رمضانيات مهمة للفرد والأمة

المقدمة

اعتاد الناس على سماع الحِكَم والأحكام , وشرح العلماء لفوائد الصيام والقيام , وما أكثر الكتب والبرامج والدروس في هذه الموضوعات

ولكني أردت التنبيه لمرض عضال دائم   وعلاجه ضروري ولازم

وهو من أبسط ما يكون لو فقهنا معنى (الخلاف الفقهي) واخترنا الأوْلى في كل عصر ,

هذا المرض هو (التشبث باجتهادنا  ومحاسبة الآخرين على اجتهادهم المخالف لنا) ولا ننفي أن هناك أدلة و ترجيح وبحث وتحقيق وهذا شيء

ومحاسبة الناس على فهمهم وإلزامهم بفهمنا شيء آخر

والكلام في الخلاف كالخوض في بحر متلاطم الأمواج ، ولكني أراني مضطرا للخوض فيه علّني أخفف من غلواء الخلاف وسلبياته .

تكلمت في المقال الأول (الصيام بين الالتزام وتحقيق مصلحة الأنام)عن ثبوت شهر رمضان وصيام اليوم الطويل وزكاة الفطر

وها هي أمور أخرى محل خلاف وجدل كذلك ؛ وهي (السواك في الصيام) و(الختمة في رمضان) فأقول مستعينا بالله :

السواك في الصيام

السواك هو عود الأراك أو البشام(1) أو الخُلّة (2) أو ما يقوم مقامه حديثا من فرشاة الأسنان ونحوها

وهذه أيضا من الأمور المختلف عليها أثناء الصيام و قبل الحديث عن الموضوع لابد من تقرير الآتي :

أولا: أن الفم ليس جوفا بالإجماع -  بدليل جواز المضمضة ولو كان جوفا معتبراً مفطراً لما جازت

ثانيا: ليس هناك نص يُحرّم استخدام السواك و الفرشاة في رمضان بل العكس فالأمر بالسواك عام فهو آكد عند الصلوات وعند تغيير رائحة الفم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) (عود قريب من الأراك إلا أن قشرته بنية اللون)

 (2) (عيدان رفيعة صغيرة مجتمعة ومرتبطة بأصل واحد طيبة الرائحة)

 

ثالثا:  العلة في استخدام السواك هو الرائحة الكريهة ومن قال بكراهته في الصيام هو اجتهاد ليس إلا .

رابعا:  هل رائحة الفم من الصوم أم من النوم؟ و مصدرها من جوف المعدة الخالية أم من الأسنان ؟

 

و الجواب هنا هو الدليل العملي فإذا استخدم السواك أو الفرشاة زالت الرائحة , و الدليل الواقعي كذلك عندما يتسحر الإنسان ويأكل في أي وقت وينظف أسنانه يبقى فترة لا تخرج رائحة ولو بقي صائماً

بينما مجرد أن يستيقظ الإنسان من نومه تخرج الرائحة سواء كان صائماً أم مفطراً فليس هناك علاقة متلازمة بين رائحة الفم  والصوم .

إذاً الرائحة الكريهة هي رائحة النوم وليست رائحة الصوم

ومن هنا نفهم الحديث (خلوف فم الصائم ) - والذي كان بعض المشايخ  يُحرجون بشرحه - هو رائحة المعدة الخالية التي تخرج عن طريق الفم وليست رائحة تخمرات الأسنان

وهذا ما أكد عليه مجموعة من كبار أطباء الأسنان  أن الرائحة الكريهة تنبعث نتيجة تخمرات في الفم بعد فترة مهما نظف الإنسان أسنانه وتزيد هذه الرائحة إذا لم ينظف أسنانه . أو لأسباب تتعلق باللثة والأضراس المريضة ,

وإن الإيذاء يحصل للآخرين عند الكلام معهم  بانبعاث الرائحة دون تنظيف الأسنان و الإيذاء حرام في ديننا , وعلى فرض أن السواك مكروه في الصيام  فأيهما نقدم : ترك الحرام  أم  الكراهة ؟ كيف ورسول الله r يؤكد على استخدام السواك , وقد أخبرني بعض الإخوة الذين يعيشون في أوروبا كم يُحرجون أثناء الحديث مع الناس آخذين بفتوى الكراهة , فهل إيذاء الآخرين من ديننا ؟ كلا وألف كلا , لكنه الفهم الخاطئ (للخلوف) (أو خطأ في اجتهاد معذور مأجور) .

يجب أن نختار من الاجتهادات ما فيه مصلحة الفرد والأمة وما يدعو إلى الألفة و المحبة والوحدة

 فاتباع السنة واجتناب الحرمة بالإيذاء - و الحرص على العلاقة أولى من اتباع اجتهاد يوقع الناس في الحرج وربما النفور .

فلأن يتعبّد المسلم ربه بالسواك  أو ما ينوب عنه, خير من أن يتعبّد الله  بترك السواك احتياطا - فيؤذي  الآخرين برائحة الفم.

ولا أعلم عالما حرّم استخدام السواك و معجون الأسنان عند الصيام بل يقولون الأحوط , وأيهما أوْلى ؟ الأحوط  في ترك السواك والفرشاة ؟ أم الأحوط (بل الواجب ) في ترك الإيذاء وبقاء العلاقة طيبة ؟؟؟

الأوْلى ترك المتفق عليه أم ترك الخلاف ؟؟ لا شك أن تجاوز الخلاف أولى ،  و فعل ما يمنع الإيذاء أوجب .

 

أخي المسلم : لا أراك بعد اليوم تترك عود الأراك ، ولا تؤذي سواكَ بترك السواك

 

 

 

الختمة في تراويح رمضان

ومازالت الختمة في رمضان (والتي هي من الفضائل العظيمة)محل جدل بين المؤيدين والمعارضين

فأما المؤيدون : فحجتهم أن رمضان شهر القرآن وفرصة عظيمة لا تعوض وخاصة بعض الناس لا يسمعون القرآن للأسف - إلا في رمضان فضلا عن أمور كثيرة تشجع على الختمة

وأما المعارضون : فحجتهم أن التطويل في صلاة الجماعة مخالف للسنة لما ورد ( مَن أمّ فليخفف ) وصلاة التراويح كلها سنة لم يواظب عليها رسول الله r فمن باب أوْلى الختمة

إضافة إلى أسباب أخرى مثل الأعمال والوظائف المستحدثة في هذا الزمان لم تكن سابقا وخاصة في البلاد التي يعملون فيها في الليل (ولسنا الآن بصدد مناقشة مساوئ العمل في الليل)

وهذه بعض الخواطر علّها تفيد في حل هذه المشكلة الدائمة ولابد ابتداء من التفريق بين العبادة الفردية والعبادة الجماعية

فأي شيء في محله محمود وأي شيء في غير وقته مذموم وربما مرفوض

أما على مستوى الفرد فللمرء أن يقرأ ما يشاء ويطيل ما يشاء ويتأخر كما يشاء مالم يؤثر على واجب عليه في النهار  

بينما العبادة مع الجماعة تحتاج لمراعاة أمور كثيرة وهذه هي السنة فرسول الله r كان يخفف مع الجماعة مقارنة بصلاته منفرداً حيث كان يقوم الليل بالسور الطوال حتى تتورم قدماه عليه الصلاة والسلام , كما ورد في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة t أن رسول الله r قال : ( إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن منهم الضعيف و السقيم و الكبير و إذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء ) متفق عليه

وإذا كان هناك رغبة في ختمة القرآن في التراويح لابد من ثلاثة أمور يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار أسميتها ((ثلاثية الختمة)) إذا تحققت فنعمّا هي وإلا فلا .

  ثلاثية الختمة (الإمام ، أهل الحي ، المسجد)

أولا : الإمام

علينا أن نسأل أولا : هل هناك إمام مؤهل لذلك ؟ نعم وإلا فلا .

ويتعلق به ثلاثة أمور :

1)      الحفظ : لأن كثرة الأخطاء تزهد المصلين بل تزعجهم وقد يقول قائل نحل هذه المشكلة بالقراءة من المصحف

2)      الإتقان : إذا لم يتقن الأحكام فلا ، وسوف يرى اعتراضاً  كثيراً , ويُغَض النظر عن هذه إذا لم يكن وراءه أحسن منه تلاوة , وكان الإمام أقرأ الموجودين .

3)      الصوت الجميل: الناس بطبيعتها وفطرتها تميل إلى الصوت الجميل مما يشجع على الختمة ، وليس حُسن الصوت شرطاً ولكن الناس ربما تملّ من غيره.

ثانيا : أهل الحي

ثم نسأل السؤال الثاني : إذا ضمِنّا كفاءة الإمام  هل مَن حوله موافقون ؟ نعم وإلا لا يُقدِم ، ولابد من التفاهم معهم.

ويتعلق بالموضوع ثلاثة أطراف:

1)      صاحب المسجد : إذا كان المسجد خاصّاً أو أهلياً وسواء كان صاحب المسجد قريباً أم بعيداً (أو وكيلا) باعتباره المنفق والقائم على المسجد فليس من الحكمة أن يعارَض فإذا رضي وإلا فلا . وكم من صاحب مسجد غيّر الإمام لعدم التفاهم بينهما

2)      المؤذن : إذا ساءت العلاقة بين الإمام والمؤذن تتعرقل كثير من الأمور ومهما كان وضع المؤذن وشخيصته ومكانته في المسجد  فمشاورته فيها خير

3)      وجهاء الحي ورواد المسجد الدائمين : فمن الحكمة أن يدخلوا كذلك في المشورة في أمر الختمة وإلا يقع الحرج وربما يغادرون مضطرين لمسجد آخر وربما تسوء العلاقة والمفروض أن تبقى وتقوى مقابل سنة مختلف عليها .

ثالثا : المسجد

فإذا توفر الأمران الأولان ننظر إلى وضع المسجد ويتعلق به ثلاثة أمور كذلك :

1)      مكان المسجد : هل هو على الطريق؟ هل هو في محطة لتعبئة الوقود ؟ في المطار في السوق .. ؟  كل هذه الأماكن يناسبها التخفيف لتذهب الناس إلى مصالحها وإلا يتركوا ويهجروا  - ومرة دخل أحد الأخوة في مسجد قريب من المطار ليصلي وكادت أن تطير الطائرة وهمّ بترك الصلاة لطولها    وفيما عدا ذلك من المساجد فلا بأس أن يختم الإمام.

 

2)      خدمات المسجد : من مرافق نظيفة وتبريد مقبول في البلاد الحارّة أو تدفئة في الأماكن الباردة ومياه الشرب وكذلك مواقف للسيارات وغيرها من الخدمات , كل ذلك يرغّب الناس بالبقاء للختمة.

 وهذه خدمات نسبية حسب البيئة والبلد ومستوى المعيشة . فقد يصبر البعض دون الالتفات لهذه الأمور , وله ذلك ، والأجر على قدر المشقة .

لكن هذه مرغبات ومشجعة على الختمة وليست شرطا .

3)      حجم المسجد وعدد المصلين : كلما كان عدد المصلين كبيرا لا يظهر المعارض و المنسحب بخلاف العدد القليل فقد تحدث مشكلة مع من لا يريد ختمة .

فإذا توافر في المسجد كل ذلك وكان المسجد مقصوداً معروفاً مشهوراً فليختم

إذا تمت الموافقة على الختمة أو عدمها فالقرار سهل أما اذا اختلفوا وهذا هو الغالب فيحتاج الأمر الى حكمة , ومن الحكمة تفهّم للوضع أكثر

وتغليب المصلحة العامة و مراعاة الأولويات و قد يقول قائل إن الأكثرية في المسجد يريدون ختمة, نعم ولكن لا يخلو من منغصات وانتقادات

 و حسم الموضوع يكون من صاحب المسجد أو وكيله ولا يعني هذا إرضاؤه على حساب الدين , بل المصلحة العامة تقدم , ليس على سنة متفق عليها بل على ختمة يمكن أن تتم بطريقة أخرى

ولا ينبغي أن يكون الحسم من قبل الإمام حتى لا يسبب عداوة لطرف , وما أكثر النفوس المريضة وعلى الإمام أن يراعي ويرغّب ويسدد ويقارب ويترك الأمر لصاحب المسجد أو الوجهاء في الحي

وقد يقول قائل لماذا كل هذا التعقيد في أمر الختمة ؟!

أقول : هي ضوابط لنزع فتيل الخلاف والجدال وتثبيت أواصر الألفة والمحبة لأنها الأهم

وغالبا ما يكون الخلاف في الخيار بين  ختمة بركعات قليلة مطمئنة  أم ركعات كثيرة وقراءة قليلة , وقراءة تدبر بطيئة أم قراءة سريعة (1) ( قراءة الحدر) لاختصار الزمن وإنهاء الختمة

كل ذلك يرضاه الله إذا صلحت النيات ولكن إرضاء الناس غاية لاتدرك

لذلك تشاوروا وسددوا وقاربوا

فإذا تمت هذه الأمور الثلاثة (الإمام , والمسجد , وأهل الحي) فلا يتردد بالختمة ، خاصة إذا كان الإمام مشهوراً مقصوداً والمسجد كذلك مقصود فالناس تتحمل وتصبر على السلبيات الأخرى والتي لا تؤدي إلى مشاكل فلا بأس .وإلا فلا يكابر الإمام أو أحد من الراغبين ويحرج الآخرين,

والإصلاح و توحد الكلمة وشيوع الألفة والمحبة خير من القيام بعبادة مختلف عليها أصلا

وأما ما يقوم به بعض الأئمة الناشئين بحجة التدريب والمراجعة في بعض المساجد الصغيرة, يخشى أن يكون من تزيين العمل, فيأثم من حيث يريد الأجر , والتدريب والمراجعة تتم بدون ختمة كاملة

وهذه صور ونماذج لختمة القرآن متدرجة في التيسير يُختار منها حسب الحال:

1-                ختمة في التراويح ثم ختمة أخرى في التهجد

2-                ختمة واحدة في التراويح مع التهجد

3-                ختمة واحدة في التراويح مع التهجد والصلوات الجهرية

4-                ختمة خاصة بالإمام يقرأ ما يتيسر من أول كل جزء ثم يكمل الجزء وحده في البيت  وهكذا في كل جزء ثم يختم آخر يوم إماما بالناس

5-                ختمة كاملة خلال السنة في الصلوات الجهرية ويكمل آخر أجزائها في رمضان .

6-                ختمة مع من يريد من أهل الحي في حلقة بعد الفجر أو بعد العصر أو أي وقت يناسبهم

7-                ختمة فردية شخصية ويُفترض أن يحرص عليها كل مسلم في رمضان .

 

وأعيد القول: إن قراءة القرآن في رمضان وكثرته من أعظم القربات

ولكن هذا على مستوى الأفراد

أما على مستوى الجماعة فلا بد من التصرف بحكمة والحرص على العلاقة الطيبة

وإذا كان الكذب على قبحه يجوز في إصلاح ذات البين فكيف نفسد العلاقة في مسائل خلاف , وهذا للأسف يحصل , وظاهره اندفاع لتطبيق سنة , (لكن يخشى أن يكون فيه حظ نفس وحب الظهور. )

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ويستثنى من ذلك القراءة السريعة غير المفهومة

 

 

وتطبيق السنة في إشاعة المودة بين المسلمين ,والحفاظ على تآلفهم أولى .  و الله أعلم ..

والحمد لله رب العالمين

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين