من هدي القرآن.. الجهل والكبر

كتبت سيدة سورية فاضلة على صفحة الفيس بوك خاصتها قائلة: "في طول الفيسبوك وعرضه وعلى مدى 12 عاما.. لم أقرأ شيئا منشورا عن معاداة الإسلام وكراهيته وسباب أهله- مليار وربع المليار من البشر- والنيل من شريعته، وإهانة نبيه وكتابه وتعاليمه، وإزدراء تاريخه، والاستهانة بقدرته على الفعل فيما مضى، أو في قادم الأيام.. إلا وكان ما يكتب قد كتب تحت عنوانين عريضين لا ثالث لهما: الجهل المربع، والحقد الأعمى الاصم. وللعلم حرر.."

 

علقت قائلا وقد نبهني منشورها:

قرآننا نبراس لنا.. اقرأ.. الذي علم بالقلم.. ثمّ، أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.. جهل؛ وحقد متكبر.

 

ثم كان أن خطرت لي قصة خلق أبينا آدم عليه السلام في أول سورة البقرة وما قالته الملائكة سلام الله عليهم في شأن خلق الله سبحانه للخليفة في أرضه وامتناع إبليس عن الاستجابة لأمر الله سبحانه بالسجود لآدم عليه السلام.

 

(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) البقرة: 30

 

هي إذا إرادة الله سبحانه أن يخلق خليفة في هذه الأرض فكان قول الملائكة وكأنهم نسبوا إلى أنفسهم علما لا يعلمونه؛ أو توقعوا، ممّا علموه، أنّ أمرا سيحصل؛ وهذا من محدودية العلم المكتسب الناقص، علم أيّ كان سوى الله العليم الخبير. ومن ثمّ قالت الملائكة قولا من علمها المحدود بينما الله سبحانه هو العليم.. مطلق العلم. ولذا نرى ختام الآية قول العليم الحكيم "إنّي أعلم ما لا تعلمون".

 

وتتبع آية خلق الخليفة آية تعليمه الأسماء كلها..

(وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) البقرة: 31

 

وكأنّ العلم الذي علمه سبحانه لخليفته في أرضه هو شرط الاستخلاف وأساسه، وبدونه قد يكون شيئا آخر.. مثل حال الملائكة الكرام (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) التحريم: 6

 

لعل للمرء أن ينظر في طبيعة العلم الذي علمه المولى سبحانه لخلقه ويقول هو علم الخلافة وعلم التعمير وهو العلم الحق؛ وليس بالضرورة والحصر والتقييد علم العبادة فالأخير قد قد وهبه سبحانه وتعالى ملائكته المقربون..

 

بل يعلمنا القرآن (تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا) الإسراء: 44

 

ويعلمنا (ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٞ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ) فصلت: 11

 

ويعلمنا (إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا) الأحزاب: 72

 

فالسموات والأرض وما فيهن وجميع ما خلق الله يسبحون الله ويمجدونه ويسجدون له وينقادون ويخضعون بإرادة الله سبحانه وأمره وعلمه وحكمته فلا علم إلا علم الامتثال والاستجابة والطاعة وعلم التسبيح والتمجيد.. إلا الإنسان فله شأن آخر، هو شأن العلم الذي علمه الله إياه ليعمر الكون. 

 

هو العلم الحق الذي هو شرط الاستخلاف ويحقق مقصده. هذا العلم هو الذي يفرق بين علم الملائكة الكرام وجميع ما خلق الله سبحانه، على ما تخبرنا به آيات القرآن الكريم كما أوردنا، وعلم الإنسانية.. علم عمارة الكون وبناء القوة واستثمار الطاقات واقرأ إذا شئت آيات القرآن الكريم التي تتحدث عما تفضل به المولى سبحانه على رسوليه داود وسليمان عليهما السلام من نعم وعطايا ليس لأحد غيرهما من العالمين.

 

واقرأ إذا شئت ما حكاه الله سبحانه على لسان نبيه يوسف عليه السلام طالبا من ملك مصر تفويضه بشؤون البلد (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) يوسف: 55؛ طلب ولاية تيسير أمور مصر وناسها بالحفظ والعلم، علم الحساب وعلم الألسن وعلم حفظ خيرات البلاد وحسن إدارتها.

 

ثم لك أن تقرأ ما جاء في سورة الكهف عن قصة ذي القرنين.. (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا) 84-85 (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) 95. تمكين من الله تعالى ومدّ بالوسائل ثم إقرار من ذي القرنين بهذا التمكين ورده إلى الله سبحانه على نقيض إبليس الذي جهل واستكبر.

 

ثم تنتقل الآيات الكريمة وقد قررت محدودية علم الملائكة وإقرارهم عليهم السلام بتلك المحدودية.. (قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) البقرة: 32

كما قررت علم الله المطلق.. (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) البقرة: 33

 

تتحول الآيات بعد ذلك إلى موضوع آخر متصل بالعلم من ناحية ومنفصل عنه من أخرى. إذ لو علم إبليس حقيقة الاستخلاف لكان خضع وانقاد وأقرّ كما فعلت الملائكة الكرام. تمايز إبليس عن الملائكة لا بمحدودية العلم، بل ببعد آخر هو مقرر بين الحق والباطل؛ بين الطاعة والمعصية؛ بل بين الإيمان والكفر.. هو هذا الاستكبار المولد للحقد الأبدي من جنس إبليس نحو بني آدم..

(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) البقرة: 34

 

وفي سورة ص نقرأ قوله تعالى:

(إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76))

ونقرأ في سورة الحجر:

(قَالَ يَٰٓإِبۡلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ ٱلسَّٰجِدِينَ (32) قَالَ لَمۡ أَكُن لِّأَسۡجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقۡتَهُۥ مِن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ (33) )

 

في قصة إبليس جهل وتكبر! جهل أن جعل علمه المحدود القاصر هو الحكم على الأشياء، بل -والعياذ بالله- على إرادة الله العزيز القهر.. فالله سبحانه وتعالى أراد جعل خليفة له في أرضه وشاء سبحانه بعلمه الأزلي وهو العليم الخبير وقدرته وهو القادر والقدير أن يكون هذا الخليفة خلقا من طين؛ في حين يتكبر اللعين إبليس على علم الله سبحانه وعلى أمره وقضاءه، فيحكم بعلمه القاصر المحدود على العليم الخبير.. ثم هو يتكبر ويستعلي ويأبى الانقياد والإذعان لأمر المولى سبحانه استكبارا وبغضا وحسدا..

 

ولنا أن نتابع في سير الرسل الكرام وفي سيرة سيد الرسل الكرام نبينا صلى الله عليه وسلم عبر آيات القرآن الكريم لنرى تمكّن الجهل والاستكبار من الكفرة الجاحدين لرسالات الله سبحانه وأنهما الأساسان والسببان الرئيسان في الصدّ عن أمر الله تعالى والتعالي على الأنبياء عليهم السلام والازدراء بالمؤمنين أتباع الرسل على مر الزمان.

 

فها هم قوم نوح عليه السلام جهلا واستكبارا يخاطبون نبيهم: (فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) هود:27 أي علم علموه بأن رسل الله ليسوا من البشر! بل هم يخرصون. ثم بعد أن بيّن لهم حقيقة رسالته ودعوته وأنه ليس إلا نذير مبين (قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) هود: 32 جهلا منهم واستكبارا يتهمون نبيهم بالجدال ثم يستعجلونه عذاب الله سبحانه! وهل بعد هذا جهل وهل بعده استكبار!

 

ونقرأ في سورة الأنبياء، الآية 41 قوله تعالى مخاطبا نبيه الكريم:

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون)

 

ونقرأ الآية رقم 34 من سورة الزخرف مبينة استهزاء مشركي مكة من النبي عليه الصلاة والسلام:

(وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)

 

كما يبين لنا القرآن الكريم أنّ احتقار الكفرة للمستضعفين أمر متوارث ومعروف إذ يرفض قوم نوح عليه السلام الاستجابة لنداء نبيهم بذريعة:

(قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ). الشعراء: 111

 

والآيات القرآنية في الباب كثيرة ووافرة وللقارئ الكريم أن يمر على سور يونس وهود والأنبياء والفرقان والشعراء والزخرف، بين سور قرآنية أخرى، ليطلع ويدرس المزيد عن النسق الواحد عبر تاريخ الرسالات من الاستكبار والصد عن دعوات الأنبياء جهلا واستكبارا واستهزاء بالمستضعفين من أتباع الدعوات وبالأنبياء والرسل على السواء.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين