البيت النبوي.. أسعد البيوت وأكملها

يعدُّ البيتُ النبوي أسعد بيوت الدنيا وأكملها، أسّسه صلوات الله وسلامه عليه ليكون أنموذجًا لكل زوج مسلم؛ في كيفية إدخال السرور على أهله، والبرِّ بهم، والتوسعة عليهم، فلم يترك فرصة لأحد ليدّعي عجزه عن تهيئة بيته لتسوده السكينة وتعمّهُ المودة والرحمة.

إن اختيار الزوج لشريكه من منبت طيب وعلى أساسٍ من الدين والأمانة والكفاءة يضمن زيجة ناجحة، قائمة على تقوى الله وطاعته، أما إن كان الاختيار على أُسس مادية، فلن يسلم البيت من المشكلات، خصوصًا إذا صاحب ذلك صفات مرذولة في أحد الزوجين كالجهل والكبر.

وهناك فرق كبير بين بيت يُذكر الله فيه وآخر لا يُذكر فيه، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل البيت الذي يُذكر اللهُ فيه، والبيت الذي لا يُذكر فيه مثل الحي والميت» (رواه مسلم)، كما أن هناك فرقًا بين زوج مؤمن، يحب أهله ويعطف عليهم، ويعاملهم من منطلق دينه وخُلقه، وآخر لا أمان له، يتعامل بالمصلحة، إذا أعطى ينتظر المقابل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن كمثل النحلة، تقع فلا تكسر، وتأكل فلا تفسد، ولا تضع إلا طيبًا» (رواه ابن حبان).

ومن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته أنه:

كان يحبهن ويتطيب لهن ويداعبهن: يقول صلى الله عليه وسلم: «حُبّب إليَّ من دنياكم: النساء، والطيب، وجُعلت قرة عيني في الصلاة» (رواه النسائي)، وتقول عائشة رضي الله عنها: «كنت أغتسل أنا ورسول الله فيبادرني حتى أقول: دع لي دع لي» (رواه مسلم).

كان يحتمل ثورتهن وغضبهنّ: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ضجت عليَّ امرأتي فراجعتني، فأنكرتُ أن تراجعني، قالت: ولِمَ تنكر أن أراجعك؟! فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل. (رواه البخاري).

كان يواسيهنّ ويقدِّر مشاعرهنّ: كانت صفية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان ذلك يومها، فأبطأت في المسير، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي وتقول: «حملتَني على بعير بطيء»، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيها بيديه ويسكتها. (رواه النسائي)، وكان يستقبلهن في معتكفه، وكان يأبى إجابة دعوة لطعام حتى تصحبه زوجته.

لم يضرب زوجة له أبدًا: قالت عائشة: «ما ضرب رسول الله امرأة له قط» (رواه النسائي).

كان لا يستحيي من إعلان حبه لإحداهن: يقول صلى الله عليه وسلم عن خديجة: «إني رُزقت حبها» (رواه مسلم)، ويقول عن عائشة: «إن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» (رواه مسلم)، وسأله عمرو بن العاص رضي الله عنه: أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة»، فقال: من الرجال؟ قال: «أبوها» (رواه البخاري).

كان صلى الله عليه وسلم يساعد في أعباء المنزل، ويرفّه عنهن ويسامرهن، ويتغاضى عن أخطائهنّ، وكان يثق بهن ولا ينشر خصوصياتهن، ويقدِّر محاسنهن، ولا تتغير مشاعره نحوهن رغم تغيّر أحوالهن، وكان وفيًّا لهنّ في حياتهنّ وبعد مماتهنّ، يرفع اللقمة إلى فم إحداهن، ويشيع الدفء بينهنّ، ويتواضع لهنّ، ويعاملهنّ بالرحمة والرفق، ويمهلهن حتى يتزينّ ويصلحنّ شأنهنّ، ولم يكن يعيب طعامًا قط، وكان صلى الله عليه وسلم مع أهل بيته، والناس جميعًا: مبشرًا لا منفرًا، ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، وكان حليمًا، عفوًّا، صابرًا، وكان أبعد الناس غضبًا وأسرعهم رضا، وكان جوادًا كريمًا، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وكان أشد الناس حياءً، وأعدلهم، وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة، وكان أوفـى الناس بالعهــود، وأوصلهم للرحمة، وكان أحسن الناس عشرة، وأبعدهم من سوء الأخلاق، ولم يكن  فاحشًا ولا متفحشًا، ولا لعانًا، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح.

أما زوجاته فكنّ خير الزوجات ومنائر السعادة، وهاك أخلاقهن مع النبي صلى الله عليه وسلم:

تحملنَ معه تبعات الدعوة ومشاقّ الرسالة: فها هي خديجة، تعيش سني حياتها معه قلقة، مثل سائر أصحاب الدعوات، ففي كل يوم هناك خَطْبٌ، والسهام مسلّطة إلى الزوج ودعوته وصحابته، فضلًا عما أصابهم من تجويع وحصار، فما فتَّ ذلك في عضدها، بل كانت على قدر المسؤولية، دخل عليها وهو يرجف، فقال: «زملوني»، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة: «أي خديجة، ما لي؟ لقد خشيتُ على نفسي»، فأخبرها الخبر، فقالت: كلّا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، ثم انطلقت به حتى أتت ورقة بن نوفل، وهو ابن عمها.

عشنَ معه عيشة الكفاف وصبرن على شظف العيش: لما سألنه صلى الله عليه وسلم النفقة، اعتزلهن شهرًا أو تسعًا وعشرين يومًا، ثم نزلت عليه هذه الآية: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) (الأحزاب: 28)، فخيرهنّ بين التسريح أو البقاء معه على ما يكابده من فقر ومشقة، وبدأ بعائشة فقال: «يا عائشة، إني أريد أن أعرض عليك أمرًا أحب ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك»، قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية، قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟! بل أختار الله ورسوله، ثم فعل أزواجُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلما فعلت. (رواه مسلم).

كنّ عابدات طائعات ذاكرات باذلات: حفظن سر رسول الله، وبقين من بعده أمهات للمؤمنين، لا يحل لهن الزواج والمتعة.

كن له سكنًا ومحبّات تبارين في إرضائه وخدمته: عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فجاء أبو بكر، ورسول الله واضعٌ رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبستِ رسول الله والناس ليسوا على ماء، وجعل يطعنني في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله على فخذي. (متفق عليه).

حملن العلم وخدمن الدعوة ولازمنه في كل أحواله يثبتنه ويمنحنه الثقة ويقدمن له المشورة: فكانت السيدة خديجة هي أول من آمن به من النساء، وكانت تخفف عنه ما يلقاه من أذى المشركين، وكانت تدعمه وتدعم دعوته بمالها وجهدها، وكانت عائشة ذات علم وفقه، وكانت بيوته من بعده منارات علم يؤوي إليها صحابته الكرام لاستشارة أمهات المؤمنين فيما غمض عليهم من أمور الدين.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين