نعمة بلوغ رمضان

وقفت أمام نافذة غرفتها تتطلع إلى القمر وقد اكتمل بدراً في هذه الليلة المباركة من ليالي شعبان، كان نوره هادئاً، صافياً ولامعاً كالفضة، لكنه ينتشر في السماء مخففاً من ظلمة الليل الحالكة، حاملاً معه تباشير الأمل والانشراح لمن يراه.

 

كان عالياً متألقاً وكأنه ينظر ويتطلع إلى أهل الأرض يعلن عن عبودية دائمة لا تنقطع لله تعالى الذي خلقه وأناره، وهداه وسخره، وحباه من جمال المنظر ونور الوجه ما حباه.. تذكرتْ معه أياماً مضت أطلت فيها على سمائها أهلة كثيرة كسنوات عمرها، هلال يأتي وهلال يرحل، وما بين الهلالين نفوس تأتي ونفوس ترحل كذلك، فتساءلت في نفسها: ليت شعري هل يبلغني الله تعالى شهر رمضان الذي اقترب؛ لأنعم فيه بالصوم، وأسعى إلى القرب، وأفوز بليلة القدر؟ رفعت كفيها بضراعة داعية الله سبحانه لها ولكل أحبابها: اللهم بلغنا رمضان.

 

إن هذا الشهر الفضيل؛ رمضان، سيد الشهور جميعاً، فقد اختاره الله تعالى وفضّله عليها، ومنحه من العطايا والهبات ما لم يعطِ شهراً غيره، فبعث فيه نبيه صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى العالمين، وأنزل عليه وحيه في ليلة من لياليه، وجعلها خير الليالي، واختصه بفريضة الصوم التي هي ركن من أركان الإسلام، وحثَّ عباده على إحياء نهاره بالذكر والعبادة والدعاء وسائر القربات، وقيام لياليه بصلاة التراويح، فأيامه ولياليه كلها رحمة ومغفرة وعتق من النار، والعبادة فيه أيسر وأحَب إلى النفوس المؤمنة.

 

ورمضان سيد الشهور حيث ضاعف الله تعالى فيه أجور الصائمين العاملين، ووعدهم بدخول الجنة من باب الريان الذي لا يدخل منه أحد غيرهم، كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «في الجنة ثمانية أبواب، فيها باب يُسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون» (رواه البخاري)، فشوَّقهم إلى القيام بمقتضيات ذلك، من الصبر على لسعة الجوع وظمأ العطش، والعمل على تصفية صيامهم من الشوائب التي تكدره، والأكدار التي تشوبه، والأعمال التي تفسده؛ حتى يتعانُق صيام بطونهم مع صيام قلوبهم وجوارحهم.

 

ولأنه سيد الشهور، فإن القلوب فيه تلين وترق؛ فتسعى إلى صلة الأرحام، وإطعام الطعام، وتفطير الصائمين، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، ومد يد العون لكل ضعيف يحتاج عوناً يتقوّى به على طاعة الله عز وجل.

 

نعمة بلوغه

إن فضائل هذا الشهر المبارك وتفضيل الله تعالى له؛ جعلت له في نفوس المؤمنين مكانة عالية ومنزلة عظيمة، يتلهفون لمجيئه، وينتظرونه من العام إلى العام، يتحرقون شوقاً لبلوغه، ويدعون الله تعالى أن يكرمهم ويبلغهم إياه وهم في عافية بدن وطهارة نفس، ولِمَ لا يبلغ الشوق مداه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل رمضان فُتِّحت أبواب الجنة، وغُلقت أبواب جهنم، وسُلسلت الشياطين» (رواه البخاري)، فاللهم بلغنا رمضان.

 

لِمَ لا ندعو الله ونلح في الدعاء أن يبلغنا رمضان ونحن نرى ونسمع عن الكثير ممن ماتوا وانتهت آجالهم في طرفة عين، من شهداء الزلازل، و«كورونا» وغيرها من الأمراض، فلم يكتب الله لهم بلوغ رمضان الذي اقترب؛ فندعوه دعاء الصادقين الخاشعين المخلصين، راجين أن يبلغنا رمضان، وأن يمنّ علينا بصيامه وقيامه، وينعم علينا ببلوغ ليلة القدر، والفوز برحمة الله ومغفرته التي بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم الصائمين القائمين فقال: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» (رواه البخاري).

 

إن المؤمن يستغل ساعات عمره فيما يقربه إلى الله عز وجل، ويغتنم مواسم الخير ونفحات الله تعالى، لذا فهو يرجو ربه أن يبلغه شهر رمضان، وينوي خيراً حتى يحسن استقباله، فإن الطريق إلى هذا الشهر الفضيل يحتاج إلى زاد يعين السائر على سيره والوصول إلى محطته بخطى ثابتة، كما أنه يحتاج إلى همة ونشاط في التزود دون كسل أو فتور.

 

وحتى يصل المسافر إلى محطة رمضان بسلام نفس وعافية قلب، لا بد له أن يَحط رحاله للتزود في محطة شعبان التي هي ألصق المحطات بالشهر المبارك (رمضان) وأقربها منه، والذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ منه زاده فيصوم أكثره كما قالت عائشة رضي الله عنها: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشهر من السنة أكثر صياماً منه في شعبان» (رواه مسلم)، وسأله أسامة بن زيد رضي الله عنه: يا رسول الله، لم أرَكَ تصوم شهراً من الشهور ما تصوم من شعبان؟! قال: «ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم» (رواه النسائي)، فصوم بعض أيامه يمهد لصيام رمضان ويوحِي بالاستعداد لاستقباله، كما أنه يذكّر المسلم بفريضة الصوم ويدرب على آدابه وأخلاقه.

 

الاستعداد والعزم

من كان يرجو بلوغ رمضان فعليه أن يستعد لذلك بصدق النية وعزم القلب على صيامه الصوم الحقيقي الذي لا لغو فيه ولا رفث ولا صخب، الصوم الذي يجتنب فيه الصائم أكل الحرام، ويحرص معه على أداء الحقوق إلى أهلها، والتخلق بأخلاق الصيام، كالصبر والرحمة والجود والعفو والإحسان، فكم من صائم قد بلغ رمضان ظاهراً وهو في الحقيقة لم يبلغه، وفي مثله يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورُبَّ قائم ليس له من قيامه إلا السهر» (رواه النسائي).

 

والاستعداد لرمضان يحتاج منا إلى دعاء الله عز وجل والاستعانة به، وأن نتجمل بالصدق والإخلاص والعزيمة، ونتحلى بالهمة العالية والسعي إلى معالي الأمور؛ لذا فإن علينا قبل بلوغ رمضان أن نستعد له استعداد المحبين، وذلك يكون بالتوبة النصوح التي تخرجنا من ذنوبنا وتعيدنا إلى ربنا، قال الله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: 31)، وأن نعقد العزم صادقين على أن يكون صومنا أفضل مما سبق، وعملنا أزكى وأحسن.

 

ولنغتنم الفرصة قبل فواتها، ونستثمر أعمارنا قبل انقضائها، فهناك من يتمنى العمل فلا ينال مُناه، وقد أخبرنا الله تعالى بذلك فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {9} وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ {10} وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المنافقون).

 

فاللهم لا تحرمنا نعمة بلوغ رمضان.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين