الصيام بين الالتزام وتحقيق مصلحة الأنام

الصيام أيام معدودة , يوصلك إلى مقام التقوى بأيام محدودة , وهو دورة تدريبية تسمو بأخلاقك إن صحّ صيامك بقفزة نوعيّة , وهو مدرسة متكاملة , يهتم به الأفراد إضافة إلى الجهات الرسمية ,وفوق كل ذلك هو ركن وفريضة شرعية , فوائده على الفرد عظيمة ,وثمراته على المجتمع جسيمة , ورمضان غنيمة وأي غنيمة ,

بَيْدَ أن  الخلاف في مطلع كل صيام يتجدد , والأقوال في ذلك تتبدد , ولا نجتمع على موقف محدد ,ابتداءً بثبوت الشهر مروراً بصيام النهار الطويل  وانتهاء بزكاة الفطر. وحتى لا نغرق في الخلاف الذي يصل - عند من لا يستوعب الخلاف - إلى درجة الاتهام,  وحتى نتجاوز الخلاف إلى سماحة الإسلام  ومرونة الأحكام      أردت - مستعيناً بالله - تسجيل بعض النقاط

1 يجب أن يقرّ المسلم أن الخلاف الفقهي الذي له حظ من النظر عند أهل العلم معتبر , والخلاف المقبول له أسباب كثيرة ليس الآن محل ذكر تفاصيلها , ولكنه يتراوح بين العزيمة والرخصة.

2 للمرء أن يبحث عن الدليل الأقوى , ولكن يختلف العلماء في ثبوت الدليل أوفي فهمه ,أو في إنزاله على الواقع ,وحسم الخلاف ليس أمراً سهلاً .

3 الذي لا يعرف إلا العزيمة في تطبيق الشرع يوقع الناس بالحرج (وما جعل عليكم في الدين من حرج )بل و يتهم أصحاب الرخص والتيسير بالتهاون والتقصير والذي لا يعرف معنى المجاهدة والسباق في الخيرات يتهم أصحاب الهمم بالتشدد والتنفير

4 فرائض الدين ثابتة لا تراجع عنها لكنها مرنة في التطبيق, و من باب أولى السنن والنوافل فأي عبادة تصل لدرجة المشقة والحرج   تُخفّف أو تُؤجل وربما تسقط وذلك وفق شروط و ضوابط يعرفها أهل العلم .

5 من يختار الأيسر من فتاوى العلماء ليس بالضرورة أن يكون متّبعاً للهوى ومن اختار الأصعب منها له ذلك ولكن لا يلزم غيره ,وسأذكر بعض أقوال أهل العلم باختصار شديد متجنباً  ذكر الأسماء , لما نراه من فرط الحساسية عند البعض من الأسماء , والتعصب للانتماء .

 

أولاً : ثبوت شهر رمضان:

أ يقول بعض العلماء الأصل في ثبوت الشهر  الرؤية بالعين  مباشرة , ولا يُتكلف بغير ذلك والأمر جدّ بسيط  نصوم ونفطر للرؤية ونقضي  ما فاتنا وكل ذلك على السنّة .

ب وبعض أهل العلم  يعتبر الرؤية تحصل بجهاز(التلسكوب) مثل النظارات على العين  لا تغيّر من الواقع  شيئاً إلا أنها توضح أكثر.

ج وبعضهم يأخذ بالرؤية مستأنسا بالحساب الفلكي ,أو يأخذ بالحساب الفلكي ويستأنس بالرؤية .

د وبعضهم يأخذ بالحساب الفلكي فقط  لبلوغه الدرجة العالية في الدقة حتى أنهم يعرفون في أي لحظة يولد الهلال .

هـ ــ و يمكن الجمع بين الرؤية و الحساب حتى لا يتكرر صيام 28 يوم فقط   سنة 1404 هـ  1984 م  فإذا ثبت دخول الشهر بالحساب نصوم احتياطاً و لو لم نرَ الهلال فقد يكون هناك موانع من الرؤية , و الحساب الدقيق يؤكد دخول الشهر فما هو المانع أن نصوم , فأيهما يسبق و يتحقق نأخذ به , بينما في نهاية الشهر لا نفطر إلا عن يقين .

والأصل أن يجتمع أهل البلد الواحد  على رأي واحد , وإن اختلفوا فهذا يأخذ بالتقوى وذاك يأخذ بالفتوى ,التقوى ثابتة , و الفتوى تتغير و تُقدَّر زماناً و مكاناً و شخصاً ، والفتوى من أهل العلم الثقات تقوى , و قد يختلف الناس على العلماء الثقات لما نراه - للأسف - من تفرق على كل المستويات الفردية و الجماعية و الرسمية, ويمكن وضع ضوابط تضيق خلافاتنا على الثقات علَّنا نجتمع على مفاهيم تردم هوَّة الخلاف , من هذه الضوابط :

- أن تكون فتوى العالم مشفوعة بالأدلة الشرعية و العقلية و الواقعية

- أن تكون الفتوى بعيدة عن مظنة الهوى و المصلحة الشخصية

- أن تكون غير مسيَّسة

- من أخذ بفتوى عالم يثق به ولا تثق به أنت دعه فهو مسؤول عن قراره وعمله أمام الله

- نغض النظر عن العالم كونه صغيراً أو كبيراً , معروف أو غير معروف فهذه أمور لا تتعلق بذات الفتوى فكم من تلميذ فاق أستاذه , و من لا تعرفه يعرفه غيرك المهم أن نتجنب الجدال  ولا داعي للاتهام ورمي السهام ,

وكل يأخذ ما يطمئن إليه عقله وقلبه , وديننا العظيم يسع الجميع والمهم التفاهم والتآلف بين المسلمين  والأهم الإخلاص والقبول.

ثانياً : صيام النهار الطويل : سأذكر فتاوى أهل العلم متدرجة من العزيمة إلى الفتاوى والرخص :

من المعلوم أن النهار في الصيف طويل وكلما اتجهت شمالاً زادت ساعات النهار آخذة من الليل حتى يتداخل الشفق مع الإسفار, والغروب الأخير مع الشروق (يعني شفق الغروب مع الفجر الصادق وفلق الصبح) بحيث لا يرون ظلمة العتمة ,وربما يطول النهار أو الليل إلى شهور,  ومن الطبيعي أن تختلف فتاوى العلماء كل حسب علمه وفهمه واستيعابه وإدراكه للواقع , ومن هذه الفتاوى :

الفتوى الأولى : طالما أن هناك تمييز بين شروق الشمس وغروبها وجب الصوم من الفجر إلى الغروب وإن طال النهار,  فقد صام قوم أكثر من 22 ساعة , والجو في الشمال بارد يساعدهم على  الصيام والله يعينهم ...

الفتوى الثانية :لا يترك الصوم ابتداءً بحجة طول النهار, ولكن يجب أن يبدأ الصيام فإذا شق عليه يفطر ويقضي في وقت الاعتدال

الفتوى الثالثة : في المناطق ذات النهار الطويل جداً ويشق عليهم الصيام يقدرون الوقت على أقرب مدينة يعتدل فيها الليل والنهار , أو تكون على نفس خط الطول وبعضهم حددها بأقرب دولة اسلامية  

الفتوى الرابعة : يصوم سكان المناطق ذات النهار الطويل على توقيت مكة المكرمة وقال ذلك جمهور من أهل العلم وهي فتوى قديمة وليست جديدة

الفتوى الخامسة  : إذا طال النهار بحيث يشق الصيام عليه  يؤجل الصيام إلى الأيام التي يكون طول النهار فيها معتدلاً أو قصيراً. وليس من الضروري أن يبدأ الصيام كما في الفتوى الثانية  لأن الصيام مظنة المشقة , والسفر والمرض مظنة المشقة  , وكذلك الحامل والمرضع والشيخ الكبير لذلك قال الله تعالى: ( فعدة من أيام أخر )

الفتوى السادسة : (فدية) لكل من لم يقدر على الصوم أو يصومه بصعوبة , وذلك بسبب الخلاف على فهم الآية ونسخها ((وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين..)) فمن فهم الآية  أن من يقدر على الصوم له أن يفدي  - وكان هذا أول ما فرض الصوم  - فهي منسوخة   ومن فهم الآية أن من يتكلف الصوم بصعوبة له أن يفدي ويطعم عن كل يوم مسكينا نصف صاع(1) من بر أو صاعا من تمر أو يعطي الفقير ما يعادلها نقودا ليشتري بها طعامه وعلى هذا الفهم والرأي الآية ليست منسوخة

ثم يقول الله تعالى ((وأن تصوموا خير لكم ..)) يعني الصيام مع المسلمين في الشهر المبارك خير من الصيام بعد ذلك وحده.

(( إن كنتم تعلمون)) أن المشقة اليسيرة لا تؤدي إلى ضرر كبير .

وهناك فتاوى أخرى لم أذكرها إما لغرابتها أو لصعوبة تقديرها وتفصيلاتها ,

 ولا يخلو بلد (أو قريب منه )من علماء يرجع لهم في الفتاوى , ومن نعم الله على الناس  هذه الأجهزة التي سهلت الإتصال ,

وكل من كان على فتوى بصيرة من أهل العلم فهو على سنة  وعلى دين

هذه الفتاوى تبدأ بالعزيمة وتنتهي بالرخصة تدريجياً وكل شيخ يعتبر فتواه صحيحة يدين لله بها , ولذلك يفترض أن تكون هذه الفتاوى -إن شاء الله-  جميعها صحيحة, يختار المسلم منها على حسب قدرته وطاقته .

هذا هو دين الإسلام دين الله (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) , وهو الذي يقول  (فاستبقوا الخيرات ), دين عظيم فتح المجال للسباق والمجاهدة وفي نفس الوقت يراعي أحوال الناس واستطاعتهم وإمكاناتهم وأمكنتهم وأزمنتهم فليس هناك حجة لطول اليوم بعد اليوم ,وليس هناك حرج في الرد على من قال (دينكم صعب لا يطبق ) و نعوذ بالله أن نشوه سمعة الدين بفهمنا الخاطئ .

فلا يَتساهل بالفتوى الأدنى من كان عنده قدرة على الفتوى الأعلى .

ولا يكابر في الفتوى الأعلى من كان يصعب عليه الصيام  مالم تكن مجاهدة لا يضر بها نفسه وغيره .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)الصاع : يقدر بـ 2 كيلو و نصف

والميدان مفتوح لسباق أهل الهمم في التحمل والصبر , مؤكدين على رفع الحرج والمشقة حتى لا يكره الناس هذا الدين بفهمنا القاصر  .

وأخيراً ليست المشكلة أن نأخذ برخصة أو عزيمة , ولكن الكارثة أن نحصر أحكام الدين بفهمنا ونقيّد الحكم الشرعي بفتوى عالم واحد من العلماء فقط  ثم نلزم بها غيرنا ونَحمِل الناس عليها وبذلك تحجيم لدين الله العظيم , وتضييق على الناس

ورحم الله الإمام مالك عندما رفض أن يجمع الناس على الموطأ .ومرة كان الصحابة في غزوة في رمضان منهم الصائم ومنهم المفطر ولا يجد الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم , فلقد اتسع صدرهم للخلاف , وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لهم أنتم الذين فقهتم عن الله ورسوله

 

ثالثاُ :  زكاة الفطر فيها كلام كثير ونختصره بما يلي :

1 بعض العلماء يرى إخراجها طعاماً (من غالب قوت أهل البلد )ولا تجزئ نقوداً

2 بعض أهل العلم قال: و لا يَعدلُ إلى النقود إلا لضرورة (والضرورة تقدر بقدرها )

3 بعض أهل العلم يرى التخيير بين الإطعام والنقود

4 بعض أهل العلم يرى أنه لا مانع من إخراج النقود تدفع لوكيل أو جمعية خيرية تعرف الفقراء فتشتري لهم طعاماً

5 وقسم من أهل العلم يرى إخراج النقود في هذه الأيام هو الأَوْلى حتى يشتري الفقير ما يلزمه وتغنيه عن المسألة وخاصة في البلاد التي اعتمد أهلها على  (الأطعمة الجاهزة والوجبات السريعة  من الساندويشات بيتزا وفطائر وبروست و غيره  ) فصار ما في المطاعم  هو غالب قوت أهل البلد ونادراً ما يطبخون في البيوت .ماذا يفعل الفقير لو تكدست عنده الساندويشات ؟ وأهل العلم مجمعون على أنه ليس في الشريعة عبث (فإذا لم يكن عندهم ما يُدَّخر أليس من مصلحة الفقير أن تعطيه مالاً يشتري به وجبة سريعة كلما جاع .

وكل الفتاوى صحيحة إن شاء الله تغطي كل الأوضاع والأحوال والمسلم يختار ما فيه مصلحة الفقير

6 وكذلك الخلاف على وقت إخراجها فالأصل بين صلاتي الفجر والعيد ويجوز تعجيلها قبل الفجر بساعات بل بأيام وخاصة في البلد الكبير, فالتنقل فيه ليس كالقرية الصغيرة .  والله تعالى أعلم

وخلاصة القول : يجب أن نعرف ما يجوز فيه الخلاف وما لا يجوز , و إن استيعاب الخلاف جسر للائتلاف و إذا كان الائتلاف لازم فتجاوز الخلاف ألزم,

و لنقبل بفتاوى العلماء الثقات ونقف صفاً واحداً ضد الأعداء . ولا ننشغل بما أرادوا لنا أن ننشغل به , وليس الفقه أن نحفظ الأحكام فقط ولكن الفقه أن نحل مشكلة - إذا واجهتنا ضمن ضوابط الشرع وسماحة الدين ولنحذر من الكلام على الآخرين وخاصة العلماء الذين يفتون بما لا نقتنع به- حتى ولو أخطؤوا - فنقع في الغيبة الحرام من حيث هم نالوا ولو أجراً واحدا باجتهادهم الذي نراه خاطئاً.

اللهم علّمنا  وفهّمنا  وأعنّا وتقبّل منا ,   والحمد لله رب العالمين

ليس الهدف من المقال حسم الخلاف لصالح رأي أو قول أو اجتهاد و إنما حسم معركة الخلاف , و إزالة أسباب الصراع , و إنهاء الاتهام في الاجتهاد .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين