حين سقط المشط

لقد كانت لحظةُ سقوط المِشط لحظةً قدَريةً فارقةً في حياة تلك المرأة المؤمنة التي كانت تعملُ ماشطةً لشعر ابنة أعتى طاغية عرفه التاريخ، فقد نطقت بسم الله على سجيتها، فلم تتراجع عن إشهار إيمانها الذي وقَعَ فلتَةً، وكلَّفتها مواجهةُ الباطل ثمنًا باهضًا من نفسها وخمسةٍ من أبنائها، ألقاهم الظالمُ في الزيت المغلي أمام عينيها.

كانت ضعيفةً في بدنها، فقيرة في مالها وحَسَبها، فهي مجرَّدُ خادمةٍ وَضيعةٍ في بلاط المَلِك، فكيف تجرَّأت على مواجهة ذلك الحاكم الجبار الذي تعلمُ عنه أنه لا يتردَّدُ في قتل مئات الأطفال بإشارةٍ من طرف أصبعه.

 

يسألها مُتَعجِّبًا: ألكِ ربٌّ غيري؟

فتجيبه بثبات وبلا تلَعثُم: ربي وربُّك الله.

ما هذا؟  هل هذا انتحار؟

أينَ الحكمةُ والكياسَةُ؟!!

هل يجوزُ أن تُلقيَ بيدها إلى التهلكة وقد وسِعها ما وسِع غيرَها ممن كانوا يكتمون إيمانهم، مؤثرين السلامة، آخذين بالرخصة!!

ما ذنبُ هؤلاء الأطفال الصغار ليؤاخَذوا بجَريرة أمهم الحماسية الجريئة فيُذابوا بالزيت المَغلي فتُفصَل لحومُهم عن عظامهم؟!

أليسَ هذا تهوّرًا ومغامرَةً في مواجهةٍ غيرِ مُتكافئةٍ ولا محسوبة العواقب؟!

مَن خوَّلَها وأعطاها الحقَّ بأن تُقدِّمَ أبناءها قرابينَ لمُغامراتها!

 

لم يكُن غائبًا عن بال السفَّاح أنَّ الأطفال لم يكونوا - مؤطَّرين آيديولوجيًا - ولا يَحملون فِكرَ أمِّهم، ولم تقع منهم مخالفةٌ تُذكَر، لكنَّه أراد أن يساومَ أمَّهم فيهم، لتَركَع!!

 ومن جهة أخرى، فقد أذلَّت كبرياءَه، وكسَرَت هيبتَه، ولا بدَّ من الانتقام وردِّ الاعتبار، بأن يفجَعها بحرق فلذة كبدها ومهجة فؤادها.

 

لقد أنطقَ اللهُ رضيعَها الذي في المَهد ليحُثَّها على الصبر والاحتساب، وعلى اقتحام عَتَبة العذاب اللحظي لتنعمَ بعدها بالنعيم الأبدي، وليكونَ شاهدًا على صحَّةِ مسلكها وصواب اجتهادها في مواجهة الطاغوت الظالم، وأنَّ لنُصرَةِ الحقِّ كُلفَةً وضريبَةً لا بدَّ من أن تُدفَع.

 

  لم ينته المشهدُ والشهادةُ عند هذا الحَد، بل تعداه إلى أعظم شهودِ الله من أنبيائه على خلقه، ليجدَ ريحَها الطيبَ بعد قرونٍ متطاولةٍ في رحلة المعراج الفريدة، تلك الرائحةُ المُدهشَة التي دفعت النبيَّ الأكرمَ للسؤال عنها، فيُجيبُهُ أمينُ السماء: إنها رائحةُ ماشطة ابنة فرعون.

 

لقد ارتقَت هذه المرأةُ البسيطةُ حينما سقَطَ مشطُها بقدَر الله، فرفعَ قدرَها، وأحيى ذكرَها في ليلةٍ شريفةٍ وعند أشرف خلق الله، ولتبقى قصَّتُها في التضحية والثبات خالدةً ومُلهِمَةً إلى يوم الدين. 

 

لم تكن داعيةً ولا طالبةَ علمٍ، ولم تكُن مقاتلةً تدرَّبت على أنواع مختلفة من آلات الحرب وفنون القتال، بل كانت مجرَّد "كوافيره" لبنت السلطان فحسب، لكنها بلغت أعظم مراتب الشهداء بإيمانها الراسخ بربها ودينها، ويقينها الذي حفَزَها لقول كلمة حقٍّ عندَ أفجر طاغية.

 

إنَّ إخبارَنا بقَصص الماضين وثباتهم يرفع الهمة ويعين على الثبات، ويشير إلى أنَّ أمَّةَ التوحيد أمةٌ واحدةٌ ووَلَّادَة، وأنَّ أمةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم- امتدادٌ لأمة الإسلام التي عليها جميع الأنبياء والمرسلين.

فكم في الأمة اليوم من ماشطة، فعلت فعلها، وثبتت ثباتها، وضحَّت تضحيَتَها، ولعله قد فاح من طيبهنَّ ما يُدهشُ العارجين في عالَم المَلكوت؟!!

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين