وتكلمت البهائم

   على غير العادة، تكلَّمَت حيواناتٌ مع البشر، ونقل إلينا الواقِعَةَ سيدُ البشر، في حديثٍ عجيبٍ شَيِّقٍ يُحدِّثُ به أصحابَه الذين شَهدوا معه الصلاةَ ذاتَ فجر.

 

   ليست من القَصص الرمزية التي ينسجُها الأدباء في مخيلاتهم، لغايات التعليم والتوجيه وضرب المثل، بل هي حوادث حقيقية من الغرابة بمكان، جعلت السامعين يعجبون ويتساءلون: بهائمُ تتكلَّم؟!

 

وبطبيعة الحال لم يكن الحديثُ للتسلية والترويح عن النفس، بل هو درس بليغ لا تكادُ تُحصى منه العِظاتُ والعِبَر، والتي سأتناول منها نزرًا يسيرًا للغاية، بقراءة قد تبدو غريبةً بقدر ما في الواقعة من غرابة.

 

بطلُ القصة الأول بقرة، كان يسوقها صاحبُها ثم بدا له في لحظةٍ ما أن يمتطيَ ظهرَها ويضربَها بالسوط!

فتلتفتُ إليه وتخاطبه مُستنكرةً صنيعَه: "إنا لم نُخلق لهذا إنما خلقنا للحرث"!!

لقد شعرَت هذه العجماءُ بالإهانة والعار أن تُعامَل بهذه الطريقة، وهي التي تقومُ بوظيفتها التي خُلقت لأجلها خير قيام، من قِبَل آدميٍّ يبدو أنه لا يعلَم الوظيفةَ التي خُلِق لأجلها.

فكأنها تقول له بلسان حالها: أوَتخالني في نظرِكَ فرسًا مُلجَمًا تقودُه من فوق؟!

إنَّ هذا المكان لا يليقُ بي ولا يليق بك، فإنَّ الظهور التي تُمتَطى بحقِّها هي ظهور العاديات ضَبحًا، الموريات قدحا في ساحات الوغى، وإنَّ الراكبَها بحقٍّ هو ذلك الفارسُ المغوارُ الذي يخوض بها ميادين النزال مجاهدًا في سبيل الله تعالى ولإعلاء كلمته، أما من ترك الجهاد ورضيَ بالزرع فمكانه خلفَ أذناب البقر وليس فوق ظهورها، فارجع ورائي واعرف قدرَك، والزم حدَّك.

 

أما بطلُ القصة الثاني فهو ذئبٌ مُحنَّك يُظهِرُ شماتته في راعي غنمٍ جَسورٍ جَلْدٍ، استطاع أن يُخلِّص شاةً من بين فكَّيه بعد أن اختطفها ببراعةٍ من القطيع، ذلك بأنَّ الراعي كان يقظًا وشاعرًا بالمسؤولية تُجاهَ رعيته، فبالرغم من غفلته اليسيرة التي وقع فيها العدوان على أحد رعاياه فإنه سرعان ما انتبه ونهض، ولحق بالذئب وتمكن من انتشاله من عدوه واستعادته إلى حوزة القطيع بكل قوة وأمانة، ولم يرضَخ للأمر الواقع.

 

يعترف الذئب بشجاعة الراعي ويُسَلِّمُ له بنجاح عملية الانقاذ، لكنه يشعُرُ بالغيظ من فوات الفُرصة وضياع الوجبَة الشهية فيخاطبه شامتا متهكما: "هذا استنقذتها مني؟! فمَن لها يومَ السَّبُعِ يومَ لا راعيَ لها غيري؟"

لسانُ حاله: لا تفرح كثيرًا بانتصارك عليَّ اليوم، فإنه عما قريبٍ سيتولى صديقي الأسدُ المهمةَ بنفسه، ويقوم بخطف أغنامك وافتراسها أمام عينيك وأنت تنظُر، وعندها سنرى ما أنت فاعل، هل ستقوى على مواجهته واللحاق به كما صنعت معي أم أنك ستجبُن عن ذلك، فتهربَ وتتخلى عن مسؤولياتك؟!

  إنه مَلكُ الغابةِ يا هذا، وسوف يكونُ الحكمُ له وفقَ شريعة الغاب، التي لا مكان فيها للضعفاء، وسأكون في حمايته، بل من وزرائه ومقربيه، وسأتولى أنا رعاية القطيع بنفسي، وكلُّ الحرُمات ستُستَباح في كرنفال افتراسٍ بهيمي جماعي، وإنَّ غدا لناظره قريب.

 

لم يذكر لنا الحديثُ الشريف ماذا كان ردُّ صاحِب البقرة على البقرة، ولا ردَّ الراعي على الذئب، ليترُك لنا الإجابة من واقع حال الميادين، زمنَ شيوع الفتن ونزول البلاء، شاهدة على صدق النبوة.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين