(رَمَضانُ شَهْرُ التَّوبَةِ)

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فإنَّ من أعظم نعم الله عزوجل على عباده أن فتح لهم باب التوبة والرجوع إليه سبحانه، (فالله تعالى أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من رجل فقد دابته وأشرف على الهلاك ثم وجدها) أو كما جاء في صحيح مسلم.

وقد دعا الله عباده إلى التوبة في القرآن مهما عظمت ذنوبهم، وجلّت سيئاتهم ووعدهم بقبول توبتهم، وتبديل سيئاتهم إلى حسنات، قال تعالى: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 70].

ولكن قد يقول قائل: التوبة ليس لها وقت محدد، ومحلها العام كلّه، فلماذا تقولون رمضان شهر التوبة؟

الجواب: إن المتأمل في آيات الصيام يجد أنها ختمت بقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]. وهذه الآية نزل جواباً لسؤال سأله أحد الصحابة قال: يا رسول الله, أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} لأنه تعالى الرقيب الشهيد المطلع على السر وأخفى، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهو قريب من داعيه يستجيب دعاءه ويقبل رجاءه ويقبل عليه، (من تقرب إليه شبراً تقرب الله منه ذراعاً ومن تقرب منه ذراعاً تقرب الله منه باعاً، ومن جاءه يمشي أتاه هرولة). وقال العلماء تعقيباً على هذه الآية: الدعاء نوعان: الأول: دعاء عبادة (الدعاء مخ العبادة)، والنوع الثاني: دعاء مسألة، والتوبة مندرجة تحت هذا النوع، ووعد الله بقبولها: [أجيب دعوة الداعي إذا دعان..]. ويؤيد هذا التفسير ما جاء في الآية التي تليها من ذكر التوبة، قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ} فعطف الحديث عن أحكام الصيام أيضاً بقوله: {فتاب عليكم وعفا عنكم} فرمضان شهر التوبة والغفران، كما هو شهر القرآن، فاقبلوا على الله فيه وتعرضوا لنفحاته، وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.

فرمضان من أعظم مواسم التوبة والمغفرة؛ وتكفير السيئات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلواتُ الخمسُ، والجمعةُ إلى الجمعة، ورمضانُ إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر). رواه مسلم

وهنا أريد أن أتوقف أيضاً عند قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 17-18] والتوبة من قريب هي التوبة في الصحة قبل المرض، والقريب ما كان في الصحة قبل مرض الموت، وهنا إشارة لطيفة: أيها الإنسان بادر إلى التوبة إلى الله في صحتك قبل مرض، ولا تسوف، وتقول سوف أتوب في العام القادم، فربما لا يأتي عليك العام القادم، فاغتنم شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك، فهذا فرعون عندما أدركه الموت قال: {آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]، فماذا قال له المولى تبارك وتعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} فلم تقبل توبته؛ لأن إذا بلغت الحلقوم، أو طلعت الشمس من مغربها أغلق باب التوبة أمام العبد، ففي تلك الساعة: {لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]. فبادر أيها العبد المؤمن إلى التوبة فبابها مفتوح أمامك في رمضان، فرمضان تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار وتصفد الشياطين، اقبل على مولاك واسأله التوبة والصفح والغفران فـ {هو الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}[الشورى: 25].  

وفي الحديث القدسي: يقول الله عزّ وجل: يا عبادي! إنكم تُخطئون بالليل والنَّهار، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعاً، فاستغفروني أغْفر لكم. رواه مسلم

وفي الحديث الآخر: يا ابن آدم؛ لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك ولا أُبالي، يا ابن آدم! إنك لو أتيتني بقُرَاب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تُشرك بي شيئاً، لأتيتك بقُرابها مغفرة. رواه الترمذي

والله سبحانه وتعالى علّق فلاح الإنسان على التوبة، فقال: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} [النور: 31]. وقسم العباد إلى تائب وظالم، فقال سبحانه: {ومن لم تب فأولئك هم الظالمون} [الحجرات: 11].

ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقول: (أيها الناس؛ توبوا إلى الله واسْتغفروه، فإني أتوبُ إلى الله في اليوم مائة مرة) رواه مسلم.

فبعض الناس يتوب من الكبائر، وبعضهم يتوب من الصغائر، وبعض الناس يتوب من الغفلة عما سوى الله تعالى، فكل بحسب منزلته ودرجته عند الله سبحانه تكون توبته.

فنحن بعد الصلاة نقول: (أستغفر الله وأتوب إليه) فممَّ نستغفر وقد كنا في عبادة؟ الجواب: قال العلماء: لعلنا أحد يشرد في صلاته ولا يتفكر في الآيات التي قرأها، فيتوب من شروده وغفلته عن الله في العبادة. فكما أن المصلين ليسوا درجة واحدة، فكذلك الصائمين ليسوا درجة واحدة، فهناك من يصوم عن الطعام والشراب، وهناك من تصوم جوارحه عن المعاصي، تصوم عينه عن النظر للمحرمات، ويصوم لسانه عن الفحش، وهناك من يصوم قلبه عن الغفلة عما سوى الله سبحانه وتعالى، كما قال أبو بكر الشبلي رحمه الله تعالى:

ذكرتك لا أنّي نسِيتُكَ لمحــــــــــــــــــــةً *** وأيسَرُ ما في الذكرِ ذكرُ لساني

وكِدتُ بلا وَجدٍ أموتُ من الهوى *** وهام عليَّ القلبُ بالخفقــــــــــــانِ

فلما أراني الوجدُ أنَّكَ حاضــــــري *** شَهِدتُكَ موجوداً بكل مكانِ

فخاطبتُ موجوداً بغير تكــــــــــلّم *** ولاحظت معلوماً بغيرِ عيـــانِ

فشهر الصيام قد جاءنا ضيفاً عزيزاً فعلينا أن نكرم وفادته، فالله سبحانه جعل صيامه وقيامه إيماناً واحتساباً مكفراً للذنوب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا ؛ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ). رواه البخاري. وفي الحديث الآخر: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا ؛ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) رواه البخاري.

فالعبد يجد من لذة العبادة في رمضان ما لا يجده في غيره من شهور السنة، فأبواب السماء مفتحة، وأبواب النار مُغلقة، والقلوب مقبلة على الله عزوجل، ودواعي الشر مضيقة، والشياطين مصفدة، وكل ذلك مما يعين المرء على التوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.

فالمحروم من حرم خير هذا الشهر، وتعس من أدرك رمضان فلم يغفر له،  قال صلى الله عليه وسلم : (رَغِم أنفُ رجلٍ ؛ دخلَ عليه رمضان، ثم انسلخ قبل أن يُغفر له). رواه الترمذي.

وإذا كان الله عز وجل قد دعا عباده إلى التوبة الصادقة النصوح في كل وقت وزمان، فإن التوبة في رمضان أولى وآكد كما أسلفنا، لأنه شهر تغفر فيه السيئات بكثرة الأعمال الصالحات؛ شهر تُسْكَبُ فيه العبرات في الصلوات والتلاوات، وتقال فيه العثرات، وتُعتق فيه الرقاب من النار، ومن لم يتب في رمضان ؛ فمتى يتوب؟!

فالتوبة وتفريغ القلب عما سوى الله تعالى، شرط لتلقي النفحات ونزول الرحمات في هذا الشهر الكريم، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (قبول المحَل لما يوضع فيه؛ مشروطٌ بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه يكون في الذوات والأعيان، فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات فلذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والأنس به، لا يمكن شَغْله بمحبة الله؛ وإرادته وحبّه والشوق إلى لقائه، إلا بتفريغه من تعلّقه بغيره).  

 فحريٌ بنا أيها الصائمون ونحن في هذا الشهر المبارك أن نتخفف من الأوزار، ونقلع عن المعاصي والموبقات، ونتوب إلى الله توبة صادقة، وأن نجعل من رمضان موسماً لإصلاح أعمالنا وأقوالنا، وتصحيح مسيرتنا، ومحاسبة نفوسنا؛ والعودة إلى ديننا القويم؛ والاستقامة على صراطه المستقيم، { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 147]. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين