الحبشة مرتَين في بادئ الأمر ثم إلى المدينة.
كانت مكة من أهم مراكز السياسة والتجارة في شبه الجزيرة العربية. ومما كان يزيد من أهميتها وجود الكعبة فيها -وكانت من أهم المراكز الدينية منذ السابق- ووجود أكبر القبائل العربية وأعرقها فيها. ونظراً لخصائصها هذه، فقد نُظمت مكة تنظيماً جيداً من الناحية السياسية والإدارية. وبجانب مركزيتها السياسية والبيروقراطية كانت تبدو -بسبب وجود القبائل الحرة فيها- في مظهر حكم كونْفدرالي، إلا أن المدينة -مدينة الهجرة- كانت تفتقر إلى مثل هذه الوحدة السياسية. لأنه بينما كانت قبيلتا قريش في مكة وثقيف في الطائف تُحققان الوحدة السياسية، إلا أن هذه الوحدة السياسية لم تكن متحقّقة في المدينة لوجود نزاع مستمر وحروب بين القبائل الموجودة فيها كقبيلتَي الأوس والخزرج العربيتَين والقبائل اليهودية (قبائل بني قَينقاع وبني النضير وبني قرَيظة). ويقول «ولهاوسن» إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نجَح في إرساء وحدة سياسية عجيبة في ذلك الجو المضطرب في المدينة بين هذه القبائل التي كانت في حاجة ماسّة إلى وحدة سياسية. وكانت هذه الوحدة السياسية أمراً جديداً وغريباً لم يألَفه العرب. وتيقن الباحثون بأن الفروق بين مكة والمدينة من ناحية البيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ساعدت على تجذر المسلمين في المدينة وعلى قيام وحدة سياسية جديدة هناك.
كان غياب وجود سلطة سياسية مركزية في المدينة ينعكس حتى على الحياة الاجتماعية وعلى ساحة الدفاع أيضاً. فعدم وجود دفاع مشترك في المدينة أدى إلى قيام كل قبيلة ببناء سور دفاعي قويّ لها. ويذكر ابن النجّار وجود 13 سوراً للعرَب. كانت هذه الأسوار بمثابة «غِيتُو» يفصل كل قبيلة أو مجموعة من القبائل عن القبائل الأخرى. وكانت مصاريف الدفاع المشترك -وهو أمر خاص باليهود- تُدفع من قبل صندوق شعبي. أما القبائل العربية فقد أسّست ما يشبه صندوق الضمان الاجتماعي لدفع مبالغ الديات. ومع أن اليهود كانوا يملكون التوراة إلا أنه لم يكن هناك قانون مكتوب ينظّم العلاقات بين الأفراد وبين القبائل. وكانت الخلافات والمنازعات تُحَلّ في الغالب حسَب الأعراف السائدة ومن قِبل حكام. ولكن نظراً لعدم وجود قوانين واضحة فإن الأطراف القوية لم تكن تأبه لقرارات هؤلاء الحكام مما كان يعني دوام الظلم وضياع الحقوق.
كانت نسبة من يقرأون ويكتبون في المدينة نسبة ضئيلة، وكان اليهود يتكلمون العربية، ويكتبون العربية بالحروف العِبرية. وكانوا يؤدون عباداتهم ويعلّمون أبناءهم في «بيت المِدْراس» أو «المدارس». بينما كان العرب محرومين حتى من هذه الفرصة الضئيلة. ونظراً لأنهم كانوا لا يملكون كتاباً (أي كانوا أمّيين) كانوا يشعرون بالضآلة والنقص أمام اليهود.
لم تكن المجموعتان العرقيتان (أي العرب واليهود) مجموعتين متجانستين. والشيء الذي يجلب الانتباه أنه بينما كانت هناك معارك بين العرب واليهود، كانت هناك معارك بين القبائل العربية ومعارك بين القبائل اليهودية كذلك. فحسَب المعلومات التي أوردها ابن هشام فإن القسم الأكبر من قبيلة بني قَينُقاع اليهودية كانوا حلفاء لقبيلة الخَزرَج العربية. وكان القسم الأكبر من قبيلتي بني النضِير وبني قرَيظة حلفاء لقبيلة بني أوس العربية. ولكن المعارك الكبيرة كانت تجري بين قبيلتَي الأوس والخزرج. ويذكر المؤرخون أن حرب «بُعاث» الطاحنة بين الأوس والخزرج استمرت 120 عاماً.
والحقيقة أن هذه الحروب الضروس بين هاتين القبيلتين -اللّتَين كانتا تنحدران من قبيلة واحدة هي قبيلة بني قَيل- دفعت المدينة وما حواليها إلى الفوضى والاضطراب، وأخلّت بالأمن وأثارت نوعاً من اليأس والقنوط. وقبل أيام من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فكّر أهل المدينة في تنصيب عبد الله بن أُبيّ ملكاً عليهم لكي يتم تأسيس سلطة مركزية تضع حدّاً لهذه الصدامات والنـزاعات.
ونظراً لكون أهل المدينة على اتصال وثيق مع بِيزنطة ومع فارس فقد رأَوا أن النظام الملكي يمكن أن يؤسس النظام ويُنهي الفوضى. ولكن سجايا عبد الله بن أبيّ كانت ضعيفة، فقد كان شخصاً ضيق الأفق حريصاً على مصالحه، وكانت الخلافات العميقة التي تعصف بالمدينة تتجاوز طاقته كثيراً. وقد سهّل غيابُ السلطة السياسية المركزية في المدينة قدومَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها. فحسَب رأي السيدة عائشة رضي الله عنها فإن الجو المضطرب للمدينة ساعد على تقوية مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة.
الأطراف الموقعة على هذه الوثيقة
كان من أوائل ما عمله الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وصوله إلى المدينة هو إيواء المهاجرين الجدد الذين قدموا إلى المدينة، واتخاذ التدابير اللازمة لتأمين الحاجات المعيشية الضرورية لهم ولعوائلهم. لذا قام بتأسيس علاقات التعاون الاجتماعية والاقتصادية بين مسلمي المدينة «الأنصار» ومسلمي مكة «المهاجرين»، وأطلق اسم «المؤاخاة» على هذه العلاقة. وقد اشترك في عملية المؤاخاة هذه 45 أنصارياً و 45 مهاجراً، أي بلغ المجموع 90 شخصاً. وتشير المصادر التاريخية إلى أنه لم يبق هناك مهاجر لم يشترك في هذه المؤاخاة.
بعد هـذه التطورات التي حدثت بعد الهجرة ظهرت ثلاثة قطاعات اجتماعية في المدينة: المسـلمون، اليهود، والعرب المشركون. كان المسلمون يتألفون من المهاجرين المكّيّين ومن أهل المدينة من الأنصار من قبيلتَي الأوس والخزرج. كانت مثل هذه البنية الاجتماعية شيئاً غريباً في شبه الجزيرة العربية وغير معروف في حياة العرب وتقاليدهم. لأن التقاليد القبلية العربية كانت قائمة على رابطة الدم والقرابة، بينما اجتمع في المدينة أناس من أديان ومن عناصر وقوميات وأماكن جغرافية مختلفة مشكّلين قطاعاً اجتماعياً مختلفاً. والدليل على هذا أن المادة الثانية من وثيقة المدينة كانت تشير إلى جماعة سياسية قائمة على أساس الدين، وهي أمة واحدة دون سائر الناس.
ولا حاجة بنا إلى ذكر أن المدينة لم تكن مؤلَّفة من المسلمين فقط، فقد كان فيها اليهود الذين استقروا فيها منذ زمن بعيد، وكان هنالك العرب الذين لم يدخلوا في الإسلام. لذا كان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم مهمة عاجلة هي التأليف بين هذه القطاعات الاجتماعية وتأمين عَيشها معاً دون مشاكل.
حل المعضلة
بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم -لحل المعضلة- بفحص البنية الاجتماعية والدينية والسكانية للمدينة أولاً. فقام بإحصاء سكّاني في المدينة، وهو أمر كان غريباً تماماً بالنسبة للتقاليد والأعراف التي كانت سائدة آنذاك. وقد تبين نتيجة الإحصاء أن عدد سكّان المدينة يبلغ 10 آلاف شخص، منهم 1500 مسلم و 4000 يهودي و 4500 من المشركين العرب.
ثم خطا رسولنا صلى الله عليه وسلم خطوة ثانية فقام بترسيم الحدود للمدينة المنورة ووضع علامات في زوايا الجهات الأربع لها، وهكذا عَيَّنَ حدود «دولة المدينة». وحسب المادة 39 من الوثيقة فإن المنطقة المحصورة في ضمن هذه الحدود والواقعة في داخل وادي يثرب (الجوف) أصبحت منطقة الحرم.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحاول من جهةٍ إسكان المهاجرين وتأمين تكيّفهم مع بيئتهم الجديدة، ويحاول من جهة أخرى طَمأَنة اليهود والمشركين العرب، وكان يقول لهم بأن غايته هي تأمين جوّ آمن لمنتسبي الدين الجديد. والحقيقة أن المسلمين قد تبنَّوا مضمون الوحي الذي نزل أثناء وجودهم في مكة، والذي كان يقول ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرون: 6). ولكن قريشًا رفضت هذا المشروع المتضمن للسماح بتعدد الأديان، وحاولت منع الرسول صلى الله عليه وسلم عن القيام بتبليغ دينه، واختارت فتنة الراغبين في الدخول إلى الإسلام عن دينهم بالضغوط وفنون التعذيب.
ومع أنه لا يصح سَوق الفرَضيات، إلاّ أنه يمكن القول بأن مشركي مكة لو سمحوا للمسلمين بحرية الرأي والعقيدة وبممارسة دينهم وبالحرية في التبليع، لما تمت الهجرة ولظلّ المسلمون يعيشون مع غيرهم في مكة. إذ لم يكن للرسول صلى الله عليه وسلم طوال العهد المكي سوى طلبَين: أحدهما حرية القيام بتبليغ الدين، والآخر حرية ممارسة مبادئ الدين في جو آمن دون أي مضايقات. وهاتان الحريتان المطلوبتان هما من مطالب البشر في الماضي والحاضر والمستقبل إلى يوم القيامة.
فلم تكن هناك حاجة في المدينة لكي يغير الرسول صلى الله عليه وسلم إستراتيجيته التي كان يتّبعها في مكة؛ فإن حياته في المدينة كانت شرحاً وإيضاحاً واستمرارًا من الناحية الاجتماعية والحقوقية والمؤسساتية للوحي الذي نزل عليه في مكة. أي تنفيذ مشروع اجتماعي جماعي مستند على أساس من الحرية حيث تستطيع الجماعات التي تملك حكماً ذاتياً أن تعيش معاً في مجتمع عام، أو أن تضع نظاما سياسيا ييسر للجميع العيش معاً بسلام. لا شك أن التبليغ (أي الدعوة إلى الدين الجديد) كان سيستمر ولكن بشرط عدم إكراه أي شخص على اعتناق دين معين، وكذلك رفع جميع العوائق أمام من يرغب في تبديل دينه.
وعقب الوصول إلى المدينة عقد مجلس كبير ضم الأنصار ونقباء المهاجرين حيث تم فيه في الأرجح مداولة الأحكام والأسس القانونية لعملية التآخي التي ذكرناها سابقاً. وقد تم تعيين المواد 1-23 من هذه الوثيقة وتدوينها في هذا الاجتماع، أي تم تسجيل شكل العلاقات الاجتماعية والقانونية للجماعة الإسلامية وتثبيتها في مواد قانونية مكتوبة.
بعد ذلك قام الرسول صلى الله عليه وسلم بمشاورات عديدة، ليس مع رؤساء قبائل المسلمين فحسب بل أيضاً مع زعماء وممثلي الجماعات الأخرى من غير المسلمين. كان الاجتماع الأول مع المسلمين في بيت أنس بن مالك رضي الله عنه ثم مع زعماء المسلمين واليهود في بيت بنت الحارث حيث تم التفاهم على المبادئ الأساسية لـ«دولة المدينة» الجديدة. وفي رأي العالم المحقق محمد حمِيد الله فإن هذا «الدستور الجديد للدولة» كان من زاوية عقدًا اجتماعيًا بين الجماعات المنضوية تحت مظلة هذه الدولة الجديدة، وهذا الدستور هو وثيقة المدينة الموجودة بين أيدينا حالياً.
لا شك أن كِلا الاجتماعَين جريا في جو من الحوار الحُر، فقد طرَح ممثلو الجماعات المختلفة طلباتهم وأَولوياتهم، واستمعوا إلى آراء الآخرين وتحادثوا فيما بينهم وحددوا النقاط الأساسية والإطار المشترك ثم سُجِّلَ مَتن هذا الإطار.
أحكام الوثيقة
يرى الأستاذ محمد حميد الله بأنه إلى جانب كون هذه الوثيقة دستور الدولة الإسلامية الأولى، فإنها كانت في الوقت نفسه أول دستور مكتوب في العالم آنذاك. ويتّضح من المعلومات الواصلة إلينا عن طريق أنس رضي الله عنه وعن طريق آخرين بأن هذه الوثيقة ظهرت كإجماع واتفاق جميع الأطراف عليها في نهاية هذه المحادثات، وهذا هو الصحيح؛ لأنه لم يكن من الممكن قيام الرسول صلى الله عليه وسلم الذي اضطر إلى الهجرة من مكة ليلاً وبشكل سرّي بإجبار الآخرين على كتابة وثيقةٍ تلبّي رغباته فقط، علماً بأن أتباعه لم يكونوا يتجاوزون 15% من سكان المدينة؛ أي إن إرغام الأطراف الأخرى -التي كانت أنذاك أكثر عدداً وعُدّة من أتباعه- على قبول الوثيقة كان مستحيلاً.
ومن العوامل الأخرى التي أدّت إلى قبول هذه الوثيقة الجماعية في ختام المباحثات التي أجراها النبي صلى الله عليه وسلم مع الأطراف الأخرى والتي استندت إلى أخذ إجماع كل الأطراف، هو إيقاف الفوضى وغياب الأمن الذي تردى فيه أهل المدينة بعد 120 عاماً من القتال والبغضاء، ولم تستطع المدينة أن تصل بنفسها إلى حلٍّ واستقرار وسلام اجتماعي وسياسي مع القوى الاجتماعية فيها. فكأنها كانت تنتظر منقذاً لها. وبينما كانت هذه المدينة تتقَهقَر باستمرار إلى الوراء اقتصاديّاً بسبب الحروب المستمرة، كانت هناك في الأفق نذر حرب جديدة. وفي هذا الوقت الحرِج ظهَر شخص أَجنبي عنها أشار إلى طرُق إمكانية العيش معاً بأمن مع كافة المجموعات الموجودة الأخرى، ودعا الجميع إلى الارتباط بالأسس القانونية التي تعطي لكل ذي حقّ حقَّه.
والنقطة المهمة الثانية هي قبول كل طرفٍ وجودَ الأطراف الأخرى كظاهرة وعدم القيام بأي ضغط عليها، وقبولها كما هي، وكما تقوم بتعريف نفسها، واحترام حق الحياة لها، واحترام أفكارها، في ظل القانون وتحت حمايته.
ويجب ألاّ ننسى أن اليهود -الذين كانوا طرفاً في هذه الوثيقة- لم يكونوا يُعدون «ذمّيّين» ولم يكونوا إذن يعطون الجزية لأي حكم أو سلطة أو دولة خارجهم. لأن آية الجزية نزلت في السنة التاسعة من الهجرة، وهذا يبيّن بأن الأطراف المشاركة في الوثيقة لم تكن تُعطي الجزية حتى تلك السنة، أي لم تكن تُعَدُّ من الذميين.
 
بجانب هذا، فقد اشترك العرب المشركون في هذه الوثيقة باعتبارهم -حسب العادات والأعراف العربية- من «الـمَوَالِي». فحسب هذه الأعراف إن دخلت قبيلة أو عشيرة أو جماعة في معاهدة فإن حلفاءها السابقين (أي مَوالِيها) يكونون طرفاً غير مباشر في تلك المعاهدة. ونحن نعلم من سورة «براءة» أن المشركين العرب بقوا مدة طويلة يعيشون في المدينة. وكانت سورة «براءة» إنذاراً بقطع جميع العلاقات السياسية وإنذاراً بالحرب. ومع ذلك فإن المشركين العرب المعاهَدين كانوا مُستَثنَين من الحرب لا يمسهم أحد بسوء ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة: 4).
 
المبادئ الأساسية في الوثيقة
المبدأ الأول: يجب على كل مشروع مثالي يريد تحقيق الحق والعدل واحترام القانون والحقوق ويهدف إلى تحقيق السلام والاستقرار بين الناس أن يظهر بين الجماعات المختلفة (من الناحية الدينية أو السياسية أو الفلسفية...الخ) على أساس من معاهدة وعقد. ويجب حضور جميع الأطراف الاجتماعية أو مَن يمثّلونها في أثناء تهيئة ووضع هذه المعاهدة أو العقد، وأن يتم هذا في جوّ من الحرية والحوار والمباحثة والمذاكرة بين هذه الأطراف.
ونظراً لكون هذه الأطراف جماعات غير متجانسة كان من الضروري أن تكون كل مادة من مواد الوثيقة تحمل طابع المشاركة وطابع الالتقاء بين هذه الأطراف، وأن تُسجَّل نتيجة التصويت عليها. وكل مادة متَّفَق عليها تشكل حكماً من أحكام الوثيقة، وكل مادة تكون موضع خلاف بين الأطراف تُترك لهذه الأطراف. فالفقرات المُجمَع عليها تدخل في ساحة المعاهدة، والفقرات المختلف عليها تدخل في مجال الحرية الذاتية (أو الحكم الذاتي). وهذا دليل على الاختلاف الثريّ الموجود ضمن الوحدة، أي هو «الجماعية» الصحيحة.
المبدأ الثاني: وهو اختيار مبدأ «المشاركة» بدلاً من مبدأ «التحكّم»، لأنه في ظل الحكم السياسي الدكتاتوري لا يتم قبول التنوع والاختلاف، بينما نرى أن وثيقة المدينة تذكر أسماء القبائل المسلمة وأسماء القبائل اليهودية قبيلة تلو قبيلة، كما تشير إلى المشركين في مادة أخرى (المادة: 20/ب). وكلمة «المولى» الواردة في الوثيقة تشير إلى القبائل والعشائر والمجموعات التي دخلت في عهد أو اتفاق مع إحدى القبائل دون وجود أي قرابةِ دم معها. وهذا يعني أن كل طرف من الأطراف الاجتماعية التي وقّعت على هذه الوثيقة كان يمثل أيضاً القبائل والمجموعات المرتبطة بها، وكان يعطي نفس الحقوق والمسؤوليات لها. إلا أن المادة رقم «20/ب» كانت تشير إلى أحكام خاصة بالنسبة للمشركين العرب، وكانت هذه الأحكام تؤيَّد بالمادة رقم «43» كذلك. وكانت الغاية من هذه الأحكام منع مشركي المدينة من أي تعاون مع مشركي مكة سياسياً كان أم عسكرياً. هذا علماً بأن مشركي المدينة لم يكونوا يحملون أيّ رغبة في التعاون مع مشركي مكة، لأنهم كانوا يخافون من أن يجلب هذا التعاون مشاكل لهم. ولكنهم كانوا يرغبون في التمتع داخل دولة المدينة (الموضَّحة في المادة: رقم 39) بكل الحقوق والحريات مع الآخرين. وقد قامت الوثيقة بتأمين وضمان هذه الحقوق والحريات لهم أيضاً وعلى أساس من القانون. ونحن نعلم بأن مشركي المدينة -وهم طرف في وثيقة المدينة- استمروا في العيش في المدينة حتى بعد معركتَي بدر وأُحد اللتَين جرَتا مع مشركي مكة، ولم يحدث أيّ مشاكل بينهم وبين المسلمين.
ونستنتج مما تقدم أن كل مجموعة دينية وعرقية كانت تملك حرية ثقافية وحقوقية؛ أي إن موقف كل طـرف من ناحية الدين وتشريع القوانين المتعلقة بالمجتمع والمحاكمة والثقافة والتجارة والفن والعبادة وتنظيم الحياة اليومية...الخ، مواقف هذه المجموعات والطوائف المختلفة ستبقى كما هي وكما ترغب وتستطيع التعبير عن نفسها في هذه الساحات بحرّية من خلال المقاييس القانونية والثقافية. والمادة التي كانت تَضمن هذه الحقوق هي المادة رقم «25».
أما المادة رقم «42» فتذكر بأنه في حالة ظهور أي خلاف يخشى من عواقبه يتم الرجوع فيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم . والظاهر من الآيات القرآنية ومن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ومن مصادر السيرة النبوية فإن هذه المادة قد اقتُرحتْ من قبل اليهود والمشركين. لأن الوضع الفوضوي في المدينة كان قد هز الثقة والاطمئنان بين القبائل. لذا فقد اتفق جميع الأطراف على رفع المشاكل التي لا يستطيعون حلَّها إلى مرجع أعلى يقوم بحلّها. وكان هذا المرجع هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان مرجعاً محايداً أتى من خارج المدينة. وكان القرآن الكريم يذكر له أن بِوُسعه النظر في دعاوى القوم إن أراد ذلك ويعطيه هذه الصلاحية ﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ (المائدة: 42). وعلى إثر هذه الآية كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخيّر مَن يراجعه منهم وكان يسألهم ما إذا كانوا يريدون أن يحكم بينهم بالقرآن أم بالتوراة؛ أي إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في موضع «الحَكَم» وليس في موضع «الحاكِم». ويجب أن نضيف هنا أن النظر في قضايا غير المسلمين أو إعطاء حق حل مشاكلهم ودعاويهم -لا سيما الدعاوى المدَنية منها- في محاكمهم وضمن قوانينهم أصبح منذ ذلك اليوم حقّاً من حقوق الذميين، واستمر هذا الأمر حتى نهاية الدولة العثمانية.
أما المادة «23» فكانت تشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحاكم المطلق في الأمور الدينية للمسلمين، ولكنه يستشير الآخرين في المسائل الإدارية. وكان هذا أمراً طبيعيّاً، لأن المسلمين كانوا قد بايعوه ورضوا بالارتباط به والانقياد له منذ البداية. وهو أمر مناسب لأسس الدين الإسلامي الذي لا يفرق بين العبادة والحقوق. وهذه المادة -كمَبدَأ أساسيٍّ- تؤكّد أن الدين الإسلامي يُلزم المسلمين فقط.
والذين يتّهمون الإسلام ويَصِمونه بالدكتاتورية لا يعرفون هذه الحقيقة تمام المعرفة. لأن الناس إن كانوا أحراراً في اختيار دينهم ولهم مثل هذا الحق فإن هذا يؤدي -ويعني أيضاً- أن الأشكال المختلفة للحياة الاجتماعية والقوانين المرتبطة بها يجب أن تكون متلائمة مع الدين ومع الأفكار الدينية. وفي هذا الوضع فإن الدين الإسلامي والقوانين الإسلامية تلزم المسلمين فقط، ولا تَشمل الآخرين، ولا يُطلب من غير المسلمين التصرف حسب هذه القوانين. وهذا شرط -وكذلك ضمان- لحرية الدين والوجدان وحرية التعبير والسماح للآخرين بالعيش حسب أديانهم. وقد حقق الرسول صلى الله عليه وسلم هذين الشرطَين قبل 1400 سنة وتم تسجيلهما في إطار القوانين والحقوق، بينما لم يتحقق هذا حتى الآن في عصرنا الحالي.
كانت هذه الوثيقة عالمية وموضوعية وفَوق الطوائف الاجتماعية، أي لم يكن بوسع المسلمين واليهود والمشركين الخروج خارج نطاقها العام.
كان هذا وحده انقلاباً وثورة كبيرة. ففي هذه البنية القانونية الجديدة التي لا تتم فيها حماية المجرم من أي طائفة أو جماعة تتجلى العدالة وتسود الطمأنينة وتظهر وتُصبح مسؤولية اجتماعية مشتركة بين جميع الأطراف (المادة: 12 و 13 و 21). ويعني هذا أن الجرائم والعقوبات أصبحت فردية، وانمحى مفهوم الجرائم والعقوبات الجماعية. ولكن قيام قبيلة الجاني بدفع دية المقتول لم يكن يُخلّ في ظروف وجو ذلك العهد بهذا الأساس القانوني. كما كانت الفقرة «12/ب» تسمح للأشخاص بالقيام -خارج هذه الوثيقة- بعقد اتفاقات أخرى مع موالي الأشخاص الآخرين.
إن الناحية التي تهمنا في هذه الوثيقة أنها وثيقة مكتوبة في عام 622م، نتيجةَ مباحثات ومشاورات بين قطاعات دينية واجتماعية مختلفة، وأنها وضعت للتطبيق العملي.
هذا ويمكنا أن نستخرج كليات أساسية من أحكام هذه الوثيقة إن قمنا بعملية تجريد وتعميم لها، ومن ثم يمكن لهذه الكليات الأساسية أن تكون مصدر إلهام في حل كثير من المشاكل اليوم. وهناك العديد من الأحاديث والآيات والعديد من التجارب الذاتية والمحلية في تاريخ المسلمين، وكذلك العديد من أحكام الشريعة الإسلامية التي تؤيد المشروع الكبير الذي استهدفته هذه الوثيقة. وإن التجارب التي حفَل بها التاريخ الإسلامي في هذا الموضوع كانت انعكاساً لروح هذه الوثيقة بخطوطها العامة وشرحاً وتطبيقاً لها. إننا ونحن نعيش في هذا العصر مشاكل عدّة مثل النـزاع العربي الإسرائيلي والنـزاعات الإقليمية ودعوى صراع الحضارات والعمليات الإرهابية نرى أننا في حاجة ماسّة إلى مشاريع تتخذ من التعاقد والحوار والمباحثات أساساً لها، أي نحتاج إلى مشاريع تؤمن بالتعددية وتسعى له.
_______________
المصادر
(1) صحيح البخاري.
(2) السيرة النبوية لابن هشام.
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد.
(4) الوثائق السياسية لمحمد حميد الله

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين