ثباتكم دعوة

لم يكُن يدورُ في خَلَد أحدٍ أنَّ عمرَ بنَ الخطاب سيدخلُ يومًا في الإسلام، فقد كان من أشَدِّ المناوئين لدعوته، المضطهدين لأتباعه، حتى بلغ به الأمرُ أن يعقِد العزمَ على قتل محمدٍ صلى الله عليه وسلم، لأنه بزعمه فرَّقَ جماعةَ قريش وسفَّه أحلامهم وسبَّ آلهتهم!!

ما الذي حصل له لِينقلبَ مِن المُعاداة إلى الموادعة، وينشرح صدره للإسلام، ثمَّ يُصبح في طليعة الداعينَ إليه المدافعين عنه؟!

لا شكَّ أنَّ لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم الأثرَ الكبير في إسلامه، حيثُ دعا يومًا قائلا: اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ بأحبِّ الرجُلين إليك ...

لكن ما هو السببُ المباشر الذي يمكن أن نعتبره الشعاع الأول الذي اخترق قلبه من نور الإيمان، ومثَّلَ نقطةَ التحوُّل الكبرى في حياته؟!

 

  لنتأمَّل فيما قالت أمُّ عبد الله بنتُ حنتمة رضي الله عنها، وهي تصفُ هذا المشهدَ ببراعة:

 

 "لما كنا نرتحلُ مهاجرين إلى الحبشة، أقبلَ عمرُ حتى وقف عليَّ، وكنا نلقى منه البلاءَ والأذى والغلظة علينا، فقال لي: إنه الانطلاق يا أم عبد الله؟

قلت نعم، والله لنخرجنّ في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا فرجاً.

فقال عمر: صحبكم الله. ورأيت منه رقَّةً لم أرَها قط.

فلما جاء عامر بن ربيعة وكان قد ذهب في بعض حاجته وذكرت له ذلك فقال: كأنكِ قد طمِعتِ في إسلام عمر؟ قلت له: نعم، فقال: إنه لا يسلم حتى يسلم حمارُ الخطاب".

 

السؤال المُهِمُّ هنا، ما الذي حرَّك العاطفةَ وهيَّجَ الرقَّة في قلب عمر فظهرت على وجههه ولسانه؟!

إنه الثباتُ والصبرُ الذي رآه في سلوك المؤمنين بهذا الدين الجديد.

فما الذي يجعلهم يصبرون على كلِّ هذه العذابات، من حصار وإيلام جسدي يصلُ أحيانًا إلى القتل، ثمَّ ها هم اليومَ يُهاجرون من مكةَ تاركين وراءهم كلَّ شيء؛ المال والأهل والوطن والعشيرة، متمسِّكين بدينهم.

أيُّ دينٍ هذا الذي يمنَحُ أتباعه هذه القوَّةَ وذلك الثبات؟!

لا بدَّ أنه الدينُ الحق، وأنَّ أتباعَه ذاقوا حلاوةَ الإيمان وبردَ اليقين، فهانَ عليهم كلُّ شيءٍ في سبيله، وتغلَّبوا على جميع المرارات والآلام لأجله.

 لا بدَّ أنَّ محمدًا الذي آمنوا به واتبعوه هو رسولُ الله حقًّا وصدقًا، فهو القائدُ الذي نالَه ما نال أصحابَه من البلاء سواءً بسواء، وقضيَّتُه رسالةٌ ربانيةٌ حتميةٌ لا مناصَ منها، فهو القائلُ يوما: "لو وَضعوا الشَّمسَ في يَميني والقَمَرَ في يَساري على أن أترُكَ هذا الأمر حتى يُظهِره اللهُ أو أهلك دونه ما تَركتُهُ".

 

   هل ستعجَبُ بعد هذا لِتأثُّر الملايين من غير المسلمين بالإسلام، وتعاطفهم اليوم بشكلٍ غير مسبوقٍ مع قضية فلسطين، وإسلام مئات الآلاف منهم، ودموعُهم تدفَّق على وجناتهم وهم يصفون مشاعرَهم ودهشتهم من حالة السكينة والطمأنينة التي يرونها عَبرَ الشاشات لمَن يُقتلُ أبناؤهم وأزواجُهم، وتُهدَم مساكنُهم فوقَ رؤوسهم، فيخرجون من تحت الأنقاض مضرَّجين بالدماء، مُعفَّرين بالتراب، وهم يرفعون أصابعَهم التي تشيرُ إلى الوحدانية، وألسنتهم تلهجُ لله بالدعاء: اللهم خُذ من دمائنا حتى ترضى.

لله درُّكم أيها الصامدون الثابتون على الهدى، كم أيقظتم من غافل، وكم أحيى الله بكم من مَوات!!

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين