المحاضن التربوية الداعمة للأسر المسلمة

الإنسان الفرد هو أساس المجتمع وعماده الأول، ومحور هذا الكون، وأهم لبنة في صرحه الشامخ، وبنيانه السامق، فهو مدني واجتماعي بطبعه، يبدأ حياته بمركب مزدوج؛ أبيه وأمه؛ لذا فالأسرة هي المحضن الأول.

وهو كذلك ابن بيئته وأسرته؛ فهي تؤثر في تكوين سلوكه وأفكاره وقيمه وعاداته ودينه وثقافته ولغته، وهي الأرض الخصبة التي يمكن أن نزرع فيها كل معاني الحب والرحمة والفضيلة في نفوس الناشئة.

في ظلال بيت النبوة، نشأ فتى الكهول وشب وترعرع في أحضان أكرم رسول صلى الله عليه وسلم، تعلم العلم من أطهر لسان نطق به خير إنسان، وتعلم القدوة ممن أتاه الله تعالى جوامع البيان، تعلم القدوة ممارسة ومدارسة، وما أوسع الشقة بينهما! وهذه شهادة المعصوم صلى الله عليه وسلم له، فعن عكرمة عن ابن عباس قال: ضمني النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره، وقال: «اللهم علِّمه الحكمة وعلمه الكتاب»(1).

في ظلال بيت النبوة نشأ حبر الأمة فقيه العصر ترجمان القرآن عبدالله بن عباس

حبر الأمة، فقيه العصر، رباني الأمة، ترجمان القرآن عبدالله بن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد قبل عام الهجرة بثلاث سنين، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من ثلاثين شهراً، وعاش واحداً وسبعين عاماً(2).

ولله ما أعقل أباه! لقد دفعه ناحية الريح الطيبة، واختار له محضناً تربوياً داعماً؛ يرأب الصدع، ويقوّم المعوج، وهل في الدنيا أجمل من صحبة رسول الله؟!

درة في جبين التاريخ

هذه الدرة الثمينة هي وصية النبي صلى الله عليه وسلم للأولين والآخرين، همس بها أولاً في هذه الأذن الواعية؛ أذن عبد الله بن عباس؛ لتكون منهج حياة تهدي الحيران، وتروي غلة الظمآن، وهذه الوصية من أهم ثمرات التكوين لهذه الشجرة الطيبة التي نشأت في البيئة النبوية الطاهرة.

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف»، وفي رواية: «وأن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً»(3).

ملازمة المتربي للمربي رغبة في اكتساب الحكمة والفطنة والتزود بوافر الآداب

في الحديث الشريف دروس دعوية وتربوية مهمة، منها:

1- المتأمل في هذا الكلام الذي يقال لهذا الغلام، وربما لا يفهمه بعض أولي الأحلام، وهو في بواكير عمره لم يتجاوز التاسعة أو العاشرة، يجعلنا نتساءل: ما الداعي أن يسمع طفل مثل هذا الكلام؟ إنها التربية وبناء شخصية الطفل على كبير المعاني وضخامة الحدث؛ فيشب وقلبه معلق بمعالي الأمور وجليلها، لا بحقيرها ووضيعها، فمن القواعد التربوية المهمة لدى أرباب الميدان «رب ولدك على كبير المعاني وصحيح المعتقد، ولا تخش من قلة فهمه لها في وقتها»؛ لذا كان اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بإعداد الناشئة من أبناء الأمة في شخص عبد الله بن عباس، ويا لروعة المحضن وعظمة الاهتمام وبراعة الإشراف!

2- ملازمة المتربي للمربي مظنة اكتساب الحكمة والفطنة والتزود بوافر الآداب؛ «كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم»؛ إنها مخالطة في الحل والترحال، فهو من الذين أردفهم النبي صلى الله عليه وسلم خلفه، وإن كانوا كثيرين، ثم انظر إلى اختيار مواطن النصيحة، واختيار المقام والمقال ليكون ذلك أدعى على قدرة الاستيعاب والتحصيل، فهل تجدي النصيحة وقت النوم، مثلاً؟! إنه وقت الدعة والكسل وخمول العقل، وما أروعه من منهج لو طبقناه مع أولادنا!

3- حسن اختيار المربي المتمثل في شخص النبي صلى الله عليه وسلم لمن يقوم على تربيته وإعداده، «يا غلام»؛ يعني أنه صغير لكنه يتمتع بذكاء حاد وذاكرة حافظة وقريحة متقدة وصفاء ذهن، وهذه مؤهلات جعلت منه غلاماً في حكمة الشيوخ، ثم إن مرحلة الطفولة من أهم وأخصب مراحل العمر؛ فعلى الوالدين ضرورة اغتنامها بالنافع المفيد، والبحث عن أولئك الذين يؤتمنون على فلذات أكبادنا فقد يكون تأثيرهم أعمق من تأثير الوالدين دنيا وديناً، وهذا ما ظهر من ملازمة ابن عباس لسيد المرسلين، واستكمل المسيرة بعدها مع عدد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

توفير المحاضن التربوية الداعمة لجهود الأسرة لتكون أجدى نفعاً وأبقى أثراً

4- التدريب على قوة الحفظ وصيانة المسموع من الزيغ والتحريف والنسيان؛ نقصد الأمانة في التحمل والأداء، «إني أعلمك كلمات»؛ وهي مقدمة بليغة لينتبه ويستحضر الذهن ويحفظ ما يقال، فسيأخذ من خير العِبر عبيرها، ومن جِيد الحكم جِيادها.

5- تأصيل مفهوم العقيدة الصحيحة وترسيخ مبادئها ومعانيها في نفوس الناشئة، فالتوحيد أساس الدين وقاعدته وأصله ونصله، أول الأوامر وأعظم القضايا ورأس جميع الأمور، هو نقطة البداية وأعلى مراتب النهاية، ولا بد أن تصدر عن العقيدة أشعتها كما يصدر عن الورد شذاه، فمن حفظ الأوامر وفعلها وعرف النواهي واجتنبها حصل له جواب الطلب، «احفظ الله يحفظك»؛ وهذه تلخص العقيدة الصحيحة.

6- ما اشتملت عليه هذه الوصية من حفظ الله تعالى لأوليائه وأصفيائه في الدنيا والآخرة، والحث على الاستعانة بالله وحسن التوجه إليه واليقين والرضا بما قضى وقدر، فمن كان مع الله كان الله معه، ومن كان الله معه فمعه القوة التي لا تُغلب، والهادي الذي لا يضل، والحارس الذي لا ينام.

نهر العطاء الرباني

نحن أمة القرطاس والقلم والعلم والمعرفة، ونحن أمة «اقرأ» أول مداد الغيث القرآني البديع، والعلم له خزائن كخزائن المال لا تفتح إلا بقدر، بل لا تفتح إلا بتقوى الله تعالى، فهي خير سياج، وهي سلم الوصول إلى كل باب، قال تعالى: (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة: 282).

ومن كتاب الواقع، نرى أنه ربما تشبع التلميذ من أستاذه وارتوى من معين مائه وعذب فراته حتى بلغ مرتبة سنية ومكانة علية، كما حدث لحبر المحاريب صاحب الحكمة والعقل الأريب، عن الحسن قال: «كان ابن عباس من الإسلام بمنزل، وكان من القرآن بمنزل، وكان يقوم على منبرنا هذا فيقرأ البقرة وآل عمران فيفسرهما آية آية، وكان عمر رضي الله عنه إذا ذكره قال: ذلك فتي الكهول، له لسان سؤول وقلب عقول»(4).

وعن مسروق قال: «كنت إذا رأيت ابن عباس قلت: أجمل الناس، فإذا نطق قلت: أفصح الناس، فإذا تحدث قلت: أعلم الناس»(5).

وبعد، فالفضل يرجع للبيئة التي أشرفت على هذا الغصن الندي حتى استوى على سوقه فأثمر علماً وفقهاً وفصاحة وبلاغة شهد له بها الفضلاء من الصحابة رضي الله عنهم، ويبقى الواجب العملي المهم أن نحرص على توفير مثل هذه المحاضن التربوية الداعمة لجهود الأسرة، التي ربما تكون أكثر دعماً وأجدى نفعاً وأبقى أثراً.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين